أحمد بلقاسم - أبو عرف ملكي يفقد وسامته

في إحدى الضيعات النموذجية كانت دجاجة تتقاسم العيش في سلام مع حفيدها أبي عرف، رفقة ثلّة من البهائم؛ فرس وبغل وحمار يكنى بأبي حافر، وبضع خرفان، لكل منهم عمل يقوم به أحسن قيام، طبعا تحت إمرة رب الضيعة. فالبقرة وظيفتها أن ترعى جيدا في أطراف المزرعة، لتحلب في الصباح الباكر وينتفع بحليبها رب الضيعة وأهله ماديا وغذائيا، أما الحصان فمهمته هي جر عربة سيده ذهابا وإيابا إلى السوق الأسبوعي للتسوق، و في بعض الأحيان كان يحمل صاحبه حين يرغب في زيارة أحد الأقارب أو الأصدقاء. بينما أنيطت مسؤولية الحرث والدرس بالبغل، وأسندت مهمة جلب الماء من البئر إلى أبي حافر، فضلا عن تحريك حجر طاحونة الزيتون لعصره حين قطافه، وتكفلت الخرفان بتسميد التربة بروثها، في حين اهتمت الدجاجة بتزويد الأسرة بالبيض، وتجشم الديك مزهوا بصوته عناء إيقاظ أهل الضيعة من النوم قبل كل إشراقة شمس، لينهض كل ذي عمل إلى عمله، ويتفرغ هو إما إلى البحث عن بذور بعض المزروعات، أو النبش في الأرض للظفر ببعض الديدان، ثم يخلد بعد ذلك للراحة حتى ميلاد فجر جديد.
استمرّت الحياة على سجيتها في الضيعة رغم رتابتها، إلى أن ظهر جار جديد للضيعة، حيث تغير نمط العمل فيها رأسا على عقب؛ ذلك أن الديك المسؤول عن تدبير الزمن أخلّ بالمهمة المنوطة به؛ إذ لم يعد يضبط موعده لإيقاظ الجماعة في الوقت المحدد مع إشراقة كل صباح، فكان تارة يوقظها في منتصف الليل، وتارة أخرى يوقظها في وقت الضحى، الشيء الذي عرضه للتعنيف من صاحب الضيعة، كما جعله مثار شكوك قوية وسط الجماعة؛ فمن قائل أصابه مسٌّ من الشيطان، أوجُنّ جنونه، إلى قائل إنه يتعاطى للمخدرات. رغم الريبة التي أثارها حوله، لم يبح لأي كان عما ألمّ به، وإن حاول العودة إلى جادة الطريق، بأن صار يؤدي عمله كما في سالف عهده بالضيعة. بيد أنه لم يفلح في صدّ النظرات المريبة إليه ممن حوله، كما لم يستطع إقناع الجماعة باعتباره كائنا سويّا، يتمتع مثلهم بكامل قواه العقلية، و يبحث مثلهم عن مكان آمن تحت الشمس. أنّى له ذلك وقد عمّق تواريه عن أنظارهم بين الفينة والاخرى، هواجسهم إزاءه.
ذات مرة اقتحم الحمار خلوة الديك ودنا منه شيئا فشيئا نفض هذا الأخير ريشه وسوى بحركة خفيفة عرفه، ثم قال للوافد عليه:
  • هل جئت لتذكرني من جديد بضرورة احترام أوقات الإيقاظ، اطمئن لن أخلّ بواجبي مرة أخرى.
  • لا ليس لهذا الغرض جئتك يا صديقي!
  • فلم جئت إذن؟
  • جئت لأطرح عليك سؤالا أصالة عن نفسي ونيابة عن الجماعة، طالما أرّقنا جميعا.
  • على الرحب والسعة تفضل أبا حافر.
  • لقد لاحظنا أنك لست على أحسن ما يرام، إذ لم تعد ذاك الديك الحيوي الذي يملأ الضيعة مرحا ونشاطا، بصياحه في الأوقات المعتادة، وبحركته الدؤوبة من مكان إلى آخر، لا شك أنّك تعاني من مشكل ما؟
  • أشكر لك اهتمامك بي، اطمئن أنا بخير والحمد لله.
  • يا صديقي قل الحقيقة ولا تحاول المراوغة، وهذا عرفك قد امتقع لونه!
  • أما وقد ألححت على معرفة سبب علّتي، فسأبوح لك بحقيقة ما ألمّ بي شريطة أن لا تطلع الجماعة عليه.
  • أعدك، أن أدفن سرّك في صدري إلى الأبد، هيا أخبرني قبل أن ينادي عليّ ربّ الضيعة.
  • كلّ ما في الأمر، هو أنني ذات مرّة وأنا أتجول بين أشجار التين التي تسيّج حقل الذّرة؛ أغرتني إحدى الثمار بنضجها وببروز لبها الأحمر القاني، كما أغرت فاكهة الشجرة الملعونة سيدنا آدم، فصعدت بسرعة لالتهامها، وبينما أنا أنزل أدراجي إذ بي ألمح سربا من الدجاج في الضيعة المجاورة، ودفعني نزقي وحبّ الاستطلاع، إلى تسوّر السياج الفاصل بين الضيعتين، لأجد نفسي بينهن، ليتني ما فعلت ذلك ليتني ما فعلت..
فجأة أطرق الديك رأسه وتحشرج، إلى أن همس أبو حافر في أذنه مواسيا؛ على رسلك يا صاح، هون على نفسك، أرجوك أكمل الحكاية
- وأنا وسطهن، رشقتني إحداهنّ بنظرة كالسهم، حرّكت نياط فؤادي وأحرقت حناياه، فلم أدر ما أصابني، فأحسست بميلي الشديد نحوها دون سائر بنات السرب، وبدون تفكير صرت أقدم لها الحبّ من منقاري إلى منقارها، فتلتقطه هي بغنج ودلال، الشيء الذي زادني افتتانا بها، إلى درجة الهيام.
- أنت محظوظ يا صديقي؛ إذ استطعت أن تنسق بين الحَبِّ والحُبِّ في مناسبة واحدة، ليت الحظ يبتسم لي كما ابتسم لك، فأجد من أبادلها الحبّ بالتبن والشعير، اعذرني عن مقاطعتي لكلامك، فأنا أغبطك.
- من حسن حظي، أن السرب لم يوجد فيه قائد يتدبر شؤونه، لعلّ هذا ما جعل نوار الفول اليافعة ذات المنقار الذهبي، والجيد المكتنز، والأظافر العاجية، والعرف القرمزي الناتئ، والريش الرمادي السميك الناعم ذي الندف البيضاء، تغدق عليّ من الحبّ ما جعلني أفقد أحيانا صوابي وأخلّ بعملي المعتاد في الضيعة، هذا كلّ ما في الأمر يا صديقي!
- الآن اطمأن قلبي على حالتك، وعرفت سرّ اهتمامك بعرفك الملكي، وأنت تغادر خفية الضيعة إلى وجهتك المنشودة، دمت سعيدا.
- يا لقوة ملاحظتك يا أبا حافر شكرا على الاهتمام، دمت مخلصا.
لتبديد الشكوك من حوله، استعاد أبو عرف ملكي نشاطه بين الجماعة كما في سالف عهده، بيد أنه لم يستطع التخلص من مسحة من الشرود الذهني، والتفكير في ملاقاة الحبيبة متى سنحت له الفرصة بذلك. كما ازدادت عنايته بعرفه القرمزي أيّما عناية، دون إغفال نظافة هندامه المخملي، هكذا قضت مشيئة الله، أن يستعيد العاشق عافيته وحياته الطبيعية بين جماعته، وأن يشبع حالته الوجدانية بعلاقته الغرامية مع عشيقته بعد انسجامهما وتوافقهما في كل شيء.
وما إن توطدت العلاقة بين العاشقين، حتى وفد على جماعته ضيف جديد، ضيف من عائلته؛ إنها دجاجة برقبة عارية، وريش شبه منتوف فقد لونه، ورجلين عقربيتين شديدتي الصلابة، لم تلق من ابن جلدتها في الضيعة اي ترحيب أو اهتمام يذكر بعد الثلاثة أيام الأولى من الضيافة، إذ اعتبرها فردا عاديا من أفراد أسرة الضيعة.
لكن الوافدة الجديدة أسرتها في نفسها ولم تبدها له، وراحت تتعقب خطوات زميلها في الضيعة، وتبحث عن سرّ صدوده عنها إلى أن وجدته، فاكتشفت حقيقة ارتباطه ببنت الجار، فاندلعت نار الغيرة في صدرها حتى كادت تأتي على ما تبقى فيه من ريش. ودون إبطاء فكرت في الكيد له، واتبعت الفكرة العمل؛ فبينما هو يغط في نومه ذات ليلة بعد عودته من زيارة الحبيبة، عمدت إلى نشب مخالب أصابعها الحادة في رأسه، تروم اقتلاع عرفه منه، سرّ انجذاب الغير إليه، وبالفعل لم يستطع النائم المتيم أن يفتكّ رأسه من بين مخالبها الحادة المعقوفة، إلا وتاجه بين رجليها. وحتى لا ينتقم منها و يشكوها لربّ الضيعة، بادرت بالاعتذار له وهي تذرف دموع الأسف على ما بادر منها وتتعوذ من الشيطان الرجيم، معلّلة ذلك بأن كابوسا مزعجا هو السبب. ولأن قلب العاشق سموح كظم غيظه، ودارى صلعته وهو حسير بحزن عميق، وانشغل بالتفكير بأي رأس سيقابل توأم روحه؟ قبل أن ينتشر خبر فقدانه لتاجه، ويصل إلى أميرة أحلامه، تسلل خلسة إليها ودون إطالة قال لها بإيجاز شديد:
  • أنا شقيق صاحب العرف الملكي.
  • مرحبا بك.
  • جئت أحمل إليك رسالة منه.
  • ماهي؟
  • هاك اقرئيها.
ما كادت تودعه حت شقت غلاف الرسالة لتقرأ فيها ما يلي:
توأم روحي الغالية؛
إنه لمن دواعي الأسى والحزن العميق، أن أخبرك بأنني أصبت بعارض صحي قد يلزمني الفراش لمدة قد تطول بضعة أشهر، وفي انتظار أن يمنّ عليّ المولى بالشفاء والعافية، تفضلي أيتها العزيزة بقبول فائق حبي وتقديري.
الإمضاء حبيبك أبو عرف ملكي.

بركان يوليوز 2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى