نزار حسين راشد - مقهى السياسة.. حكاية للتاريخ

كنا نلجأ من غربة الشارع، إلى فضاء المقهى، نلتمس الألفة في وجه نادل نعرفه، يحيينا بابتسامة مختصرة، ويوفر بقيتها للزبائن الآخرين، هذه المرة لبّى نادلٌ جديد، أبدينا دهشتنا وسألناه عن صاحبنا،قال إنه تقاعد، هل يتقاعد النّدال؟ وكأنه اكتشاف بالنسبة إلينا،قال إنه هرم، ولم يعد يقدر على الجولات المكوكية، بين طاولات الزبائن، لم ينجب أولاداً أضاف، ولكن أبا عدنان، وهو صاحب المقهى بالطبع، كان سخيّاً معه،حسب له مكافأة نهاية الخدمة حسب النظام الجديد، رغم أن القانون لا يلزمه بذلك، ولكنه قدّر جهوده، لقد بذل عمره في المقهى!
في كل مرّة نطلب شيئاً نفاجأ بوجه النادل الجديد، الذي لم نتعود عليه، ويطل علينا وجه صاحبنا اسماعيل النادل القديم، من شباك الذاكرة، يمكث قليلاً ثم يتلاشى، ونواصل ضرب الطاولة بكروت الورق، بشيفرة متعارف عليها بينك وبين الشريك.
هذا المقهى سجل مرحلة من تاريخ البلد بكل تفاصيلها وعناوينها، هنا اجتمع فيه السياسيون والكتاب والشعراء والصحفيون ، المناضلون والوشاة والخونة، ومن على كراسيه انتقل البعض إلى زنازين السجن ، كراسي تحرير الصحف، أو حتى كرسي الوزارة.
لم يحفل بنا أحد، وبقينا على شاطيء الأمان، متفرجين أمناء على المشهد، أعلينا الصوت، وجهرنا بآراء جريئة، وكل ما حظينا به، التفاتة انتباه، لم تلبث أن تنطفيء كفقاعة ضوء، في عيني من خصّنا بها، حتى حين كتب صديقي قصيدة طويلة في هجاء النظام، أغلقوا الصحيفة ولم يمسّوه بسوء، وكأنه أدنى من أن يحاسب.
كان صراع رموز، من ورثة الأحزاب القديمة، مَنْ خان منهم ومن بقي على العهد ومن لا يزال يساوم، كان التركيز كله منصباً عليهم، لأن المقصود هو عقد صفقة، تُحيّد من تُحيّد، ثم تتعامل مع من تبقى، بالطريقة التي تراها مناسبة، عملية تنخيل وتصفية حثيثة، لا وقت لديها للتوقف عند أمثالنا، ممن يمثلون عامة الناس، الذين لا يحسب لغضبهم أو رضاهم حساب.
وهكذا طويت صفحة من تاريخ الأمة،كنا شاهدي عيان عليها، أما الحقبة الجديدة التي عصفت ريحها بأرجاء الوطن الكبير، فقد شاهدناها على شاشات التلفاز، بين مصدقين ومكذبين، أما أنا فقد أسأت الظن بهذا الربيع المزعوم ولم أر فيه أية خضرة، وحين هتفت أسماء محفوظ في وجه حسني مبارك: بكرة عليك بالجزمة ندوس، همست لصديقي أنها مجندة، وأن قرار التغيير أتى من الخارج، وهز صديقي رأسه متشكّكاً، ولكنها حين اختفت فجأة من المشهد تماماً : قال صديقي: ربما كنت على حق، فنحن أصحاب تجربة والثوريون لا يتبخرون هكذا فجأة بل يواصلون المشوار، حتى زين العابدين بن علي هرب بأمرٍ من الخارج، فالدكتاتورات كما عرفناهم يخوضون في الدماء ولا يتنازلون عن السلطة مع أول بادرة عصيان، هذا ترتيب دولي، أنظر إلى التنسيق الدولي في ليبيا، وكيف فرضوا حظراً جوياً ، منذ متى يعطف الغرب وأحلافه العسكرية على الثوار أو يتعاطفون مع الثورات، سوريا حكاية مختلفة فالرئيس خائن وقد أوعزوا إليه بتدمير البلد، وأرسلوا حفنة من مدعي الإسلام ليقدموا له الذريعة، وهكذا كان!
نحن لا نصنع تاريخنا يا صديقي، فالفرنسيون هم من نصّب بورقيبة وبن بيلة، عقب ثورات الجزائر وتونس، وانظر كيف أبادت الجبهة الوطنية الجزائرية الشعب حين فاز عباس مدني بانتخابات ديمقراطية، الوطنيون لا يقتلون الناس يا عزيزي، فأدنى درجات الوطنية هي العطف على الناس.
إنها النخب والنُّصُب والأقانيم والرموز،هم من ينصبونهم يا عزيزي، أما نحن فلا يد لنا في ذلك، أنظر أين أصبح زملاء المقهى ، انتقلوا إلى مواقعهم الجديدة، وبقينا نحن ومعنا بقية الشعب، مكانك سر، أليس كذلك؟


نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى