د. مصطفى أحمد علي - زرت روما ولم أزرها..

أقمت في فندق فيلا سان بيو، في وسط روما، في حي من أحيائها القديمة.نصحني به لويجي، بل أقول أرشدني ووجهني إليه توجيها. كنت استشرته في فندق آخر، كان رده مقتضبا:"ولكن لا تقل لي إنك زرت روما!"لم أراجعه وإنما مضيت في الأمر.استقبلتني سائقة في المطار ودخلت روما عصراً. كان الجو بارداً مشمساً منعشاً يغري بالخروج والتجول، لكني لم أفعل. وعثاء السفر ودفء الغرفة وهبوط الليل المباغت ، ذلك كله أغراني بالنوم.
لم تدع لي اجتماعات الإيفاد متسعا لزيارة المدينة، تذكرت زياراتي لآل آلفيزي في ميلانو في فصول الصيف وجولات الشباب في مدن شمال إيطاليا، وبدء تعلقي بالآثار ومَعلمات الفنّ المشيدة والمنحوتة والمصورة في ميلانو وفينتيسيا وفرينتسه وكورتونه وبيزه وأرتزو وسينّا ومونتي سان سافينو، وبدايات تعلقي بلطائف الطعام الإيطالي واستكشاف صنوفه المتنوعة المتعددة، التولياتليي المرخوخة رقائقه باللبن، والتورتليني المصنوعة رقائقه على هيئة سرة فينوس و الإدام الذي يتناسب مع كلًّ ... تذكرت مواقف الفراق واللقاء والوداع الإيطالية الضاجّة الصاخبة التي كان طبعي يجد عسراً في مجاراتها...تذكرت الوجوه الخضراء الحيية والعيون الحزينة التي حملها قطار أرتزو...تذكرت إحدى رحلاتنا بالسيارة في الريف الإيطالي مررنا فيها بأورفييتي وزرنا كاتدرائتها القديمة التي يمتزج فيها النمط المعماري القوطي المشرئب إلى السماء ،بالروماني الثقيل ذي الأقواس، وبهرتنا فيها لوحات انجيليكو،العظيمة الأجساد المتسعة الأحداق. ثم بلغ بنا المسير إلى دار ماريا جوفانا شقيقة صديقنا كارلو . كانت الدار واقعة في أحواز روما وأطرافها.سجل قلمي حينها أنني زرت روما ولم أزرها!...ثم توالى مروري بمطار ليوناردو دفنشي في رحلاتي ما بين الشرق والغرب، ما بين أفريقيا وأوربا. مازالت أناقته عالقة بالذاكرة.تذكرت أني اقتنيت مرة منه ساعة كلاسيكية أنيقة بسيطة بيضاء اللون، أثيرة حبيبة إلى النفس، واستمر الحال...أغشى المطار وأغادره، أهبط وأقلع، أزور روما ولا أزورها!
كانت اجتماعات الإيفاد معنية بقضايا الفقر في الريف، تحدث في مستهلها الرئيس الإيطالي سيرجو ماتاريلا، بدا لي صادق النبرات ،نبيل الطلعة. أكد انحيازه للفقراء ولصغار المزارعين وللمرأة،أفاض في الحديث عن ما بين الاقتصادي والاجتماعي من ترابط وتأثير،ودعا إلى تيسير ولوج السوق العالمية لصغار المزارعين ، أصحاب الحيازات الصغيرة. كان خاطري ينصرف إلى السودان، فالقضايا هنا هي قضايا السودان بامتياز، ومع ذلك لم تكن "سلة غذاء العالم" حاضرة في المداولات !لم يكن السودان حاضراً، وإن كان السودانيون حاضرين! سودانيون من نوع آخر.زينب البدوي التي أدارت إحدى حلقات النقاش، ومحمد إبراهيم، الثري السوداني الذي كان متحدثاً رئيسياً في إحدى الحلقات.قابلت سفيرتنا في روما، كانت ممن عرفت من طلاب جامعة الخرطوم، هممت أن أذكرها بذلك العهد ورفاق ذلك العهد، كما هو شأني في ظروف مماثلة مع رفاق جمعتني وإياهم قاعات الدرس وأحلام الشباب وتطلعاته، وفرقتنا صروف الدهر وأرزاؤه،لم أجرؤ حينما بدا لي وأنا أبدؤها بالتحية، أن شيئاً من ألق السلطة وبريقها وخنزوانتها قد مسها، شأنها شأن بعض من بيدهم مقاليد أمورنا في السودان، هذا الزمان.
فغادر الهجر ما بيني وبينهمو = يهماء تكذب فيها العين والأذن
تحبو الرواسم من بعد الرسيم بها = وتسأل الأرض عن أخفافها الثفن

لاجرم ولا ضير!
عدت إلى الفندق في يومي الثاني عند المغيب، بعد انتهاء الاجتماعات، ثم رغبت في أن أتجول في الحي القديم.بدا لي أن شوارعه الصاعدة الهابطة المرصوفة بالحجارة في غالب الأحوال، أميل إلى الضيق منها إلى الاتساع.غالب المباني دور بديعة الصنع تنبئ عن عهود قديمة.المتاجر صغيرة أنيقة مضيئة متصلة البنيان. أجراس الكنائس لا تني تئنّ وترنّ وتختلط إيقاعاتها في الأفق الرحيب، وتنسجم مع تجليات الألق والضوء والحسن والجمال والفن، المؤتلفة جميعها في غلالة تأسر المشاعر وتسبي الحواسّ.
في يومي الثالث خرجت مبكراً من مقرّ الاجتماع. قصدت الكولوسيوم. روما الأباطرة والقياصرة تتجسد ههنا..رسوم قصور وقلاع ومسارح ... آثارٌ لا يجسر على عدّها عادّ ولا يحصيها محص!هذا تاريخ قديمٌ وغنيّ وممتدّ ومتصلٌ، سجلته الآثار،وقيدته كتابات المؤرخين، ونظمته الشرائع والقوانين، وأطّرته الدول والنظم، ووقف شاهداً عليه الكولوسيوم والمنتدى الروماني .جال بخاطري أن تاريخنا الذي نفخر به في كوش ومروي والنوبة نهض بعبء تدوين أكثر ما وصلنا من وقائعه وأحداثه، الرومان والأغريق! لا ريب أن أهل روما مدركون لذلك كله، ولا ريب أن مشاعر الفخر والكبر تملأ جوانح بعضهم. على أن روما ليست إيطاليا، والرومان ليسوا الطليان!
امتدّت بي جولتي في الكولوسيوم والمنتدى الروماني "فورو رومانو" وساحة البندقية "بلاتسا فينيتسيا "ونافورة تريفي "فونتانا دي تريفي" خمس ساعات. لم أكلّ ولم أملّ.خطر لي أن بوسعي أن أمضي أياما وأسابيع متصلة في تأمّل هذه الروائع واستشعار ما ينضح منها من معان وخواطر، وما تستبطنه وتنطوي عليه من طلاسم وأسرار!
جرت الرياح على رسوم ديارهم...فكأنما كانوا على ميعاد!
حثني لويجي على زيارة الفاتيكان. قصدته في يومي الرابع والأخير. هالني الميدان نصف الدائري الذي يكتنف الكاتدرائية،بدا لي مستعصيا على آلات التصوير أن تحيط به دفعة واحدة. ما تنطوي عليه الكاتدرائية من كنوز المنحوتات والتصاوير يفوق مقدرات المرء على التعبير والتمثيل والتقريب.الفوتوغرافيا هي غاية ما يُدرك وإن كان لا يشفي الغليل...ليت وقتاً أتيح، إذن لكنت زرت متحف الفاتيكان ووقفت على رائعة ميكيل آنجيلو.. ليت وهل تنفع شيئاً ليت!.. والعبارة القديمة تلاحقني:"زرت روما ولم أزرها!"
قادتني قدماي إلى الشوارع المحيطة بالفاتيكان، عادت ذاكرتي إلى عهد ألفت فيه شوارع شبيهة تصل ما بين الدائرتين الخامسة والسابعة في باريس، وتمتدّ ما بين الحيّ اللاتينيّ ومونبارناس، المقاهي والمتاجر الصغيرة الأنيقة المترفة، الفنّ والألق والابتكار.." صناعة يدوية بأيدي إيطالية"، حتى هذه العبارة تصدر حينما تصدر من الأفواه ،محملة بغنى التاريخ ووطأته وعبئه وسطوته وسلطانه، وتنقش على السلع فتزدهي بها السلع ويعلو شأنها ويغلو ثمنها!
استعدت خاطرة قديمة خطرت لي وأنا أنظر إلى الخضرة والرواء اللذين يضفيان على العتق والتاريخ معنى مغايراً لما ألفناه من سرمدية وقدسية على رسوم أجدادنا وآثارهم الباقية في وادي النيل.
وبعدُ، فهل ما سجّلته أحرفي عن روما يرقى إلى شيء؟
زرت روما ولم أزرها!


في سماء المتوسط ، بين روما والرباط،19 فبراير 2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى