حسام المقدم - أماكن.. قصة قصيرة

آخر الليل، وبقعة زيت بجوار العربة. بقعة رغم دُكنتها قادرة على عكس الجسد المقلوب لكل قادم جديد. أرفع رأسي من مكاني بالكرسي الأمامي فأرى القوام المنعكس للبشيرالمنتظر. غالبا يأتي بالهاند باج ويدخل مهدودا مرتميا. ألتفت خلفي وأحسب الباقين. أربعة ربما أو خمسة، والسائق بوجه ناشف ينظر في الداخل ويقول: التساهيل على الله. صاحبي بجواري يتطوح رأسه مسحوبا إلى قوس دائر، يرتطم بعدها بشيء وهمي فيفيق ويعاود من جديد.
(مشوارنا بدأ من صباحية ربنا. الرجل الذي انتظرناه جاء متأخرا ونظر إلينا كأنه لا يعرفنا. بعد جفاف ريقنا دخلنا فأعطانا ورقة بها العنوان واسم الشخص الذي سيتولى أمر صاحبي.)
بدأ راكب في النزول بسيجارة تكاد أن تُفرَم في أصابعه. ثلاثة الآن يدخنون ويتحلقون بقعة الزيت. في جوف البقعة المصقول تلتمع رؤوس برتقالية للسجائر، لكن بلا ملامح للوجوه. يرجع السائق ويطلق البشارة: واحد، واحد ونتحرك إن شاء الله. يمشي قليلا ويغيب مع السياج الحديدي للموقف الخالي. رأس صاحبي فوق كتفي. استراح لهذا الوضع وأنا استكنت.
(عند الظهيرة قابلنا الرجل الثاني. غاب في الأوراق طويلا. دلَّى شفته وكلّم نفسه أو كلمنا: مشكلة! نظر لصاحبي ولم ينظر ناحيتي. خرجتُ وتركتهما معا.)
مَن يتطوع ويحاسب لهذا الباقي وننتهي؟ أوشكت أن أفعلها لولا رؤيتي لراكب يمشي باحثا في الاتجاه الذي غاب فيه السائق.
(ساعة بطولها، خرج بعدها دائخا. تأبط ذراعي وخرجنا من المكان البارد. طلب أن آخذه في جولة على مزاجي. لم ينطق بكلمة طوال المشي في الغورية والحسين. على مقهى الفيشاوي تطوع بصب الشاي من البراد الصغير. قال إن الرجل شخَّص حالته على أنها نسيان مبكر للأماكن. شيء نادر الحدوث في هذا العمر ولا يتعدى خمسة بالمائة من الحالات. التطور إلى الأسوأ وارد. ذاكرته سليمة سوى أن الأماكن تتبخر. زوجته تقول إنه ينام في الصالة ويحسبها غرفة النوم، وفي العمل تدخل به إلى مكتبه لأنه كان يتوه في اللف على المكاتب. قالت لي إنه عادي جدا في عمله وعلاقته بهم، بل وله ذاكرة طبيعية في الأسماء والأرقام.)
نصف العربة الآن حول البقعة، والسائق عاد من مكانه المجهول. دخلوا متثاقلين فامتلأت الأماكن. أدار السائق موتوره بعنف وانطلق. رفع صاحبي رأسه من على كتفي. قال بعينيه الغائبتين إن العدد كان كاملا وهم يقفون في الخارج.
***
حسام المقدم

منشورة في جريدة "القاهرة"

* من صفحة الكاتب على الفيسبوك

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى