أمل الكردفاني/ ارتباط- قصة قصيرة

كان علي أن أنجز العديد من الأعمال المهمة ؛ وهي مهمة لانقاذ أرضي من احتلال المستوطنين من البدو الرحل. وقد اقترحت محاميتي أن أقوم أولا بمسح كافة الأراضي المتبقية وتسجيلها على نحو رسمي ثم بعد ذلك أقوم بطرد المتغولين بجريمة التعدي بيد القانون لا بيدي. ثم أشارت لي بدون كلام إلى ضرورة أن أدفع بعض الأموال لتسهيل الأمر.
استقلينا سيارة الدفع الرباعي التي تستطيع اقتحام الكثبان الجافة كالدقيق لتزحف بنا في اخاديد الرمال كوحش كاسر.
وأشارت المحامية لمبنى من الطوب اللبن مشدود فوقه سقف من الأخشاب والسعف فتوقفت أمام بابه.
استقبلنا موظفان بترحاب وقدما لنا الشاي الأحمر مع بعض الفول السوداني والبلح وقد اكتشفت حينها أنه لا يوجد سواهما في المصلحة الحكومية. أخبرانا أن العمد والمشايخ يحلون أغلب النزاعات قبل وصولها إليهم ، وأن للعمد وثائق شفهية لكل أراضي المنطقة وكلمتهم كافية. أخبرتهم أن العمدة نفسه متعد على أرضي فدونا ذلك وطلبا مني انتظار ثلاثة أيام حتى يبعثا في طلب المهندس مساح الأرض...بقينا في قرية أبوكركوب بدون كهرباء وانتهى الأمر بانطفاء كل هواتفنا المحمولة. كانت المحامية امرأة شديدة الصلابة ولا تكترث لأي شيء مادام هناك مال قادم من الأفق حتى لو اضطرت للبقاء في عرين الضباع وسط كومة من العقارب.
مضت الأيام الثلاثة بصمت فالصيف يلف القرية بجفافه وسمومه نهارا وليلا. ثم التقينا أخيرا بالمساح الشاب وهو يحمل أدواته فوق سيارتنا. كان أسود البشرة ذو شعر ناعم وقد شرح لنا أنهم يدعونه بالهندي لهذا التناقض في ملامحه. وهكذا طفقنا نناديه بالهندي طوال انتقالنا بالسيارة من المصلحة الحكومية حتى بلوغنا للأرض. نزل الهندي والمحامية وسرنا سويا مسافة حيث كان السموم ينضح العرق من جباهنا. التفت المساح فجأة نحونا وقال ووجهه ينكمش كمن لسعته حية:
- اللعنة...
أغمض بعينيه وأصبنا نحن بالتوتر.
كانت المحامية سريعة الاستجابة حيث قالت بهدوء:
- لدي أمصال في حقيبتي...هل لدغتك عقرب؟
لكنه هز رأسه نافيا وعيناه مغمضتان ثم توكأ على أكتافنا وقال بضعف:
- أصبت بنوبة اكتآب...ساعة واحدة وتزول التعاسة من صدري وعقلي...
وكأناه حتى السيارة ومددناه على الكنبة الخلفية فأخذ يتنفس بسرعة ويقول:
- ستمطر...
وضعت المحامية يدها القوية والدافئة على صدره النحيل وسألته:
- هل أنت واع بما تقول؟
هز رأسه إيجابا وهو يقبض على تلابيب قميصه الرقيق ورأيت دمعة تنزل من عينيه المغمضتين..ثم غمغم:
- يأتني هذا الاكتآب عندما تتبدل المواسم والمناخات...أشعر بذلك .. هذا التبدل يكسر اعتيادي لأشهر على مناخ واحد.
قلت:
- لكن السماء صافية.. لا شيء في الأفق.
أمسك بيدي بقوة وقال:
- عد بنا بسرعة إلى القرية.
أدرت محركات السياردة وقبل أن أندفع بها لاحظت قطرات على زجاج السيارة...أدركت أنها ستمطر بالفعل وسيلقي بنا ذلك في متاعب حقيقية إن لم نبلغ القرية.
كانت الأمطار تلاحق مؤخرة سيارتنا ونحن نلاحق الأرض الجافة حتى بلغنا القرية.
توقفت الأمطار الغزيرة فجأة كما بدأت فجأة فقال الهندي:
- لقد دخلنا إلى الخريف بقدمنا اليمنى..سيصبح المسح صعبا..عليكما أن تؤجلا الأمر لوقت آخر...
نظرت إلى المحامية التي أكدت نظراتها اتفاقها مع المساح الشاب.
كنت أود لو سألته أكثر عن ارتباطه بالمناخات لكنه عرف من نظراتي ما أود قوله فقال مبتسما:
- أدرك أنك مندهش .. غير أن الكثير من الحيوانات لديها هذه القدرة خاصة الطيور...أنظر..
أشار بأصبعه إلى السماء الكالحة ورأينا أشباح سرب من الطيور بتشكيلة مثلث منفرج الزاوية فقال:
- إنها تهرب من كآبة المناخات المتبدلة وتسعى للبقاء في مناخ واحد طيلة عمرها....إنها تهاجر لتهرب من آلامها...
أشعلت قداحة السجائر ونظرت إليه بعينين غاضبتين ثم قلت:
- اللعنة... لقد نقلت لي العدوى... يبدو أنها ستمطر مرة أخرى...
ضحك بملء شدقيه لكن عينيه اتسعتا حينما انطفأت شعلة القداحة بقطرة ماء هابطة من أعالي السماء السوداء...

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى