إبراهيم أحمد - محكمة الطير !

ibrahimAhmad2.jpg

ثلاثة رجال منفيون متقاربو الأعمار وقد تخطوا الخمسين. اعتادوا السير معاً كسرب صغير بعيداً عن الأسراب كلها ، يعيدون كل يوم تقريباً تجوالهم في شوارع أودفالا. يدخلون محلاتها الكبيرة ، يعلقون على الأسعار وأحياناً ينخرطون بنقاشات حامية وقصيرة مع الباعة بلغتهم السويدية الملفقة المهشمة والمعدومة تقريباً والتي يستعينون على افتقادهم لمفرداتها الضرورية بإشارات أشد وجعاً لهم مما لو كانوا خرساناً رغم أنهم عادة لا يشترون شيئاً.كانوا يقطعون وقتاً طويلاً فاضاً عليهم أو في الأقل لاثنين منهم حيث هما يعيشان كل لوحده في شقة صغيرة حيث لم يستطيعا أن يخرجا عائلتيهما من العراق فظلا يعانيان من وحشة ووحدة قاسية. يواصلون سيرهم حتى شاطئ اللسان البحري الممتد داخل المدينة حيث تصطف على ضفتيه قوارب وسفن صغيرة وصيادون معظمهم لاجئون عاطلون عن العمل يلقون سناراتهم في الماء العكر لفترات طويلة دون صيد. يجلسون على أحد المصاطب الخشبية ،غالباً يعلق أحدهم كلما جلسوا " في بلداننا لم نكن نحلم أن نجلس على مثلها في بيوتنا! " يرد آخر منتفضاً :
ـ لا تنس أن بلداننا غنية لكن حكامنا لصوص!
لحظة صمت لا تطول عادة تمر مشبعة بهواء البحر ورائحته الثقيلة حيث بقع من زيت البواخر تمر طافية أمامهم مشعة بألوان قزحية.يقطعها أحدهم باستعادة أشياء وشجون من وقائع حياتهم الماضية في البلاد التي اضحت بعيدة وأقرب للمستحيل ،بعضهم يروح بسهوم حزين يقصر لأو يطول وينتهي عادة بجذب حسرة او تهيدة أو بنفث سحابة كثيفة من دخان سيجارة ومسح عينين رطبتين بدمع أو رشح من تحجر مزمن تحت الجفون! بعضهم يثرثر بما لديه مطلقاً ضحكات أو سعال أو تجشأ يقرف منه صحبه بصمت. أحدهم يطلق الأحكام شديدة صارمة حتى لينهض ملوحاً بقبضته كأن خصمه أمامه ويريد هو تنفيذ حكمه العاصف به.يتبادلون وقائع وذكريات حياتهم الحزينة والمفرحة عبر الليالي والأيام البعيدة .فتختلط وتتداخل كزهور واشواك جفت فلعبت بها الريح حتى ينسى أحدهم ويغفل ويقر في نفسه أن ما سمعه من صاحبه قد وقع له فيروح يرويه في الأيام التالية على أنه نزيف عمره ناسياً أنه ينزف أكثر من جهة أخرى فينشب بينهم نزاع خافت متردد أو يحل صمت ووجوم. أحياناً يصدق بعضهم أن ما حدث لم يحدث له بل حدث لغيره فيرتاح من هوله وعذابه ويستسلم لطمأنينة قلقة مزعزعة يداريها كيف ما اتفق له عبر الأحاديث التي تتقلب كل يوم .ةأحياناً يحس أنه غلب وقد استحوذ حتى على رماد حياته فيصول غاضباً لحظة ثم يهداً مستسلماً لحقيقة أن كل شيء قد ضاع ولا يجدي النضال من جديد لاستعادته! من كانت تدمع عيناه يصير مهذاراً ثرثاراً حتى ليكاد يضيع حقه وآلامه بالكلمات المائعة المبتذلة . ومن كان مهذاراً مثرثراً بآلامه يستحيل فجأة صامتاً كتوماً حتى يحس أن دموعه تتهاطل لا من عينيه المسبلتين بل من الغيوم والأشجار فتروي مآسيه الكثيرة وتعيد أحياءها ساطعة ملهمة. في لحظات تفرغ فيها ذاكراتهم كطواحين الماء المهجورة من قضايا كانت تحرك ألسنتهم المهذارة كمباضع جراحين يتعلمون الجراحة بجروحهم، ويبدون غباء وحماقة وقسوة حين يخوضون بجروح غيرهم وأحياناً يحدث العكس وكلا الأمرين ثقيل ومنهك لهم أو لبعضهم في الأقل! يصمتون برهة ثم فجأة يتدفقون بالكلام .لم يكن يفلت من ألسنتهم طير أو سفينة وقارب أو رجل أو امرأة خاصة إذا كانوا مجتمعين في لقاء أو جلسة حميمة أو مروا أمامهم متعانقين أو ثملين. هذا اليوم صارت لعبتهم الطيور تحلق حولهم سوداء بيضاء ملونة في جو دافئ لا يأتي فيه الربيع في السويد إلا في الصيف! ربما أثر بهم حديثهم الذي قطع ونسوه ليلة أمس عن هجرة كثير من طيور اسكندنافيا وشمال أوربا إلى هناك حيث بساتين وضفاف وبراري بلدانهم، فتبدوا وكأنها قد أضحت سكرانة نشوانة غائبة عن الدنيا في رقص وتغريد وشدو شاعرة أنها قد حطت في جنة النور والعطر والعصائر الخمرية بعد أن كانت غارقة في صقيع وظلام الشمال وتظل تتلاعب مرحة طيارة هاذية حتى تسقط منهكة أو تعود حاملة زاد عام من الدفء والنور والشذا قال أحدهم :
ـ كنت أرى الطيور القادمة من أوطانها البعيدة، تتنقل على أشجار البساتين والحدائق بألوانها الغريبة الزاهية المشتعلة تحت نور الشمس ، فتقفز روحي من أحشائي فجأة وتستحيل طيراً مغرداً معها ، وحين ترحل هذه الطيور عائدة لأوطانها كانت روحي تتزعزع وتبرد لا من الشتاء بل لأني أفتقدها كأنها قد هاجرت معها، فأقلق متمنياً أن لا تكون شباك أو بندقية صياد قد تصدت لأسرابها الوديعة في الطريق، لم يكن يدور في خلدي يوماً أنني سآتي إلى بلدانها، أنظروا كيف انقلبت الأشياء كان جسدى يظل هناك وروحي تأتي إلى هنا اليوم جسدى هنا وروحي هناك أية لعبة قاسية مدمرة هذه !الغريب إنني لم أجد طيوري الحبيبة تلك وجدت الغربان والشقراق والنوارس والحمام أما طيوري القديمة التي ألوان ريشها أكثر تعدداً وتوهجاً من زهور الأرض ونغماتها أكثر شجواً من حناجر المغنين فما تزال حلمي الذي أبحث عنه على هذه الأرض ولا أضنني سأجده فقد أغرقتنا هنا هموم أخرى!
صمت وراح يهز رأسه .انطلقت من أحدهم ضحكة مجلجلة وكان قد دخل طور الهذر :
ـ الطيور حين تحل ببلد بعيد تتراقص على أشجاره كالأنغام أو كالأحلام ،أما البشر فهم إذا حلوا مهاجرين ببلد غريب تقافزوا على أغصانه كالقردة !
استجاب له الآخر بضحكة هادئة متحفظة ، أما ذاك الذي تحدث عن الطيور المهاجرة فقد بدا كأنه لم يسمعه. ظل تائهاً مع طيوره الجميلة حقاً في أحد بساتين بلدته على ضفة في أعالي الفرات!
ران عليهم صمت حزين ، وتشاغلوا يرقبون الطيور وهي تحط على الأرض الخضراء المكسوة بالثيل الكثيف . طيور ماء تهبط من صواري السفن ثم تطير إليها ، بط أبيض وأخضر تسعى وفراخها من الشاطئ ، غربان الزرع ،شقراق ، عصافير، حمام ،وزرازير، تجتمع وفق أجناسها وتجتمع مختلطة كذبة قاعدة أن الطيور على أشكالها تقع.بينما طيور أخرى لا تجتمع بل تسير الهوينا أو شاردة ناشدة وحدتها وعزلتها وكم تكون عزلة الطير موحشة حزينة هائمة!
ران عليهم صمت ، تقطعه أصوات السيارات العابرة وضجيج الشوارع المتقاطعة ، وبوق سفينة قادمة أو مغادرة. تذكر أحدهم الجولة التي نظمتها البلدية لهم في المتحف الطبيعي عندما حلوا لاجئين في أودفالا ، نقل لهم المترجم بوضوح كلام دليل المتحف ،الرجل السويدي الطويل الضخم عن الطيور المهاجرة والآبدة :
ـ أعجب ما في الطيور المهاجرة،ليس أنها تضع في دم أبنائها خرائط طرق العودة لأوطانها بل أنها تفكر بالعودة لبلادها رغم أنها رأت بلاداً أجمل وأدفأ منها ! كان الصمت يخيم على لاجئين وجدوا أنفسهم في عالمهم المزدحم بالآلات والطرق الطويلة والعمارات والشاحنات والطائرات وقد استحالوا طيوراً منهكة ، نظر إليهم يستحثهم للكلام غير مكترث أنهم عاجزون عن لغته ويستقبلونها عبر مترجم متعب ضجر، أشار إلى طيور ضخمة في أوكار اصطناعية ، قال إنها مقيمة أبد الدهر في هذه البلاد رغم صقيعها وظلمتها الطويلة أردف :
ـ ربما نشأت هنا أو أتت من مكان آخر لكنها مقيمة هنا أبد الدهر تتبادل مع الشواطئ والغابات خيرات الأرض ومتى ما أخلت بالتوازن تناولتها يد السلطات المحلية أو الصيادين بمعالجات مناسبة!
خطر لأحدهم أن كلماته هذه كانت عفو الخاطر. وتتعلق بطيور المتحف اللطبيعي وهي كلمات يردده الرجل حتى لتلاميذ المدرسة السويدية حين يزورونه! لكنهم وقد ابتلوا بحساسية اللاجئين المتعبة ، رهافتهم المرضية التي تترجم حتى تقدم كلب أمامهم في السير بأنه تحذير من أهل البلاد لهم بضرورة الرحيل! شموا من كلمات رجل المتحف رائحة ذلك التحذير الذي يخرج من أفواه رجال ونساء عنصريين . وهنا فقط أحس بعضهم أنهم طيور حقاً لكنها طيور مرت بحريق طويل ةفقدت ريشها!
لاذ الرجال الثلاثة بالصمت لكنهم الآن في جلستهم قرب البحر والطيور راحوا يخترعون لأنفسهم كلاماً لم يقولوه في المتحف الطبيعي ، وراح بعضهم يصدق بعضهم أنه قاله فعلاً :
ـ تتذكران كيف طلبت من المترجم أن ينقل لدليل المتحف ، وأنا أسلط عليه نظرات مزدرية أن الطيور بطبعها تريد البقاء في أوطانها وأعشاشها وحتى إذا هاجرت عادت وهي اشد توقاً وتعلقاً بأغصانها ومروجها الأولى!
ويقول آخر :
ـ قلت له ليس فقط للشجر والزهور والناس جذور للطيور أيضاً جذور أقوى من خيوط الحرير هي لا تغادر إلا إذا اقتلعتها عاصفة ماحقة وتبقى محلقة لا تحط إلا إذا وجدت أن لا مفر من الغصن الغريب!
يرد الثالث :
ـ قد تكون الطيور وديعة أو شرسة لكنها إذا أهينت في مهاجرها نبتت لها مخالب!
وأيقنوا جميعهم : أن رجل المتحف الطبيعي بدا واجماً بعد أن نقل له المترجم كلامهم وتوافقوا أن العلاقة مع هذا الرجل وأمثاله "ستكون المرارة التي تخالط الخبز الناعم الذي نأكله في هذا البلد!"
اقتنعوا أن هذا قد حدث رغم عن كل واحد منهم يتذكر كيف كل واحد منهم بقي حزيناً صامتاً بل مطأطئ الرأس عاجزاً وأحياناً ينظر في وجه الآخر ، لقد كانت قلوبهم مجروحة آنذاك ولم ينبر أحدهم للرد ربما لأنهم غير متأكدين أن رجل المتحف يغمزهم،ذاك عزاء جميل لكرامتهم على أي حال ،هزوا رؤسهم موافقين على ما رووا وانطلقت ألسنتهم تختلق كلاماً وتوعد بكلام أقوى فيما إذا تعرضت كرامتهم لمحاولة استهانة أجمعوا في اتفاق محسوم :
ـ نعم كرامة اللاجئ أهم من لقمته!
ـ ينبغي أن لا ننسى إننا خرجنا من أجل كرامتنا.
كانت الطيور تتجمع حولهم يحلق بعضها ثم يحط و تأتي طيور أخرى تدور على الأرض الواسعة والمحاطة بأشجار باسقة وأرصفة ورد بدأت تتفتح ،على الأرض الخضراء تتناثر بقايا خبز وحبوب يأتي بها أناس يجدون متعتهم في إطعام الطيور، أمهات يعلمن أطفالهن الرفق بالطيور ، عشاق يعدون بعضهم الحنو على بعضهم، رجال ونساء يتبارون في تذوق اللمسة الناعمة! كانت طيور كثيرة تتطاير حولهم في تآلف وهي تتناول فتات الخبز ،من رجل عجوز ترتعش يداه ورقبته،نفض الكيس وتطاير الفتات كثيرون يعرفونه فهو يدور على المطاعم يأخذ منهم بقايا الخبز ويأتي لينثرها مائدة سخية للطيور لا يتخلف عن المهمة التي ألقاها على كاهله منذ سنين خاصة في أيام الشتاء حيث تتغطى الأرض بالجليد ويشح طعام الطير! مضى العجوز تاركاً الطيور تتجمع حول وجبته الطازجة الشهية! ، راح الرجال الثلاثة يرمقون الطيور وهي تأكل وتلغط وتزقزق وتتصايح وقد تجمع حولها أطفال مع أمهاتهم ، استداروا سائرين متمهلين وقد استعادوا جو متعة التجوال والنزهة الطليقة في هذا المكان الواسع الفسيح الممتد على طول اللسان البحري ، تلال وسفوح صغيرة متموجة مكسوة بثيل وعشب أخضر كثيف ، تحفها أحواض وأرصفة ورد ندية يانعة تنتصب بينها أشجار ضخمة عالية وأشجار واطئة بكتل أغصان وأوراق كثيفة مستديرة كمظلات ضخمة يجلس ويضطجع تحتها فتيات ونساء بثياب قصيرة تختلط حمرة ما يتكشف من أفخاذهن وأجسامهن مع ألوان الزهور العاكفة عليهن ! صادف الرجال تجمع طيور أخرى ، عشرات من غربان الزرع تغطي بقعة مستوية من العشب الكثيف والثيل النامي. قال أحدهم:
ـ انظروا ربما يوشك الغربان أن يعقدوا محكمتهم!
كانوا قد سمعوا أن الغربان تحاكم الغراب الذي يقترف بينها جرماً أو مخالفة لتقاليدها ونظامها أومقرراتها ،لم يصدقوا الأمر وسخروا ممن حدثهم عن ذلك لكنهم رأوا بأم أعينهم غرباناً تعقد محكمتها حيث تتحلق حول الغراب المتهم ، وتنصب ثلاثة أو أربعة غربان بينهم رئيس ومدع عام وتجري كل ما يحدث في محاكم البشر من حركات وتصرفات وأصوات وتقوم بتنفيذ العقوبة بنفسها وكم رأوا الغربان ينقضون على الغراب المدان يطرحونه أرضاً ينقرونه أو ينزعون من ريشه أو يمرغونه بالتراب!
قال الرجل الذي نبههم على محاكمة الغربان :
ـ لا تنسوا أن قايل بعد أن قتل أخاه هابيل وندم عليه او أراد التخلص من جثته رأى غراباً يدفن رفيقه الغراب الميت ،بالأكيد أن الإنسان تعلم المحاكمة من الغربان،لكن هيهات له أن يكون عادلاً مثلها! كان الرجل مهوساً يعدالة الغربان! وجدوا أو هكذا أدخل الرجل يروعهم في حينها أن محكمة الغربان عادلة أو في الأقل شفافة فهي علنية وتعقد تحت الشمس وفي الهواء الطلق وكما هي سريعة صارمة فهي أحياناً تعقد وتنفض دون أن يعاقب الغراب المتهم الذي يسمح له برفع عقيرته بنعيق يصم الآذان مما يدل على أنهم ديمقراطيون ومتسامحون! وقد شهدوا في جولاتهم وجلساتهم هنا بعضاً مما أسموه أو تخيلوه من محاكمات الغربان ، وكم اقتربوا من محاكمها ذات القاعات العشبية والمنصات المحاطة بالزهور بينما يكون قفص الاتهام عادة مجرد منخفض فيه زهور ملونة نابتة لوحدها بين العشب! كان الرجال الثلاثة يخمنون ويتوافقون ويختلفون فيشوشون على الغربان في أجوائهم القضائية في الهواء الطلق بل كثيراً ما تسببوا انفضاضها وطيرانها بعيداً،ولا يعلم أن كانت الغربان تنسى قضاياها ومحاكماتها أم أنها كالبشر تنسى ما تريد وتتذكر ما تريد .
كانت الغربان محتدمة ضاجة بأصواتها الناعقة الحادة وقد أخذت تجذب انتباههم ،حلقتها تحيط بالطير المتهم وكان مهتماً قلقاً بل وفزعاً ويبدو غراً ساذجاً متورطاً وثمة غربان حوله وكأنهم الشهود أو المحاميين أو المشتكين.أعجب ما في الأمر إنه لا يطير هارباً.هل لأنه يعرف إنهم سيطيرون في أعقابه ويلقون القبض عليه ويشددون عليه العقوبة أم هو ممتثل للعدالة راضياً بحكمها وقرارها؟
الغربان يدورون بحدة ولجاجة غير مكترثين للسيارات والسابلة الذين يمرون غير بعيد عنهم ،بعضهم يستقيم واقفاً على رجليه فاتحاً جناحيه مرفرفاً بهما مزمجراً غضباً دون أن يفقد رصانته.وبعضهم يرسل أصوات محني الرقبة هادئاً وقوراً مثل قاض عركته السنون والتجارب. راح الرجال يرقبون المحكمة باهتمام يقرب من الجد والصرامة يفسرون في نفوسهم تفاصيلها التي تلوح لهم بشكل غامض فيجلونها كيف يشاءون .قال أحدهم :
ـ على أية قضية يحاكم الغربان رفيقهم الغراب هذه المرة ؟
رد آخر على الفور :
ـ وماذا غير القضية الأبدية أن يكون قد تجاوز على صاحبة رفيقه يراودها عن نفسها ؟
قال آخر:
ـ لا أعتقد أن الحب يشغل بال الطيور وهو مبذول لديهم أكثر من البشر بل هم حلوا معضلته أفضل من البشر . أعتقد أن الأمر يتعلق بالمسألة السياسية التي ابتلعت الحب وكل قضية جميلة أخرى ،ربما يكون هذا الغراب المتهم قد حاول تخريب نظام السرب في طيرانه أو سعيه على الأرض فحاول الالتحاق بسرب آخر أو جلب طرائق أو نغمات من سرب آخر!
قال الثالث :
ـ أنتما تضخمان الأمور . أعتقد إن الأمر ابسط من كل هذا ، ربما هو فقط انتزع قطعة طعام من منقار صاحبه!
كأن الرجل الأول تذكر شيئاً فتراجع على الفور قائلاً :
ـ الطيور ليست كالبشر تعقد محكمة على قضايا يمكن حلها في المقاهي ، أعتقد إن الأمر يتعلق بجريمة قتل ،هذا الغراب متهم بجريمة قتل غراب أو طير آخر!
ـ لا !
قالها آخر بحزم :
ـ الطيور لا تقتل ، لا تعرف الأسلحة وحتى الطيور الجارحة فهي تستعمل مناقيرها ومخالبها في الأكل من جثث يتركها البشر في حروبهم أعتقد أن الأمر لا يتعدى لعبة مرح ،ربما هي محاكمة للتسلية الطيور تمرح بما يجد به البشر ويحرقون بعضهم بأهواله!
قال الثاني:
ـ ربما إنه خرق قانون حماية البيئة ،حمل شيئاً من مكان إلى آخر!
جاراه الأول قائلاً :
ـ ربما ألقى فضلاته في باحة كنيسة على ثوب عروس كانت تزف لتوها أو على راس قس لم يفرغ من إلقاء موعضته!
قال الثاني ضاحكاً متخلياً عن كل تكهناته:
ـ ومن يدري ربما هي مجرد تهمة باطلة، دعوى كيدية!
قال الذي ادعى أن الأمر يتعلق بقضية حب ،غرام بأنثى ،وجد نفسه يقول متهللاً وقد وجد انه قد مضى بفكرته إلى المطاف الأخير :
ـ لا الأمر كله ينحصر أن المتهم قرر هجر سربه وموطنه والسفر بعيداً!
ضجر الأول من تكهنات يمكن أن لا تنتهي وقال :
ـ ترى ماذا سيكون الحكم ؟ السجن؟ كيف يسجن الطير ؟ الإعدام قتلاً بالمناقير والمخالب ؟ أم النفي ؟
رد أحدهم وهو يطلق آهة جادة :
ـ النفي أقسى من الإعدام!
صار أحدهم ينظر في وجه الآخر بشيء من الجد وكأنهم نسوا أنهم كانوا يلهون بهذه القضية ويمرحون قاطعين زمنهم الطويل البطيء الثقيل في هذا المنفى .
لمح أحدهم أشياء وسط حلقة الغربان يحركونها بأجنحتهم ومخالبهم قريباً مما يفترض إنها هيئة محكمة الطير ، أحس أنهم يختلفون حول أمر لم يعد تافهاً عابراً قال :
ـ فضاً لخلافنا ما رأيكم أن نقترب من حلقتهم ونرى الأدلة الجرمية التي يتداولونها ومنها نعرف طبيعة القضية المنظورة أمام محكمة الغربان الموقرة ؟
نهضوا دفعة واحدة وساروا صامتين باتجاه حلقة الطير وبخطى هادئة حذرة لكي لا تجفل الطيور فتطير وتطير معها الأدلة الجرمية أو الحقيقة التي يبحثون عنها! ،أحدهم وجد نفسه يبطئ بخطواته دون أن يحول بصره عن باحة محكمة الطير وقد قر في نفسه أن هذه المحكمة قد جذبتهم واستغرقتهم واستحوذت على اهتمامهم وكأنها محكمة بشرية وتخصهم وليست محكمة طير أقرب للوهم! اقتربوا من حلقة الطير التي كانت دائرة واسعة تضم عشرات الغربان .حتى صار بإمكانهم أن يروا انحناءة أعناقها الرمادية وتحديقها بوجوه بعضها وأخذت أصواتها ونعقاتها الغاضبة تسمع بوضوح أكثر وهي تتبادل مرافعاتها وأقوالها بينما نور الشمس يغمرها مشعاً دافئاً والنسمات تمر خفيفة تحرك ريشها كأنه تداعبه وتحثه في مجريات ووقائع تتعلق بعدالة مبهمة ولا تخص الغربان وحدهم .ندت عن أحدهم خطوة أخرى كانت زائدة وفوق ما يحتمل الطير في قربه من البشر أو قرب البشر منه ،فأطلق أحد الطيور صيحة (ربما هو رئيسهم أو رئيس محكمتهم )أعقبها هياج مصطفق للغربان المجتمعة وهم يقلعون سرباً واحداً موحداً .طاروا بمحكمتهم وكأنهم ظلوا محافظين على تشكيلتها والمسافات التي تفصل بين شخوصها الغربانية! طاروا بهدوء حالم منسق عادل ،كان الغربان في حالتهم العادية لا يخشون اقتراب الناس منهم ،كانوا في الحقيقة هم يقترون من الناس ويأكلون من أيديهم ويسعون بين أقدامهم، قال الرجل الذي توقع أن المحاكمة تتعلق بشأن مصيري يخص الغربان :
ـ هذا يؤكد حرصهم على أن تظل محكمتهم بمنأى عن البشر أو أي تدخل آخر ولا تتشوش أو ترتبك فتجنح أحكامها لمجرى منحرف!
كان سربهم يحلق عالياً ومحكمتهم تصعد معهم لسماء حقيقية واضحة بعيدة.قال أحدهم كأنه اكتشف شيئاً خطيراً :
ـ كم الطيور سعيدة لها حرية السماء والأرض ومع ذلك تصارع وتحاكم بعضها من أجل المزيد من الحرية!
هز زميلاه رأسيهما ربما كانا يوافقاه أو إن كل منهما راح في خاطر مختلف! اقترب أحد هم من تلك الأشياء التي كان الغربان يتقاذفونها ، كانت أشياء صغيرة مختلطة أمكنهم أن يميزوا بينها: لعبة طفل مهشمة متسخة، علبة بيرة فارغة مبعجة ،جورباً نسائياً ممزقاً قذراً، وكسر خبز معفرة بالطين، خرق قماش ملونة جديدة ،أوراقاً حائلة كأنها رسائل ركنت جانباً ولم يجب عليها،واق جنسي ممزق، ريشة طير كبيرة كأنها لنسر اجتاحهم أو مر من فوقهم. قلم جاف مكسور، علبة فارغة لحبوب الصداع .راح أحدهم يهز رأسه لم يفهم شيئاً من هذه الأدلة الجرمية،أو الأشياء التي وجدت بأفعال بشرية مصادفة بين لمة الغربان قال آخر :
ـ ألغاز أم أدلة جرمية ؟ من يستطيع أن يعرف أية قضية هي موضع النظر ؟
رجعوا أدراجهم صامتين وكأنهم كانوا في قضية جدية صارمة ، لكن اثنين منهم زاد وجومهما حين رأيا في عيني صاحبهما بريق دموع أو ذكرى . أسرعوا نحو المصطبة مطرقين .ألقوا أنفسهم عليها وقد شعروا بتعب مفاجئ وقد ران عليهم صمت حزين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى