الصادق النيهوم - حكاية لطفل أعرفه في غزة..

“.. وجمع الفلسطينيون جيوشهم للحرب واجتمعوا في سوكوه، واجتمع شاول ورجال إسرائيل ونزلوا في وادي البطم واصطفوا للقاء الفلسطينيين، وكان الفلسطينيون وقوفاً على جبل من هنا وإسرائيل وقوفاً على جبل من هناك والوادي بينهم، فخرج رجل مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جليات فوقف ونادى صفوف إسرائيل وقال لهم لماذا تخرجون لتصطفوا للحرب؟ أما أنا الفلسطيني وأنتم جنود شاول اختاروا لأنفسكم رجلاً ولينزل إلي. فإن قدر أن يحاربني ويقتلني نصير لكم عبيداً.. وإن قدرت أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم لنا عبيداً وتخدموننا..”.
هكذا ـ أيها الصديق الذي أعرفه في غزة ـ بدأ الصراع على أرضكم.. مواطنوك الشرفاء يقفون فوق الجبل للدفاع عن حقولهم وأبقارهم، وشاول يقف فوق الجبل المقابل لسرقة الحقول والأبقار، وجدك الشجاع ينتصب مرفوع الرأس في وسط الوادي ويدعو لكي تتخذ العدالة مجراها معتقداً ـ بحسن نية ـ أن العدالة لن تحرمه من لقمة عيشه. ثم خرج إليه سيدك داوود عليه السلام.. أنت لا تعرف داوود، ولكنه كان رسول العدالة، وكان مجرد صبي قليل الخبرة يرعى الأغنام التي يسرقها شاول من المزارع المجاورة. وقد حمل مقلاعه البسيط الصنع، وانطلق إذ ذاك يركض أمام مواطنيه اللصوص لكي يقتل لهم جليات بأمر من الرب “نفسه”. وعندما أقترب منه قال له معيراً أيضاً:

” ..أنت تأتي إليَّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل، هذا اليوم يحبسك الرب بيدي فأقتلك وأقطع رأسك وأعطي جثث جيش الفلسطينيين هذا اليوم لطيور السماء وحيوانات الأرض..”.

ووقف جدك الشجاع أمامه فاغراً فمه من الدهشة، فقد كان يعتقد أن داوود الصغير السن لا يستطيع في الواقع أن ينفذ تلك المجزرة الدامية بمقلاعه وحده، وكان يريد أن يرده إلى صوابه ويقنعه بالعودة بحثاً عن أغنامه قبل أن يسرقها لص آخر. وقد قال له غاضباً “ألعلي أنا كلب حتى أنك تأتي إلي بعصا” عد لكي تحضر سلاحاً حقيقياً على الأقل لكي تقطع به رأسي. ولكن سيدك داوود عليه السلام لم يتحرك من مكانه، كان يملك مقلاعه السحري في يده، وكان يعرف على وجه اليقين أنه يكفي لإلحاق الهزيمة بالعالم كله، لأن ذلك المقلاع ـ أيها الصديق الذي أعرفه في غزة ـ كان مصنوعاً من سعف نخلة سماوية، وكان مثل كل شيء من إسرائيل مقلاع الرب نفسه.
ثم بدأت المعركة.. جدك الشريف يقاتل بسيفه الذي وفر ثمنه من قوته اليومي لكي يدافع عنك وعن قطعة الأرض، وسيدنا داوود عليه السلام يقاتل بأسلحته السرية التي نزلت عليه من السماء لكي يسرقك أنت ويسرق قطعة الأرض لحساب شاول، فاسمع ماذا حدث من فم “الرب” نفسه:

” ..أسرع داوود وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني ومدَّ داوود يده إلى الكنف وأخذ منه حجراً ورماه بالمقلاع وضرب الفلسطيني في جبهته فارتز الحجر في جبهته وسقط على وجهه إلى الأرض، فتمكن داوود من الفلسطيني بالمقلاع والحجر وضرب الفلسطيني وقتله. ولم يكن سيف بيد داوود فركض داوود ووقف على الفلسطيني وأخذ سيفه واخترطه في غمده وقتله وقطع به رأسه. فلما رأى الفلسطينيون أن جبارهم قد مات هربوا فقام رجال إسرائيل ويهوذا وهتفوا وحلقوا الفلسطينيين. فسقطت قتلى الفلسطينيين في طريق شعرايم إلى جت وإلى عقرون. ثم رجع بنو إسرائيل من الاحتماء وراء الفلسطينيين ونهبوا محلتهم، وأخذ داوود رأس الفلسطيني وأتى بها إلى أروشليم ووضع أدواته في خيمته..”.

لوحة داوود يذبح جالوت - بيتر بول روبنس

لوحة داوود يذبح جالوت – بيتر بول روبنس
رسول العدالة يملك رأساً طازجاً في خيمته، هذه نهاية الفصل الأول من حكايتي السماوية أيها الصديق الذي أعرفه في غزة، إنها نهاية رديئة، أنا لا أستطيع أن أنكر ذلك رغم رغبتي في الدفاع عن موهبة الرب في كتابة القصص، ولكنها على أي حال نهاية ربانية من جميع الوجوه، وردت بحذافيرها في كتاب الرب بمثابة مقدمة لملحمة داوود عليه السلام. فدعني أبدأ الفصل الثاني قبل أن يقطع الرب رأسي مقابل شكوكي. “..وسمع الفلسطينيين أنهم قد مسحوا داوود ملكاً على إسرائيل فصعد جميع الفلسطينيين ليفتشوا على داوود. ولما سمع داوود نزل إلى الحصن، وجاء الفلسطينيون وانتشروا في وادي الرفائين وسأل داوود من الرب قائلاً اصعد إلى الفلسطينيين ليدي؟ فقال الرب لداوود اصعد لأني دفعاً أدفع الفلسطينيين ليدك فجاء داوود إلى بعل فراصيم وضربهم داوود هناك وقال قد اقتحم الرب أعدائي أمامي كاقتحام المياه”.
هل سمعت ذلك أيها الصديق الذي أعرفه في غزة؟ لقد سأل سيدنا داوود عليه السلام قائلاً: “هل أنت معي ضد الفلسطينيين لكي نأخذ أبقارهم وأرضهم وبناتهم!”.
فقال له الرب “أنا معك. ما تخافش” أعني هكذا باللغة العبرية الفصيحة. ولقد اقتسم الرب أبقاركم مع نبيه واقتسم أمهاتكم أيضاً، العذراء يتسلى بها أبناء الرب في الليل، والعجوز تخدم أبناء الرب في النهار وتمسح لهم الكندرة.
“أنا معك. ما تخافش” يقول الرب لسيدنا داوود في بعض الأحيان لكي يشد قلبه ضد الفلاحين البسطاء، وفي أحيان أخرى يفعل الرب كل شيء بنفسه دون أن يكلف حبيبه داوود مشقة التعب كما حدث في معركة الرفائيين، فاسمع بنفسك أيها الصديق غير المقدس الذي أعرفه في غزة، ماذا فعل الرب من أجل أطفاله المقدسين في معركة الرفائيين ” ..ثم عاد الفلسطينيون فصعدوا أيضاً وانتشروا في وادي الرفائيين، فسأل داوود من الرب فقال:

” لا تصعد بل در من ورائهم وهلمَّ عليهم مقابل أشجار البكا. وعندما تسمع صوت خطوات في رؤوس أشجار البكا حينئذٍ احترس لأنه إذ ذاك يخرج الرب أمامك لضرب محلة الفلسطينيين، ففعل داوود كذلك كما أمره الرب وضرب الفلسطينيين..”.

وصوت الخطوات وراء الأشجار يخص بالطبع الرب نفسه الذي يتسلل دائماً في سمواته ويزحف خفية في الظلام لكي يفاجئ الفلاحيين من الخلف، وعندما تحصل المفاجأة ويتوفر له عنصر المبادرة يمحوهم عن آخرهم بأسلحته الغير محدودة ويسوق أبقارهم إلى حظيره حبيبه داوود عليه السلام.
أف، أيها الصديق الذي أعرفه في غزة. إن الرب لم يكن يملك ثمة ما يفعله سوى أن يطارد مواطنيك في صحبة سيدنا داوود عليه السلام، ويمحوهم عن آخرهم، أعني هذا لله في لله، من دون بقية شعوب العالم، من دون بقية الناس الذين يملأون الأرض على امتداد المنطقة بين الصين وبين أمريكا لم يجد الرب إنساناً يستحق القتل سوى مواطنيك الشرفاء، وقد أبادهم عن آخرهم بأسلحته السماوية ورماهم بعد ذلك في نار جهنم بحجة أنهم يعبدون الأصنام وكان جميع الناس في العالم الأصنام، من الصين إلى أمريكا لم يكن ثمة أحد لا يعبد الأصنام، ولكن الرب لم يجد سوى مواطنيك الشرفاء لكي يبيدهم بأسلحته السماوية، ويسلط عليهم سيدنا داوود عليه السلام.
أف، أيها الصديق الذي أعرفه في غزة، لقد كان من سوء حظ مواطنيك أنهم اختاروا فلسطين محلاً لإقامتهم دون أن يتبرع أحدهم بأن يقرأ الفنجان ويعرف مقدماً أن سيدنا موسى عليه السلام يزمع أن يحرر أبناء الرب من قبضة فرعون ويقودهم عبر الصحراء إلى أول أرض خصبة تصلح لإقامتهم. لقد كان بوسعكم أن تعرفوا مقدماً أن هذه الأرض هي فلسطين لأن بقية المنطقة كلها صحراء، وتعرفوا أيضاً أن سيدنا موسى عليه السلام سيعطيها لأبناء الرب دون إذن منكم، وكان بوسعكم أن تتجنبوا الإبادة على يد الرب نفسه الذي تقدس اسمه في الأعالي.
أف أيها الصديق الذي أعرفه في غزة، لماذا لم تتعلموا قراءة الفنجان أو على الأقل قراءة الكارطة، فقد كان من الواضح أن بني إسرائيل سيخرجون من مصر عاجلاً أم آجلاً، وكان من الواضح أن موسى عليه السلام لن يطلعهم من مصر لكي يرميهم في الصحراء ويتركهم يموتون بالعطش، الرب ليس باهظ الثمن إلى هذا الحد ثم إنه يملك المقلاع.
وقد أعطاه لسيدنا داوود عليه السلام، لقد كان بوسعكم أن تعرفوا ذلك مقدماً من الفنجان، وتعرفوا أيضاً أن سليمان سيأتي في أعقاب داوود عليهما معاً كل السلام ويأتي قبلهما إلياس عليه السلام ويعقوب عليه السلام ويوسف عليه السلام، وأن الرب سيقف بجانب أبنائه إلى آخر قطرة من دمه ويأخذ أبقاركم وعجائزكم ويقتلكم بيده ويلعنكم ويحملكم أيضاً إلى النار.
لماذا لم تتعلموا قراءة الفنجان؟
لماذا لم يقف بينكم رجل عاقل ويقول لمواطنيكم: “احترسوا من الرب، احترسوا من سيدنا موسى عليه السلام، إنه قادم من مصر ممتلئ الجراب بالمن والسلوى وإذا لم تطعمه السماء إلى الأبد فإنه مضطر إلى أن يأخذ حقولكم وأبقاركم، احترسوا من داوود عليه السلام الذي يملك مقلاعاً سماوياً. احترسوا من سليمان عليه السلام الذي لا يملك المقلاع فحسب بل يملك أشياء أخرى أكثر تعقيداً.
لقد كان الفنجان قادراً على إنقاذ شعب فلسطين. وكان بوسع الفلاحين البسطاء الذين حملهم الجهل وحده للإقامة في تلك المنطقة أن يتجنبوا الموت على الأقل، ويذهبوا لملاقاة سيدنا داوود في صحراء سيناء ويقبلوا الأرض بيم يديه ويقولوا له بلسان السماء المعترف به:

“شالوم يا أصحاب المقلاع. نحن نعرف كل شيء مقدماً، ونعرف أن الرب أعطاكم أرضنا، فليتقدس اسمه في الأعالي، إننا لا نزمع أن نخالف أوامره بالطبع، تفضلوا أقتلونا عن آخرنا..”

أف أيها الصديق الذي أعرفه في غزة. ما الذي دعاكم إلى قتال سيدنا داوود وسيدنا موسى وسيدنا سليمان، ألم يكن بوسع أحدكم أن يحدس أن أنبياء الرب يملكون المقلاع.


الصادق النيهوم
1970
أعلى