محمد هديب - بيت روحي

في ليلة قمرية على عتبة الحوش قالت أمّي: انت -على فكرة- حمار.
قلت: كنت أحس بهذا من زمااان يمّه. فقط أردت أن أسمعها منك حتى أتأكد.
***
لا ترى الأم بالعين المجردة، لأنها عالية جدًا، وما يصل من ظلها على الأرض خيال الأسطورة. لا أظن هذا يعجب المرأة طوال الوقت.
المرأة الأسطورة وقفت على قدمين اثنتين، وكنت أحسبها هواء غامضًا يدور في الحوش ويملأ الغرفة.. هواء ثقيلًا أو منعشًا او حتى فاسدًا لكنه الموجود بقوة. كنا نسميها "الأم المتحدة". هي أيضًا لم تترك لنا فرصة لنراها على قدمين كأقدامنا.
حين تمكنت عيناي منها كانت خارجة للتو من عملية لتنظيف الشبكية. قال الطبيب إن هناك كثيرًا مما يجب تنظيفه.
وحين لا تعود الأم ترى جيدًا تفقد الأسطورة بعضًا من سطوتها، ولا يعود لديها رغبة في تهديدنا برحلة غير مريحة الى السماء، أو بقرصنا في الورك والتفقد بلهفة مكان القرصة. هي تهبط من فوق إلى الأرض وتأخذ كوب حليب دافىء وجرعة أنسولين.
....
غدا يصادف يوم معركة الكرامة. حين سقطت حبة اللوز على أنفها، كان بالإمكان تذكيرها بالأرض القليلة تحت الشجرة البيضاء الضاحكة. كان بالإمكان القول: خبرينا عن السيمينوف الذي خبأته تحت اللوزة. في كل آذار تحدثنا ذات الحكاية. تحدثنا عن تفاصيل قصصية لا عن الأم الخرافية. ولكننا نريد أمّا لا نطاولها، فنمسك بالحكاية بطرف اصبعين ثم نجعلها تحلق في الخيال.
قالت في ذلك الآذار: أريد لافندر.
- لافندر ماذا؟
- لافندر للحيوانات يعني؟ لافندر يرشونه هنا وهنا.. فنصبح معطرين باللافندر.
......
آسف لأنني سأقول الآن شيئًا مضحكًا. إذا شئت الدقة، الضحك في المكان غير الملائم. حين كانت أمي تتابع فلمًا أميركيًا (يسمى فيلمًا أجنبيًا) تفاجئها أكثر اللحظات واقعية وحقيقية. "الأجانب" يصفعون بعضهم، ثم يتبادلون القبل. خصوصًا حين يجمع المشهد ضدين، ذكرًا وأنثى. من الواضح أن الفتاة لم تترك شيئًا إلا قالته في خسة الرجل، وغدره، لكن بقليل من اللف والدوران يكشف لنا المشهد عن ذروة واقعية، لا يسعفني قول ببلاغته سوى "انا لا أحبك.. كم أحبك" التي كتبها درويش أيضًا في نفس توقيت بث الفيلم "الأجنبي".
نحن أيضًا مثل "الأجانب" حين نكون في ذروة الواقعية، ولسنا مثلهم حين نتكلم عن.. هناك فارق شكلي بين التكلم عن والتكلم في. والحال أن الفيلم من طائفة الـ"عن". تزم الأم شفتيها وتحكم بأن الأجانب مثل كلاب المزابل، تمزق بعضها ولا أحد يتدخل بينها. فجأة تتصالح ولا تقبل بعضها على الجبين وإنما مباشرة في الفم.
هناك وقت للعب وللجد وللبكاء وللضحك. هل هذا صحيح؟
أزعم أن هذا ترتيب شكلي، ومعالجة غير موفقة بالمكواة. الأحداث حين تحدث لا تكون مطلقة في بيتنا. فوضوية .. لا علاقة لها بالتهذيب الشكلي للسخرية والجد.
لا يوجد في بيتنا كوميديا وتراجيديا. هذه تصنيفات فجة لنقاد عاطلين عن العمل. كنا مثل "الأجانب" في الفيلم، أو "النوَر" كما يجري على لسان الأم حين ترغب في غسل لسانها من "كلاب المزابل"، وكنت بدوري أمانع غير جاد في الدفاع عن "الأجانب" والنوَر.. غير جاد لأن أمي لم تكن جادة في تشكيل حياة مؤدلجة وعنصرية، بل حياة خفيفة كالشتائم البيتية الطيارة، حين تتوطن النفس على أن البيت أصلًا غير موجود بثقة لا الآن ولا في المستقبل.
.....
اللافندر عطر محترم، لسيدة فوق الخامسة والستين. دعني أقل شيئًا آخر: إنه عطر متوافر كملطف للغرفة والسيارة. نحن الشباب (أقصد الذين لن ينضجوا لمغادرة أمهاتهم بعيدًا) لا يروق لنا هذا الصنف غير الخاص. كما أن فرصتنا افضل لشراء انواع من العطور مصنوعة تحت شعار "لك وحدك".
ليس من حقي الادعاء أن اللافندر كان عطرًا بائسًا في منتصف القرن العشرين. هذا يعني أنني لم أكن ولدت بعد ولم تكن السيدة المسنة سوى شابة قوية البنية وتطرز ثوبها على ضوء القمر، وتخبىء في الصندوق زجاجة بنفسجية نخبوية. كان لديها وقت لتنتبه الى شأن جمالي غير مطروق لدى الدهماء. وعلبة النيفيا مرصودة للكعبين والمرفقين، لا للوجه المضيء كرغيف الصباح.
....
"بيت روحي" كان يعني الاحتجاج المباغت على أعياد الأم. هناك العديد من طناجر الضغط والتيفال وصحون الصيني (لا تعني شيئا رسمة روميو وجولييت المطبوعة عليها ما دامت ستغرق في عسكرة الطبيخ)، ثم في مرحلة متطورة قدمنا لها عصّارة جزر.
وهناك أعياد أم كانت تمضي دون أدوات منزلية، إذ من غير المفيد شراء اشياء إضافية لأم ماهرة شاطرة في التدبير المنزلي. فرحنا نشتري لها مزهريات، واحدة كحلية فيها ورد أبيض، والثانية بيضاء زهرية معجنة من الخارج.
يعني هدايانا ذات طابع اشتراكي عام كالماء والنار والكلأ.
****
سقطت حبة اللوز على أنفها. ويضحك اللوز، كما تغني أم زياد، ويخلص سريعًا.
اليوم عيد الأم. قالت: أريد شيئا لبيت روحي. كنت أسمع هذا القول مذ عرفت هذه السيدة. وهي حتى تكون أمًا مثالية عليها أن تدخل مختبر تكوين غامضًا، فلا هي أبونا ولا هي تنجبنا أمام اعيننا لنتأكد. وسأقول مؤقتًا إنها حال مؤسفة، أو إنها أم مؤسفة، فمجدها مرهق وفي أعلى عليين، وبيت روحها ليس قصرًا منيفًا. ولا أدري ما المطمع الذهني في تغذية صورتها الصعبة على رقابنا كلما نظرنا الى أعلى وفقدناها في الجوار. إنها وإننا بأي حال سرعان ما نروّض على رمزيتها، هي خوفًا علينا من اليتم ونحن أيضًا خوفًا علينا من اليتم.. كم نحن أنانيون!.. أرغب في القول إننا ضحايا الضحية العظيمة.



صفحة الكاتب على الفيسبوك:
facebook.com/mhdyb1

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى