احمد الحاج جاسم العبيدي - لوليث

"لماذا لا تنام يا بني قبل أن تأتي لوليث"، قالت الجدة لحفيدها الصغير وهي توسِدُهُ يدها اليمنى بعد أن قاومت النعاس المخيم على جفنيها رغم إلحاح الصبي في أن تحكي له قصة جديدة بعد أن ملَّ مغامرات الثعلب ومالك الحزين وقصص السعلاة وحسين النمنم. لم تتمكن الجدة من مواصلة حكايتها من التعب الذي حل بجسدها والألم الذي أمسى يتلصص عبر مفاصلها بعد يوم حافل بالعمل المضني مابين البيت والحقل، غير انها تحاملت على نفسها وأجابت: "انها طائر غريب وكبير الحجم ومتعدد الأجنحة برأس أفعى تأتي كل ليلة تبحث عن الأطفال اليقظين كي تأخذهم".
الى أين تأخذهم يا جدتي؟
الى مكان فوق الجبال العالية التي نراها في الأفق.
وماذا تفعل بهم يا جدة؟
ربما تحرقهم أو تأكلهم.

كان الامتحان قاسيا عليه بعض الشيء، جعله يشعر بطول السلم الذي هبطه من اعلى التل حاملاً أوراقه بيده باتجاه مكانه المعهود، أخذ يشعر بدوار يدب في رأسه، الشمس تلفح وجه الأرض، ونسمات الهواء تسكن شيئا فشيئا، جموع من الطلبة تمر من أمامه مرَّ السحاب والفضاء واسع أمامه مدار الأفق، الزمن ينجلي عن صفحة مطوية بداخله ومركونة في سر أعماق بنيانه المتأرجح في أروقة من الذكريات الأليمة، الأوراق تتطاير من أمامه بصورة عشوائية، "أنني لا أستطيع الانتظار بعد، فقد سئمت الوعود التي استحالت الى سراب".

أندست الطفلة بحضن جدتها بعد انطفاء الفانوس الصغير واستحال الفضاء الى ظلام دامس فشعرت بقشعريرة تدب في اركانها لا تعرف مصدرها هل من شدة الخوف أم شدة البرد؟ فسألت جدتها أن تقص لها حكاية جديدة تبدد ظلام الكون الحالك من حولها وتذهب عنها موجة الرعب التي تسري بجسدها.
حسنا ياجدتي ما هي حكايتك التي وعدتني بها عندما طلبت مني أن أحضر لك الماء هذا الصباح؟
سأُحكي لكِ قصة طائر العنقاء.
ولماذا يسمونه كذلك يا جدة؟
إنه طائر إرجواني بريش متعدد الألوان جميل جداً حتى أنه يُضرَبُ بها المثل في الجمال.
ولكني لم أرها يا جدتي مع الطيور التي تهبط في حقلنا المجاور ولا حتى مع تلك المهاجرة في نهاية الصيف.
إنها تأتي ليلاً لتؤنس البنات اليقظات وتبشرهن بحسن الطالع.

ذكريات من الماضي وصخب الحاضر، وصورة مرسومة للزمن المتأتي من وراء الجدران، كلما ذهب اليها ودخل في مقتربات كيانها، شعر وكأنه لص يتحين الفرصة لينقض على خزينة الدار، يجلس بالقرب منها يقلب أوراقه وهي تحدثه عن مشاكلها الخاصة، وهموم العمل، وتعب الأيام، وهو يختلس النظرات اليها متأملاً اشراقة وجهها المتواري وراء الحجاب وهي تقبع خلف مكتبها بين الفينة والفينة، لمح صورتها عن بعد وهي تسير أمامه، ظن لأول وهلة أنها سراب عمودي يتمادى أمامه من شدة الحر، لكنه تبين أنه يرى الحقيقة وسط العالم المتآكل من حوله، تشق طريقها بهدوء وخفة، طيف يسري على نغمات هادئة، رتيبة، ونسمات تصرخ بداخله كطفل رضيع.
لقد كسبت الورقة الرابحة.
كانت مغامرة شبه خطرة وجنونية.
مرعبة جدا، أليس كذلك؟
بعض الأحيان، أو ربما.

وقف يعد اللحظات في انتظار عودتها في الممر الطويل الذي يخفيه عن أشعة الشمس، كان في وقتها يتأرجح ما بين الماضي وما وراءه، وما هو آت وما بعده، متحاملاً على نفسه كما يبدو لعابري السبيل، لكنه كان يتأرجح من الداخل فقد كان يتمرغ في مخاض اليم، رمقته عن بعد واستدارت بين جموع الطلبة لتقف أمامه، كان يراها حقيقة، بنظراتها الخافتة، وثوبها البني، وابتسامة شفافة تشوبها مسحة من حنان كان ينتظرها منذ سنين، سألته عن صحته، وعن إمتحاناته، وسألها أيضا عن جزء من ماضيها وسبب معاناتها، وسألته هي عن مستقبله وما يريد أن يبلغه من زمنه القادم.
نلتقي الأسبوع القادم؟
ربما! نعم، لا !
ولماذا الإحتمال؟
لأنه لدي فكرة عن إجازة لمدة شهر كي أستريح من مشقة العمل والدراسة فانظر ماذا ترى؟

ترنح للوراء قليلاً وشعر بالدوار يثور بأم رأسه، يهاجمه مرة ويتمرد عليه ثانية، وبدأ العالم يسافر من حوله عن بعد، الموسيقى راحت تتلاشى رويداً رويداً. لم يتبقَ إلاّ هي ماثلة أمامه بقامتها المتوسطة ونظراتها الهاربة خلف قامته الطويلة.
سأتعطل عن الكتابة لمدة شهر، كي أستريح من مشقة أحلامي وآمالي.
لم تكن كتاباتك لي كي تتعطل بهذه البشاعة.
والهامي؟
شيطانك!

ابتسمت وهي تحدق به بينما ضحك ضحكته المعهودة واستعاد وعيه، وتشبث بمخيلته برباطة جأش وطمأنينة، "إنها تتسرب في اسطر كلماتي حتى تغنيها بشفافيتها وليتها تعلم ذلك، أو ربما علمت دون أن تبوح لي، قد تكون عاجزة عن فهم مقصدي أو ربما تتحرج ذلك ".
أريد أن أذهب الى ذلك الجبل ياجدتي.
وماذا لديك من عمل هناك؟
أريد رؤية بيتها.
لن تستطيع.
ولماذا ياجدتي؟
لأنها ستحرقك قبل أن ترها.

استدارت في وقفتها تجاه الباب وتذكرت أنها دائماً تفقده وسط الجمع الهائل من الكلمات، نظراته دائماً تهرب منها حتى تشعرها بحجم كتلتها وسط عالمه الواسع، "ثم لماذا دائماً تتبخر خلف ركام الحوادث؟ الا تعتقد أن الفرصة باتت مؤاتية، وأنك قد أوشكت على مواجهة الحقيقة؟". لاذ بصمت رتيب وايماءة غامضة جعلها تحس بأنه ربما يخفي عنها اشياء كثيرة، كثيرة حتى أكثر مما تخيل أو قال أو كتب، كتلة من الخطوط تقبع بداخله منذ سنين لم تستطع هي أو غيرها من إستشفافها خلال صمتاته اللاذعة ونظراته المتدحرجة باستثناء قوت يومها والذي يليه، تشعر بأنها أيضا بحاجة الى أبعاد مجسمة أكثر مما تعرف، كانت على انتظارها منذ زمن بعيد، لم تكن ترضى بالنزر القليل ولا بكثرة الوعود التي لا طائل منها، فهي حسب ما همست بإذنه مرة: "إنني اريد الكثير وحسبما أعتقد فاني أستحق الأكثر".
أنا ايضاً أريد الوقوف على أرضيتي.
أفرشي الأرض وروداً وبلليها بدموعك.
سنفترش المقبرة مبكراً، سننعم بنومة هادئة على التراب البارد.
حياة أشق من الموت، وموت أشق من حياة.

أراد أن يقول لها أنني أيضاً أقف على أرضية هشة، وأراد أن يصارحها بحاجته الى تضحية أخرى من جانبها ولو بشيء يسير، كما أراد أن يعلمها بأنه مغرم بها حد الثمالة. "لطالما مررتُ بكابوس في اخريات ليالي الشتاء الباردة وكم نهضتُ مرعوبا ترتعد فرائصي، وكأنني فقدتك في رحلة بحرية وسط المحيط، أو تهاويتِ من يدي في واد سحيق، أو أن طائراً خرافياً قد خطفك بعد منتصف الليل وذهب بكِ الى مكان مجهول".
ما هو هذا الطائر الذي يحاول أن يخطفني منكَ في كوابيس الليل الحالك؟
لوليث. ( قالها دون تردد ).
أخشى أنك قد.... ( قالتها وإرتسمت ضحكة على محياها )
لا. إطمأني لم أُجن بعد.
لماذا لا يكون طائراً جميلاً يُبشركَ بلقائي في صباحات الغد المشرقة؟
وماهو هذا الطائر الذي يمكن أن يرفرف فوقي كي يبشرني بكِ؟
العنقاء. ( قالتها دون تردد )

استأذنته لدقائق كي تذهب لمقابلة زميلتها كي تخبرها بأن عليها الرجوع وحدها هذا اليوم طالما أنها ستبقى معه، خَطَتْ دورة كاملة خلفه ثم عادت وجلست في مكان يتيح لها مراقبته عن كثب دون أن يشعر بها، راقبت حركاته وسكناته ونظراته لمدة نصف ساعة كانت كافية لتشخص حالته معها، ولما تأكدت من عدم صدق حدسها، عادت الى موضعها معتذرة عن التأخير.
هما خياران لا ثالث لهما.
دعينا نختبر الأصعب.
من سيكون الضحية؟
والجاني ايضاً، ثم ماذا؟

القت نظرة خاطفة على خصر ساعدها الأيسر، الدقائق باتت تنهب الوقت نهباً، والرُموزُ تَعجُّ بداخلها، تقبع أحيانا وتتمرد أخرى، مشيا باتجاه الباب، كان يتأمل عالمها الشفاف وكلماتها المبللة بالهدوء وهي تسري بين شفتيها سريان الماء في جدول صحراوي، حتى وصلت الى رَمزٍ ألمَّ به وهز كيانه كشراع، كاد يصل الى الشاطئ ولكنه استحال فجأة الى سراب.
إذن دعيني ياجدة أصعد الى السطح.
أخاف عليك فربما تطير بك بسهولة.
ولكن أختي تصعد يومياً لنشر الغسيل وإنزاله.
هي كبيرة ولا تستطيع لوليث حملها والطيران بها عاليا في الجو.

عندما دخل غرفته هذه المرة شعر بوجود تضاريس عدة تحتويها، ارتمى على الأريكة، لأول مرة يشعر بوجود سرير وأغطية تنام على فطرتها، الستارة كانت باللون الأصفر المخضر، وسندان قد جفت أوراق نباته منذ سنة حتى بات يبعث رائحة مميزة لصاحب المعشب الذي زاره مرة من أجل خلطة للقولون العصبي، جلس قرب النافذة وأشعل سيجارة، تعالت منها صيحات الدخان وراح ينفث سحابات متقطعة في الهواء، يحتسي كأس الشاي المر ويتأمل طيفها وهو يبتعد عنه شيئاً فشيئاً، كانت تسير باتجاه باب الجامعة الخارجي، لحظات كانت البقية الباقية له مرت كلمح البصر لتتلاشى من أمامه في الفضاء الفسيح، جموع من الطلبة تحتشد امام النادي وتدور حول نافورة الماء تضحك وتهمس وتتقولب، الموسيقى باتت تبعث صخباً يبدد خلوته وينفعل بداخله حد الجنون، العالم يضيق من حوله والأحلام تتباعد في جوفه على مدار الأفق، اختطف اوراقه براحة يده وبدأ يتدحرج ودوّامة من الحيرة تعصف به، وتتموسق بداخله تجعله يتمرد على زمنه كلما طرق ذاكرته طارق.
حسناً يا جدتي أريد هذه الليلة أن تحكي لي قصة لوليث بالتفصيل من أولها حتى أنام.

أخذ يتقلب في فراشه ويسوي بوسادته عله يجد للنوم سبيلا، لكن أجفانه أبت إلّا الأرق المعند لكل تجربة أو برنامج يقوم به، قرأ كل التعاويذ التي حفظها في فجر حياته، وتذكر كل الأشياء الجميلة التي مرت به عملاً بنصيحة جدته، ولكنها مرت بلا فائدة، راجع عددا من الأرقام الصعبة في جدول الضرب واشتبك مع عدد آخر من المعادلات الرياضية كي يتعب دماغه لكنها لم تجدي نفعاً، أخذت الأصوات تتداخل في مخيلته مع نشيج المزاريب المفعمة برائحة المطر ولفحة من هواء بارد مرت بجسده فأصابته برعشة رغم اللحاف الثقيل الذي يعتلي مضجعه، تذكر انه في بداية شهر تشرين وهذا يعني بدء موسم الغيوم والعواصف المطرية في بلدته، شعر بشيء من الطمأنينة لهذا الحدث ولكنه سرعان ما تبددت أمام تداخل أصوات غريبة يسمعها لأول مرة... أنصت مرات ومرات، كانت أصوات مفعمة بالألم والتوجع وتبعث على الرعب كأنها أصوات عفاريت مطاردة من أحد المردة خرج توا من أعتاب ألف ليلة وليلة.
ويحك؟ من أنتِ؟
أنا من كانت تخيف القلوب المتوجسة والأنفس المتحاملة !
وماذا تريدين؟
أنتقم لنفسي.
ممن؟
من الأطفال اليقظين وكل الحمقى والمجانين.
من أين قدمت؟
من أعماق الأساطير وأُحجيات العجائز الغابرات.
وماذا تنشدين؟
حياة مليئة بكل مرارة وبؤس وشقاء.
ويحك ! أعلى ظلم الآخر وابتلاع أمانيه !
هو من ظلم نفسه.

أراد أن يدس جسده في فراشه ويغطي كل نهايات أطرافه بلحافه السميك بحيث لا يترك ولا فتحة حتى لنسمة هواء يستنشقها كي يشعر بجزء من الطمأنينة وشيء من الأمن، حاول مد قدميه وإطالة هيكله لينعم بفرصة من الراحة التي كان ينشدها، ولكن الصوت عاد ثانية هذه المرة وربما شعر بمناداته باسمه شخصيا مما أثار فزعه، لماذا لا تكون احدى جيرانهم البعيدين، أو احد معارفهم قد ألمَّ به حدث، ولكن كيف يصل اليهم في هذه الليلة العاصفة والسواد الحالك؟ لماذا لا يكون صديقه الوحيد الذي يزوره بين فترة وأخرى يقضي ليلة سمر معه، ولكنه مسافر خارج البلد ويستحيل حضوره في هذه اللحظة.
أنت خرافة من خرافات الماضي المسطر بأحجيات الحاضر.
أنت الوحيد من يعرفني.
لِمَ تنشج المزاريب أنينك؟
لأنني احترق بالضوء أو أشعة الشمس.

عندما التجأ الى حضن جدته هذه المرة أصر عليها أن تكمل له ما بدأت من حكايتها الجديدة وعندما استرسلت في قصتها كان يقاطعها بأسئلته الغريبة كل مرة الى أن وصلت لنهايتها دون أن يجد ما ينشده. كانت جدته تغالب النعاس والتعب وسط الحاح الصبي على الإستمرار بقص الحكاية حتى يتمكن هو من الخلود الى النوم.
ولكن يا جدتي من هو أقوى من لوليث؟
بني البشر.
هل من الممكن أن يصطادها أحد منهم؟
أو يحرقوها؟
وكيف يا جدتي يحرقوها ولم...؟
لقد حرقوا كل شيء في الوجود يا بني، كل شيء.

قالتها واستسلمت الجدة لإغماءاتها المعهودة منذرة بها موجات منودرامية من الشخير المصاحب بسمفونيات من الصفير المعهود، أما هو فقد راح يتجرع ما طالت يداه من خراب الممالك والأمم وكأنه يود الإعتراف بكل جريمة مرت عبر العصور.

* منقول عن صفحة نادي القصة السعودي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى