راسم قاسم - دويّ على ايقاع متّزن.

الشارع يمتد على مدى زواياه المتداخلة ويتراقص امام عينيه مثل سراب عائم,

انفاس المدينة المكتومة تهمس في أذنه تعاويذ سحرية .

خطواته مثقلة بعدم الرغبة في الاستمرار وهو يعلم أن هذه العادة التي لازمته منذ اكثر من اربعين عاما اوشكت على الموت فكل شيء يتغير او يموت ،، ولم يبق من رواسخ العادات شيئا ,.

طفل عار يعدو خلف سرب فراشات , او يعتلي قصبة ويطلق اصواتا حادة تشبه نباح الكلاب ,,

التقليد الاول الذي لازمه منذ ان اصبح بمقدوره ولوج المقهى , ومجالسة الاصدقاء ومنذ أن احسّ بدفق رجولته وتنسم عبيرها الذي يدأ ينفث اريجا محببا , واستمرت تلازمه حتى بعد ان اصبح محملا بمسؤوليات اثقلت كاهله . كان وما زال يواظب على مزاولته مثل طقس دينيّ ,, عندما يغادر عمله اليومي لا يتوجه مثل الاخرين لبيته , انما يتوجه الى المقهى , ويجلس في ركنه المعتاد , يرتشف قدح شاي ويلقي باعباء العمل ومنغصاته , تعاوده رغبة خفيّة في حب النزق والطيش والميل للمرح والتمرد الشبابي الذي غادره واصبح تاريخا ..

يتبادل الاحاديث مع النادل وبعض الجالسين , ثم يغادر المقهى متوجها الى منزله ,,كل حياته سارت بهذه الرتابة تقريبا , بنفس الايقاع اليومي مثل رتابة الكون , او مثل ايقاعات قصيدة عمودية .

ويعاود عصرا الكرّة ثانية، يعود الى المقهى بعد ان يأخذ قسطا من الراحة والطعام ليهرب هذه المرة من البيت ومتاعبه , ليلقي من راسه صداع الحيرة وثقل الايام والليالي ويتجشأ السأم العالق في كيانه ,,يطول به الوقت هذه المرة , ينتظر وجوها اصبحت من لوازم ديمومته ومكملّة لكيانه .. توافد الاصدقاء وامتداد المساء والبحث عن دفء العواطف والحنان مثل معطف شتوي ,, تحتضنه العيون وتتشابك الاصوات , ينفثون في وجهه دخان السكائر , يتلقى كلامهم القاسي وضحكاتهم المؤلمة . يلقي كل زعانفه العالقة وقشوره الصلبة , يتحرر من وعث النهار ومن هواجس ثقيلة مرعبة .

الشارع العريق نفسه والانحناءات نفسها ، لمح ولأول مرّة ان الشارع بدا يشيخ , ظهرت عليه معالم القدم , بعد ان كان يبرز مفاتنه مثل أمراة جميلة تفتخر بشبابها.

رفع نظره الى الاعلى تتبع الشبابيك المغلقة الكابية اللون وأسيجة الشرفات المتآكلة التي فقدت الكثير من عزّها القديم ,, وياتت تحكي لنا من زوايا وبقع مازالت تحتفظ ببعض من رونق الماضي حكاية شبابها الذي ولّى ، وتريد من خلال سكونها المطبق أن تذكرنا بأيام مجدها , يوم كانت تعج بالساكنين وحركتهم النابضة بالشباب والحيوية وجموع الحسان اللواتي طالما أتكأّن على حافّاتها ليبرزن صدورهن ونحورهن للمارّة.

لم يكن يفكر يوما بالنظر الى الاعلى ,كان يكفيه النظر الى الامام والجوانب اما اعالي البنايات فكانت لاتهمه منذ ان غادرتها الحسان واصبحت مرتعا لرجال يأمونها من المحافظات،

باب المقهى بدأ بلوح من بعيد يكشف عن وجه نصفيّ لهيكلته ,,قدماه تسمرتا في الارض لم يكن بمقدوره الاستمرار , ولم يكن بمقدوره العودة ,فلقد قطع مشوارا بعيدا اصبح من المستحيل الغاءه والعودة من حيث اتى،

,, لم تكن ريادة المقهى هي الهدف مثل كل المرّات أنما هناك شيء اكبر .. بل شيئان ,, اولهما ..هو تحديه لذلك الشخص الذي حاول قبل ايام تكذيبه واستصغاره بعد أن كان يتحدث مزهوا وهو يشاهد علامات الدهشة مرتسمة على وجوه مجالسيه وهويحدثهم عن حفظه لكل الاوامر الادارية الرسمية التي صدرت بحقه منذ تعيينه ولحد أحالته على التقاعد في ملف خاص مازال يحتفظ به حتى بعد احالته على التقاعد منذ اكثر من عشر سنين.. وهو اليوم جاء يحمل ذلك الملف الثمين بنظره ,, والذي لم يغادرالمنزل ابدا ,, ذلك الملف الذي يحمل كل مفردات حياته الوظيفية لم يكن يفكر يوما بحمله خارج الدار لولا ذلك المتعجرف الذي انبرى بصفاقة يتكذيبه متهما اياه بالمبالغة والتهويل متحديا أياه باستحالة الايقاء على اوراق بالية كل هذه السنين .

وثانيهما هو شعوره بالاهمال والتهميش من قبل زوجته واولاده , ومحاولته اثبات ذاته التي أصابها العطب جراء تغير كل شيء نحو الاسوا .. المدينة المزروعة بالخوف والضجر والاسرة التي اصابها التصدع والتفكك ، والعوز الذي بات يحاصر كل شيء ,

الفوضى حالت دون استمراره على ايقاع حياته المعتاد ، أضافت معاناة اخرى لمجمل معاناته فهو مجبر ان يقضي جلّ وقته في البيت ويتعرض لمناكدات زوجته المتعمدة وعقوق اولاده الذين يعانون الحرمان والبطالة، فلم يجدوا سواه متنفسا لهم ليفرغوا اسقاطاتهم وخيبتهم عليه ...

الناس الذين يتقاطعون بسيرهم معه يجد في وجوههم وقسماتهم بعض العزاء، ينظره أحدهم ثم يتخطاه ليغرز نظره بغيره قد يعرف بعضهم أو لا ,لكنه يجد فيهم احتواء اسريا يغمره .

خطواته المتعبة والشارع الذي بدأ غريبا، المقهى وصور من الماضي البعيد وحالة البؤس التي باتت تخيم على كل شي كان يساءل نفسه دائما ..هل هو الذي ابتعد؟ ام أن الحياة هي التي بدات تتنكر له؟ أم أنها سنّة الطبيعة تسري عليه وعلى غيره.

الرؤى تتداخل ..مظاهرات غاضبة تملأ الشارع هذا، تعلو وتهبط وعيون غاضبة واشداق تطلق أصواتا عالية، رجال بكل عنفوانهم يطلقون هتافات معادية للحكومة.

أحتفالات صباحية رجال يرفعون أذرعهم ويطلقون صيحات تملا افواههم. وجوه مشرّبة بالفرح والسرور تهتف منتصرة للحكومة.

رصاص قتلى .. اكداس قمامة تتراكم في مداخل الشارع ,دخان الحرائق , خوف لم يشهده الشارع من قبل،

أمرأة تخرج من أحد الازقة مذعورة تمرق عابرة الشارع وهي تلّف جسدها بعباءة سوداء، تدلف مختفية في الزقاق المقابل .

ينبهه احد الواقفين بجانب عمود من اعمدة الشارع ان يتوقف !

لم يفهم قصده اول الامر لكنه بعد أن اشار برأسه نحو الجانب الآخر، التفت وتوقف،

اشار له الجندي الذي يقف خلف المدفع الرشاش في المدرعّة الامريكية الهمر أن يتقدم نحوه.

تسمرّت عيناه بوجه الجندي الذي تغطي القبعة نصف وجهه وتختفي عيناه خلف نظارة سوداء . لم يكن ابيضا ولم يكن طويلا كما هو المعهود، بل كان اسمرا ميالا للصفرة، أدرك انه من عروق آسيوية أو امريكية لاتينية.. اشار اليه بيد يغطيها قفاز اسود ايضا .. أن يتقدم نحوّه، لم يدرك أول وهلة أنه يقصده بالاشارة , التفت الى جانبيه وعندما لم يشاهد احدا سواه حتى الرجل الذي نبهه اختفى ,,

راوده هاجس من أن الجندي الامريكي قد ساوره شك من الكيس الاسود الذي يحمله.

ملف عمره، حركته فوق هذه البقعة التي لم يغادرها طيلة حياته , فهو لا يعرف ولا يهضم ترك الانسان موطنه ومفارقته حتى لمحافظة اخرى ,, لذا فهو استمرّ بالحركة في نطاق هذه المدينة التي يعشقها كل ّالعشق.. وكان الملف هو توثيق لمجمل حركته على مدى عقود طويلة ..

كان يحمله بحرص شديد، وكل الأخرين بنظره الذين لم يوثقوا مسيرتهم كما فعل هو، قد اضاعوا اعمارهم سدى!

أشار الجندي الامريكي اليه بحركة من راسه أن يتقدم أكثر، وجّه المدفع الرشاش نحوه ومن خلف المدفع لوّح له بالتوقف، احتار بأمره .. ماذا يريد منه هذا الغريب؟ توقف بعد أن خطا عدّة خطوات , تملكه رعب شديد وهو يرى فوهة المدفع الرشاش مصوبة نحوه، هذا يعني أن اطلاقة حتى وان كانت بطريق الخطأ كفيلة بأنهائه دون ان يثير أي ردة فعل، فهؤلاء لديهم كلّ الحق بقتل من يريدون قتله دون أي مساءلة!

حدق مليا في زجاج المدرعة المضلل لمح خيال جنود في الداخل ..أمره الجندي أن يضع الكيس الذي يحمله على الارض .. لم يفهم ما اراد الجندي , اصابته الحيرة من صياح الجندي وهو يرطن بلغة لم يفهمها .. اشار الجندي بعصبية الى الكيس آمرا أياه أن يضعه على الارض..

توزعت نظراته بين الكيس الذي يحوي ملف عمره وبين الجندي الغاضب .. قدح فكره وذهب الى هناك وسط الشلة التي تصور انها تنتظره في المقهى, وان صديقه المتحذلق الذي يجلس الان متوثبا كالقط بانتظاره .. كيف له ان يثأر منه وهو بهذا الموقف وامراته التي ضاقت ذرعا بهذا الملف , كيف له بعد اليوم ان يغيضها باعتنائه به وحفظه بعناية.

وهو الذي لم يجازف يوما باخراجه من الدار لاي سبب كان .

ظل ّ مشتت التفكير بين الخوف الذي شلّ حركته وبين هاجس ضياع كنزه الذي يحمله.

وضع الكيس على الارض، ورفع يديه كمن يتبرأ من ذنب اقترفه وتراجع الى الخلف ..ظلت عيناه مسمرتين على الكيس الملقى وسط الشارع ..تقدمت المدرعة الهمر مثل عنكبوت حذر .. اطلقت اجهزة استشعارها اقتربت من الكيس حتى اصبح تحت عجلاتها الثقيلة تناثرت الاوراق البيضاء المصفرة وتمزقت مع دوي هائل مرعب.


راسم قاسم.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى