سعد الصالحي - ألحَـضْــرَة..

(تبدأُ الأرضُ بعد أن تنشأَ الأسماء)

ظلوا ينقلون الرفاة من ضفة إلى أخرى.

وظلوا في شك مما لاسبيل لتخمين الغرض من أجله على غير النحو الذي تخيلوه له. تخيلوه بجسوم الأسود والفهود وأعناق النياق، والثعابين وأجنحة العقبان. وكانوا كلما نبشوا قبراً وجدوا خمس حجراتٍ ما مَــن يعثر فيها على عظام موتى.

قال آخر من خَــطَّ وحَسَبَ وأمرهُم بترك الرفاة :

-(تَــذَكَّــرُوا أن الشعر عند أسلافنا ظل يُغنى أكثر مما يُقرَأ، فلما مات المغنون، مات الشعر معهم).

وظل الجمادُ أبقى على الزمان من سواه.

كانت ضخامة الكتلة الصحراوية قد حمتهم من أخطار الغزوات الكثيفة وكفلت لهم الأمن آماداً طويلة. حتى نَجَفَتْ بهم الأرض يوماً للخلاص مما قيل عن طوفانٍ سيأتي والمدينة تكبو بين الحنجرة والسعال يحيط بها طمع الصحراويين المتفانين ولاءاً لتاج أحمر قدَّسوا على ذروته السيولَ والإخصاب والقوافل.

وعلى الرغم من كل ذلك، ظلت المدينة لا تنبو عن ذكريات أهلها بما احتفظوا لها من شعارات الأقاليم ومسمياتها القديمة، وما تضمنته القصص والأساطير عن عصورها في المتون من أحداث بعيدة، وعقائد قديمة، وتمائم بماء الورد، وأسماء، وقوائم ملوك، وألقاب توارثوها حتى اتصفت بها الدروب.. ليقدسوا بعدها ذلك المعبود بريشتين على رأسه، ومذبة أصبحت بيده كالصولجان.

ثم حملوا عصا الرعاة، واتخذوا شعاراً، وتتوجوا جميعاً بعمامةٍ حمراء. وراحوا يقْنِعون الصحراويين بأن لإله مدينتهم أثر في نشأة الوجود والموجودات، وهو رب الأرض الناهضة. متحدثين عن ماض بعيد لم تكن فيه تربة ولا سماء ولا بشر، وما من دودة أو علقة، وما من حس أو حسيس، وما من موت أو حياة... وما من نزاع أو خصام، وإنما خضم أزلي واسع حوى بين طياته كل نأمة.

هكذا أوجدوا أنفسهم بأنفسِهم ثانية ً، وأبدعوا سبيل القلب واللسان إلى الآخرين فَحَقَّ لهم الأمانُ واتجهوا لتحدي ماقيل عن الطوفان. ذلك أن الأرض يطغى عليها النهرُ فيجعل المدينة أشبه بجزيرة طافية أو نجف ناهض، فعمدوا إلى شق قناة منه ناحية الشمال، وحولوا فرعا منه إلى الغرب، وبذلك جف ماحولها وانصرفت المياه عنها. فصار النهر يحميها من الشرق، وفرعه يحميها من الغرب، والقناة تحميها من الشمال. ثم سوروها بأسوار كبيرة تحيطها من كل جانب ما خلا ناحية الجنوب التي تواجه ريف البلاد.. فقد ظلت مفتوحة للإله الذي تشاركهم مدن الجنوب الولاء له، قابعاً متربصاً تحت الأرض، راعياً للحرث والزراعة ومن يسكنون تحتها من الموتى، وكان له مزارهُ في جبانة سميت باسمه.. نــون.

(فيا من صَنَعَ البلاد والمُلْكَ في ليلة الدمعة، أنا مخلوقك، ومن ترسل بيديك مَن وراءه لتكفل له التأييد، وتهب مدنه العافية.. أنت الذي أوجدتَ اليابسة، ووهبتني الأحجار منذ القدم.. فجددتَ بها ما انهدمَ. أنت العظيم منذ الأزل، أنت الفيضان الذي يرتفع حينما يشاء)..

ذلك ما خُطَّ على صخرة كبيرة باقية في جزيرة جنوبي المدينة. منقوش عليها أسباب البلاء، ومنقوش عليها اسم كبير الرائين، واسم النبع الأول الذي يجمع ماءه من قرية على فم النهر في أقاصي الشمال. يصدر عنها كل خير، هي المهد الذي ينشأ الفيضان عنده ويتجمع. فاتحدوا جميعاً، حضراً وبدوا، على تقديم الأضاحي والقرابين تحسباً لرؤيا السبع العجاف، التي أوردها كبير الرائين عن مخلص أو خلاص يحيط بالأسباب ويسعد شيوخ البلاد وشبابها وأطفالها ويصل الرحم مبشراً بعصور مجيدة.

ويوم اهتزت الأرض والبوادي وراحت العواصف ترسل صريخا من السماء كأنه الرعد، وفوجيء الكل بالأخ الأصغر يقتل أخاه الأكبر، وبالشمس تخبو، وبالصحراويين يهاجرون إلى الشمال في الأقاصي.. حينها ظهَرَ، وحدهُ، عزيزاً فريداً، يذرأُ من صلبه ذكراً وأنثى، وفضاءً ونوراً، ورطوبةً وندىً، ثم تنكر على هيئة قط نافر قرب الشجرة المقدسة وفتك بكل قاتلٍ متنكر لأخيه بقناع الأفعوان، فتماسكتْ وحدتهم، واستقر ملكهم، وتعاقد الحلفاء بعد عودة الرعاة والصحراويين على القصاص ممن ابتغوا ضياع القديم، وأعلنوه ولدا أبديا منتقما للبشير المخلص من السبع العجاف، وبرَّؤوا الأرباب من تهمة العدوان والسماء الصارخة واتخذوا له مع الريشتين والمذبة طيراً يضم تحت جناحيه الأرض الناهضة والبوادي، ثم خلعوا روح الفن على صورته.. ورتبوا الظباء حولها كما لو كانت قد استسلمت لمصيرها وتمددت على جنوبها أمام لحيته التي تشبه لحية القدماء.. مرتديا رداءً كثيفاً يمتد من وسطه حتى منتصف ساقيه، ويلبس عمامة كالعراقيين الأوائل مؤكداً كل ذلك بمقبض سكينه التي حمى بها الرعاة وقطعانهم، واستأنست لها الأسود بودٍّ يخضعها لسلطانه.

ثم أورثهم كل الحب يوم خرج حافيا على الرغم من تاجه وصولجانه وهيئة الفحل التي يتسم بها، وهو يشير بشيء من الهدوء إلى الرعية كأنه يمتلك القلوب ويدخلها بلا استئذان. وظل طوال عمره مثارا للإعجاب حينا، ومثارا للرهبة حينا آخر لما أوتي من قوة سحرية عجلت له بالأسماء الغريبة. فمما وَرَدَ، أنه نزل المدينة أقوام من ريف الجنوب، وما أن تجلى لهم تعبّدوه لبهائه وقرب محياه من معبودهم المقدس، فأطلقوا إسمه على أبنائهم. ولعل أهل المدينة أجازوا ما أتى به أولئك الريفيون فصوروه في نصوصهم المتأخرة بما ينبي عن معنى الشبل من إله.

ويُذكر أن توسطت فناء قصره مائدة قربان ضخمة تضع الوفود هداياها عليها، وتُؤدى اليه خلال ذلك الشعائر في خمس حجرات على الجانب الأيمن، تتضمن تماثيل ملكية يتقدم الكهنة أمام كل تمثال منها بالدعوات والقرابين بإسم من أسمائه أو القابه الخمس، وتنتهي الحجرات بقدس الأقداس أو الحرم الذي لم يكن يقربه غيره رغبة في تأكيد وحدانيته وتوفير طابع الغموض والسرية فيه، قائلاً بملء الحب :

(كل صانع عمل في قصري أرضيته، أنفقتُ عليه من متاعي الحلال، ولم يحدث أن اغتصبتُ متاع شخص ما).

وقال آخرون في نصوصهم :

(أرضيتُ كل الصناع الذين أتموا لي عملا في هذا القصر بالطعام والشراب وكل شيء طيب).

وقال بعض من تولوا رياسة الأتباع والصناع :

(لم أضرب إنساناً وقع تحت يدي، ولم أستعبد أحداً في العمل).

فكان وعداً حقاً أن يندمج بين أرباب الآخرة وحكامها على أساس ما أثبت من قيامه بالعدل في أرضه ودنياه وعمله على صوالح رعاياه. وما لبث الأهلون أن حرصوا على دفن موتاهم حول قصره حتى بعد قرون من اختفائه ليؤكدوا بقاء ذكراه الطيبة بينهم، وتبركهم بمنطقته، وإبعاد سمة العتاة والمستبدين عنه.

لقد كان – وهو رأس العباد ووريث الأرباب – يتحكم في شؤون العالم الآخر، ويهيمن على مصائر أهله، فآزره الكهان في ما ادعوه لأنفسهم من قداسة وسيادة، ورددوه في نصوصهم الدنيوية والشعائرية مرار وتكرار. فآمنتْ بهذا الذي ادعاه الكهان وأهل البلاط من بعده عهود، وكفرت به عهود، وسلّمت بصحته طوائفٌ، وتجاهلته طوائف عداها.

بيد أن رفعة شأنه قروناً لم تكن مجرد جبل من الأحجار يشهد على جبروت صاحبه، فقد تضمن الآخرة بخمس حجرات كبيرة للدفن، وخمس في نصفه العلوي الذي اختفى فيه غيبةً. وكان بارعاً حين أقام خمسة سقوف يتعاقب كل منها فوق الآخر بأقل من عشرة أذرع رغبة في تخفيف الضغط عن سقفها الأول، الذي يتألف من خمسة ألواح تكاد نقوشها تحدث عن المدينة وتخبر بحالها، وتنطق عن علومها وأذهان أهلها، وتترجم عن سيرهم وأخبارهم.

ومما سُجِّل بالمداد الأحمر وثبت بعد الطوفان والسنين العجاف، أن قاعة مائدة القربان قد شيدت على جبانة سميت باسمه جنوبي المدينة. وفُسِّر ذلك من المنقبين وعلماء الآثار برغبته في اختيار أرضها - التي أحاطتها المقابر - مقراً لدنياه وآخرته كما تحدث بذلك كبير الرائين، وتناقلته قوافل الرُّحل ممن يجوبون الصحراء، وأبناء ريف الجنوب، وأمين الأختام، ومن استحبوا أن يسكبوا قطرات من الماء في الأواني الصغيرة المتصلة بمحابرهم مع التمتمة باسمه، تبركاً به، كلما هموا بكتابة أمر خطير.



نيســـــان 1999

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى