نزيه ابو عفش - الطريق الحربي.. شعر

"الانتباهُ إلى الحياة: تلكَ هي كلُّ وظيفةِ الشعراء"

1-
ما بين لحظةِ انطلاقِهم مِن المعسكر، وساعةِ بُلوغِهم ميدانَ الحرب،
الجنودُ، على ظُهورِ ناقلاتِهم المثقلةِ بالذخائرِ والأحلام،
وفيما هم يُغَـنّونَ كذاهبين إلى عُرس،
يُبَرِّدون رؤوسَهم المحمومةَ بهواءِ الرحلة
ويَبدونَ للناظرِ شجعاناً وَ سُعداء.
..
الجنودُ، كما جميع الجنود، ليسوا سعداءَ ولا شجعاناً.
الجنود، كما جميع أولادِ الناس،
فيما هم يُـمَوِّهونَ خوفَهم بالمواويل،
يَتَذكّرون أحبابَهم ويُفَكّرون:
الطريقُ طويلٌ إلى "إدلِبْ"
والموتً لا يزالُ بعيداً.

2-
الجنود، لمن يريدُ أنْ يفهم،
حين لا يريدون أنْ يُبصرَ أحدٌ دموعَهم،
يفعلونَ ما كان يفعلهُ عشّاقُ الأزمنةِ الرومانتيكيّة:
يَشْكلونَ الأزهارَ خلفَ آذانِهم
ويُجَمِّلونَ أحزانَ قلوبِهم بالأغاني.

3- رفاق درب
أنا وقافلةُ الجنود ماضونِ في الطريقِ ذاتِها..
هم إلى ميدانِ الحرب، وأنا إلى دِياري.
إنْ هي إلاّ سُويعاتٌ صغيرة، ونصلُ جميعاً إلى غاياتِنا:
أنا إلى مُستَراحي ، وهُم إلى موتِهم.

4-
أنتم الذين تَتَفرّجون!
أنتم الذين تَتفرّجون وتَكْتَفون بالفرجةْ!
أنتم، أنتم!
هل تَرونَ هذه القوافِل.. قوافِلَ الجنود الذاهبين إلى ميادين المجد؟
تَرونَها؟..
كثيرون مِن هؤلاء لن يَعودوا إلى مَساقِطِ رؤوسِهم إلّا مَلفوفين بالأعلامِ داخِلَ توابيتِهم.
فَكِّروا في هذا الأمر
ثمّ تَحدَّثوا ما شِئتم عن غَلاوةِ الترابِ وفوائدِ النصر!
فَكِّروا في الأمر!

5-
في الطريقِ إلى الحرب
جميعُهم، أولئك الذين يتساءلون الآنَ: "هل نبقى على قيدِ الحياة؟.."
(بل وحتى أولئك الذين سيحالفُهم الحظُّ ويبقون على قيدِها)
جميعُ هؤلاء وأولئكَ (منذ الآنَ وإلى ما بعدَ أنْ يَثبتَ العكس)
يُعتَبرونَ، في عُرفِ أنفسِهم، مفقودينَ وأمواتاً.
..
يا أُمّهاتْ! يا أَحِبّة! يا أصحابْ! هيّــا وهيّا!
زغرِدوا! زَغرِدنَ! أطلِقوا الهتافاتِ والرصاصَ والدموع!..
: موكبُ الجثامينِ صارَ على مقربةْ.

6-
بين السماءِ القاحلةِ والأرضِ الـمَتروسةِ بالقَنّاصين والكمائن
ليسَ إلّا الغبار، وأسرابُ طيورٍ (أسرابُ أرواحٍ على هيئاتِ طيورٍ)
منطلقةٍ بأقصى قُوى أرواحِها وأجنحتِها إلى ميادينِ موتِها.
: الرحمةْ!

7-
تلك الشجرةُ التي هناك، هناكَ في الطرفِ الأخيرِ مِن هذا السهلِ الأجرب،
تلكَ الشجرةُ اليتيمةْ/ تلك التي لا تزالُ خضراء/ تلك التي لا تزالُ تَخضَرّ (تلك التي لا يزالُ بوسعِها أن تَخضَرّ)/ تلكَ الشجرةُ الناجِيَةْ..
تلك التي، يوماً بعد يوم وجحيماً بعدَ جحيم،
لا تزالُ تنمو، بمقدارِ أُنملةِ أو بُرعمٍ أو شهقةِ نسيم،
تلكَ المخلوقةُ الشُّجاعةْ
لكأنها لم تنتبه بعدُ إلى أنّ الحربَ مرّتْ على هذه الباديةِ الميِّتةْ.
: تلكَ.. الـبَـطَـلَةْ.

8-
في الحروب، حين يُريدونَ تَهويلَ خطايا الموت،
يقولون: كان معظمُ ضحاياها مِن الأطفالِ والنِسوةْ.
لكأنّ حياةَ الرجال -فِتيةً أو شيوخاً- والأبقارِ، والثعالبِ، والأشجارِ، والفَعّالةِ، والزَبّالينَ، والكفَرَة، والشحّادين، ومُنَسِّقي الحدائقِ ورُعاةِ نوافيرِها وأزهارِها...
لكأنّ هؤلاء، وهذه، وتلكَ، وهاذِينْ
أرقامٌ ساقطةٌ، هيِّـنةٌ على ألسنةِ الرُّواة،
ولا تَستأهِلُ حتى أن تُدرَجَ في قوائمِ الميِّتين ومُستحِقّي ضرائبِ الدمع.
كأنَّ.........

..... ...... ....... .
نزيه ابو عفش
سوريا
أعلى