عبد العزيز بركة ساكن - ذاكرة الموتى.. قصة قصيرة

قالت لي أمي في الحلم:
ـ الدنيا زائلة يا ولدي.
قلت لها وأنا نائم:
ـ ليس صحيحاً، نحن الزائلون، الدنيا باقية.
حاولتْ أن تبتسم، لكن الموتى في الحلم عادة لا يستطيعون الابتسام لأن هرموناً خاصاً بانفراجة الفم في تلك الصورة السحرية لا يتم إنتاجه في الحلم. ثم وقف الموتى صفاً واحداً أمامي: جدي عبد الكريم، جبران خليل جبران، حبوبه حريرة، محمد مستجاب، علاء الدين الشاذلي، الكيوكة الصغيرة، قدورة جبرين، نادية، أبو قنبور، محمد عثمان، خديجة، مرجان كافي كانو، محي جابر عطية، عم موسي، انتصار، أبو ذر الغفاري، علي المك، وولت ويتمان، إخلاص أبو غزالة، عمر إبراهيم، قالوا بصوت واحد:
ـ الدنيا زائلة.
قلت لهم:
ـ يا أيها الموتى، قلت لهم اسماً اسماً يا أيها الموتى، الدنيا باقية.
وقف سجانٌ نزقٌ بيني وبين محمود محمد طه، استل من بين قلبه وعقله محبرة، كان الشيخُ نحيفاً وجميلاً، مكان عينيه الدنيا كلها تزول تدريجياً وتتلاشى، لكن دون انتهاء، قال لي في الحلم:
ـ افتتانك بالحقِّ فوَّت عليك إدراك عين الحق.
قلت له وأنا نائم:
ـ سمِّي لي القتلة حرفاً حرفاً والحقّ حرفاً حرفاً، العدل والمظلمة والروح حرفاً حرفاً.
قال لي:
ـ اقرأ. ذات الشيء، يسقط عنك حجاب الشيء، حرفاً حرفاً.
قلت له:
ـ بسم الله الرحمن الرحيم.
قال لي في الحلم وكاد أن يبتسم:
ـ إذن، ما هو لون الحقيقة؟
قلت له وأنا نائم:
ـ أسود.
قال لي في الحلم:
ـ إذن؛ ما هو لون العدل والمظلمة والروح، ما هو لون مسك الأنفُس؟
قلت له وأنا نائم:
ـ أسود.
قال لي في الحلم:
ـ إذن، ما هو لون الجهات السِّت؟
حينها فقط تنزَّلت عليَّ الأحرف الوسطى من أسماء القتلة، جاءت تعوم في سيل من الدَّم، أخذ يحيط بي وأنا نائم، أفادني صفُّ الموتى في شيئين: الأول أن الدنيا ليست زائلة، الشيء الآخر أن الموتى لا يبتسمون، الشيء الآخر، أن ذاكرة الموتى محشوَّة بالأحياء. قالت لي أمي في الحلم:
ـ سوف لن تنجو من الموت، الأشجار، الطين، والهوام كلها لا تحميك، وأنت إذ تهرب من الموتِ تذهب إليه.
بكيتُ. عندما استيقظتُ وجدتهم جميعاً يصطفون أمامي، تماماً مثلما كانوا في الحلم، لم يهتم أحد بما كنُت أثرثر فيه، لم يفسِّر أحدٌ لي شيئاً، ولم يضحكني نداء المنادي: أنت، يا أحد الموتى.


* 2009

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى