عبدالله البقالي - هو و القدر.. قصة قصيرة

إلى الطيب الجوادي مرة أخرى


هو والقدر يعرفان بعضهما جيدا.
هو حفظه بما خصه به من نكران وجحود. والقدر حفظه بالإسم والنصيب. وداخل هذا المسار توزع كل شئ، واتخذت المضامين و الأشكال أوضاعها. و استكان الترتيب لجمود و رتابة أفقد الخطأ و المفاجآت كل الحظوظ للعبث بهذا التنظيم الصارم. ليمتد مسار شاحب، الزمن نفسه فيه احتار أين يمضي فربض.
عمر لا يدري قاطنه هل ما توالت أمامه من مشاهد هي مجرد استرجاع لوقائع مستهلكة، أم أنها خيالات لحياة ممسوخة، حنطتها تعويذة كاهن، مات قبل أن يبطل مفعول سحره.
لكن هل كان القدر ذلك المساء نائما أم منشغلا عنه، مستندا في ذلك إلى قناعاته المترسخة عبر سنين المراقبة، و التي كانت تفيد أن لا جدوى من متابعته، مادامت أحاسيسه قد تحنطت، للحد الذي لن ينفع معها أي إكسير أو عملية إنعاش يمكن أن تعيد الحياة لمشاعره ؟
هو نفسه لم يكن على وعي بشئ، و لا تنبأ أنه كان على بعد أقل من ثانية من محيط إعصار سيعبث بعد حين بكل أسواره الدفاعية . وسيحطم صلابة قناعاته، و ترتيبات عمر شيد بلبنات كل واحدة منها كانت نتاج الصدمات والرجات والهزات و الخيبات التي كانت لوحدها تستطيع أن تلجم اندفاع جموح كائن كان يصر على أنه أكبر من أن تختزله المسافات.
يتساءل الآن وهو يلقي نظرة للخلف ما إن كان الزمن يتناسب وحجم الوقائع التي مرت به. وما إن كان ذلك المدى الذي هو عمر حكاية قد اتسع فعلا ليسع كل العمران الذي كان يرتفع للحد الذي كان يناطح فيه السماء، وينحدر ليغوص في عمق الأرض.
كانت رياحها قد وصلته قبل أن يراها. ومثل كل العابرات اللواتي مررن به، اعتقد أن مقبرة البدايات لا تزال رحبة للحد الذي تستطيع ان تسع فيه الكثير من النهايات.غير أن حدسه خانه تلك المرة وهو يراها تشق مسارا مختلفا، فلم ينبته إلا على القرع العنيف لبوابة قلبه الصدئة، أفقده القدرة على التصرف، فوجد نفسه يمضي في سبيل معاكس، انتهى به إلى عمقه، وراح يلتقط لنفسه صورا لم يراها من قبل.
هاله حجم الثقل الذي كان يرزح تحته . ثقل مشكل من السنين وركام حياة ، و أشرطة عقود وقعها في لحظات نشوة، صادرتها البنود الملحقة غير القابلة لأي تأويل، تلزمه أن يظل وإلى الأبد في موقع المقايض للحياة بالموت . ثقل ازداد أكثر مع ذلك الاقتحام الذي تلاه تحذير أخير من رزانة لم تسلم هي الأخرى من الزلزال ،والذي أفاد أنه لن يصبح بعد حين إلا في موقع المقامر وهو يتقدم نحو آخر رهان خاسر. و أنه بعد ذلك لن يملك غير خيارين اثنين. أن يشنق نفسه ليرتاح من كل التبعات. أو أن يعطل ذاكرته ويهيم على على وجه الأرض دون صوب.
لم يكن متبنيا لكل مخاوفه. وفي لحظات تأمله ،كان يستطيع أن يلتقط أصداء الروح المتمردة التي داسها ورفستها أقدام السنين في رحلة البحث عن توحد كان يقتضي أن لا يكون له أكثر من صوت. وأن لا ينظر للعالم إلا بعين وحيدة. وهو لا يستطيع في هذا الاسترجاع أن ينكر أنه لم يكن محايدا في الصراع بين الأصوات المتحدثة بأبجديته الخاصة . و انه فعلا حن إلى خلق محطات جانبية، تتوق نفسه فيها إلى استنشاق أنفاس مختلفة، ويشحن قواه بطاقة تقوي عزمه على التشبث أكثر بروعة الحياة.
كانت مختلفة. مختلفة في كل شئ. لأول مرة في كل قصص عشقه لم يكن هو من حاول أن يرضي الطرف الآخر. غير أن ذلك لم يدم طويلا. إذ بكيفية ستظل مبهمة ومستعصية على الفهم، استطاعت بسرعة أن تزرع فيه ما سيجعله منجذبا إليها. وتحول طواعية إلى قطعة معدنية لم يكن في وسعها سوى أن تظل منجذبة إلى المغناطيس الهائل الذي كان متمركزا غير بعيد عنه.وهو لذلك لا يمل من التساؤل ما إن لم يكن العشق هو نوع من الأسر متمثل في فقدان الإرادة. وهل القلب هو العضو الوحيد المختص في التأشير على علاقات العشق والهيام؟ وهل الروح والعقل والحواس هي مجرد أعضاء ملحقة به لا غير؟
في أول لقاء لهما كان يجلس قبالتها على ركام مخاض وصراع داخلي عنيف كانت حواراته فيه تكاد تشق طريقها للعلن رغم كل حرصه أن تظل مكتومة. رجل ممزق يبحث عن انتماء للحياة التي أصر في أيام جموحه على وصفها بكونها ظالمة و مشوهة، ليست هي ما يتوجب أن يمتلك مشروعية تحديد الألوان التي هي أعمار الكائنات التي تقطع المسار الفاصل بين كومتين من الغموض. و انه على ضوء ذلك لا اعتبار لأي مشاعر وجدانية حميمية تجعل الكائن يغمض عينيه على حجم البشاعة و المظالم المتناثرة حوله. و أن الانغماس و الانطواء في الداخل هو نوع من الخيانة والعقوق ونكران الانتماء إلى الحياة الحقيقية المغيبة.
يرفع رأسه. تطالعه لوحتها. سمفونية صامتة يعزفها التجاوب الخلاق بين مفاعلاتها الوجدانية التي تتحول إلى شحنات ممتدة تنحث تجلياتها على سحر النظرات، و تعابير الملامح المتحركة على أدراج سلم في غاية الدقة ،والذي ينبئ مقدما أن في أوج الصعود إلى أعلى الهرم ستشرق الابتسامة لتفصح على أن المشاعر تتحرك على بساط رحب، و أن لا حاجز يعترض انسيابها غير التخوم القصية من محيط وجدانه الذي يجعل صداها يتردد ليحدث انهيار الجمادات المترسبة من عصوره الجليدية.
يخف ويخف. يتخلص من سلطة الأمكنة، ويندفع كانسياب الريح إلى أن يشبع الركض من ركضه. ويتوقف فجأة منشغلا في معالم سفر لا يحده المدى.
يمتعض. يرى أن كل تحليق يعود به المطاف من حيث ابتدأ. وأنه لن ينزع نفسه من نفسه. تلاشى السحر من عينيه ليرى أن عشه الواهن قد بات الآن في قلب المسار الذي يجتاحه الإعصار.
ينتابه القلق. ينظر إليها ممنيا نفسه أن تتقدم إليه باعتذار متأخر بفيد أن التباسا قد حصل لديها.وانه ليس بالشخص الذي كانت تبحث عنه.
من أعماقه كان يتمنى أن يحدث ذلك. وحين بدا له ذلك مستبعدا، تمنى أن يستعيد القدر وعيه. وأن يدفع به الاعتقاد كونه خدع، إلى أعلى درجات الغضب و الشراسة. و أن يقذف به دون رحمة صوب أي اتجاه من أرض مقفرة من المعمور. فطريق العودة إلى حيث هو الآن كانت تبدو أكثر لطفا وأقل مشقة من الطريق الأخرى التي كانت تلوح له معالمها كلما نظر في عينيها، والتي كانت تفيد أن سالكها لن يكون أبدا الرجل نفسه الذي كان من قبل.
يسأل نفسه في أوج تمزقه. هل النفس الإنسانية اكتشفت بما فيه الكفاية؟ وهل تمت الإشارة إلى وجود قلاع سرية متحركة فيها تظل محتفظة بمعالمها الخاصة حين يتم اختراقها من قبل الغزاة؟ وهل تم الانتباه إلى أن تلك القلاع منفلتة كالهواء، متلونة كحرباء، متراوحة بين تقلص للحد الذي تصير فيه في حجم ذرة ، وامتداد تصير فيه أكثر شساعة من كل المحيطات مجتمعة؟
كان قد قرر أن يولد من جديد. ولادة تمر عبر أن يسكن رحما يغذيه فيه الحبل السري نسيانا ويجرد خلاياه من كل ما تراكم فيها من صور و أسماء ومعالم، فلا ينتمي لشئ آخر غير الآتي من الزمان. أحيانا كان يستوي لديه كل شئ فلا يشعر بأي تعثر وهو يمد ساقيه على مدارج العمر الجديد.
بعترف أنه طمس الكثير من الاعتراضات،وشطب تساؤلات شتى، كانت تنبهه إلى أنه يتحرك على بساط بواباته يمكن أن تنفتح على احتمالات شتى غير متوقعة بالمرة. هل كان يخاف منها؟.. ومنذ متى اكتشف أن الروعة و الجمال قد تكون مصدرا لخوف لا تقوى على رسمه كل أساليب الترهيب والفقد وكل ما يستطيع أن يدفع في اتجاه عوالم الفناء و الهلاك؟
كان قد بات تحت سطوته،ا و اخرس داخله كل مصادر التحفظ و الاعتراض التي تراجعت إلى حصن خلفي. تنظر من غير أن تتفوه بكلمة حتى لا تفسد ايقاع عزف العمر الجديد. لكن لماذا تطلعت الى ما وراءه حين أسكت داخله كل المنغصات؟ هل كانت تجرب فقط قدرتها على الترويض؟ هل كانت تبحث عن رد اعتبار وهي القادمة من رحلة عمر كانت فيه الخاسرة لرهان المحطات المتناثرة من مسار حياتها؟ هل ارتأت أن تحطيم صلابة الآخرين هي الوصفة التي يمكن أن ترضي أنثى جريحة وتعيد لها اعتبارها المفقود؟ وهل الحفاظ على علاقة وجدانية تنعم بالحياة رهين بالقدرة على مقاومة البوح وترك قارات ممتدة داخل الانسان غير قابلة للاكتشاف؟
في لحظات السكون الشامل تأكد أنها لم ولن تعرف شيئا اسمه الحب.. و أنها ستظل منجذبة إلى إبهام يبيح لها غموضه أن تسمي ما تبحث اي شئ . و أنه في كل ما عاشه معها لم يكن أكثر من جسر مدته من غير توفيق اتجاه ذلك العالم الغامض الذي يسكنها ولا يمكن أن تسكنه.
أحس برغبة هائلة في أن يصالح القدر. بل تمنى لو يتجسد في صورة تجعله يعانقه و يبلغه أسفه و اعتذاره.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى