موشيه سميلانسكي - لطيفة.. قصة قصيرة - ترجمة: لمياء عصام مرسي

" من لم يرَ عيني لطيفة – لم يرَ عيونًا جميلة في حياته".

هكذا كنتُ أقول وأنا لا زلتُ شابًا صغيرًا. ولطيفة حينئذٍ كانت فتاة عربية، عذراء صغيرة. وأعوام كثيرة مضت ولا زلتُ أقول ذلك حتى الآن.
في أيام شهر ديسمبر، كنتُ أقف في الحقل على رأس جماعة من العرب، وأُعدُّ أرضي لغرس شجرة العنب الأولى الخاصة بي. كان القلب مليئًا بمشاعر الفرحة، وكانت السعادة تحيط بي من كل جانب. كان اليوم جميلًا، والجو صحو وصافي، ودافئ وصحيّ. وكانت الشمس مشرقة وتصب أشعتها المائلة إلى الحُمرة على الكون كله. تنفستْ الرئة الصعداء، كما لو كانت ستبتلع الهواء مرة واحدة. كل شيء أخضر. وعلى التلال التي لم تُمهَد للزراعة نبتت زهور بريّة مختلفة يملؤها الرقة والجمال.
رأيتُ من بين العربيات اللاتي كُنَّ يلتقطن الأحجار والحشائش فتاة عربية جميلة عمرها أربعة عشر عامًا، ممشوقة القوام، نشيطة، ترتدي فستانًا أزرق اللون، وتضع منديلًا أبيضًا يغطي جانب واحد من رأسها، وبقية أطرافه تسقط على كتفها.
- "ما اسمك؟" سألتُها لكي أُسجل اسمها.
نظر إليّ وجه صغير مائل للسُمرة ومليئ بالرقة وعينان سوداوان لامعتان.
- "لطيفة".
وكانت عيناها جميلتين وكبيرتين وسوداوين ولامعتين، يشع من خلالها بصيص الفرحة والحيوية والرغبة.
- "ابنة الشيخ شوربجي" هكذا قال عطالله وهو شاب عربي كان يعمل في ذلك الوقت في نزع حَجَر كبير. وكان لمقولته تلك صدىً في نفسي.
- "كنجمين في ليلة صيف جميلة" غنى عطالله بصوته الجميل والقوي، وأثناء غنائه غمز إليّ بعينيه.
وجدتُ في عملي أمرًا جديدًا، عندما يكون قلبي ثقيلًا وروحي متعكرة، كنتُ أنظر إلى لطيفة فينزاح عني حزني، كأنما أزاحته يد ساحرة.
وأحيانًا كنتُ أشعر بنظرة لطيفة عندما كانت تنظر إليّ، وأحيانًا أخرى كنت أشعر ببريق عينيها الدافئ. وأشعر بها حينما تكون نظرتها حزينة.
ركبتُ حماري الصغير لكي أذهب إلى الحقل. وعند البئر قابلتُ لطيفة، تحمل قِدر ماء فوق رأسها حيث كانت تُحضر المياه للعمال.
- "كيف حالك يا لطيفة؟"
- " أبي لا يدعني أذهب للعمل..."
خرجتْ الكلمات القليلة من فمها مسرعةً، كشخص يُخرج من قلبه شيئًا يضايقه، وكان صوتها حزينًا، كأنما حدثت لها مصيبة.
- "هل هذا شيئًا سيئًا بأن تبقين في البيت؟"
نظرت إليّ لطيفة بعينين باهتتين قليلًا، ومر عليها ما يشبه الظل وصمتتْ لحظات.
- "أبي يريد أن يزوّجني ابن الشيخ مِن أجار".
- "وأنتِ؟"
- "الموت أهون عليّ ..."
وصمتتْ مرة أخرى. وسألتْ بعد ذلك:
- "خواجه، أحقًا، أنه عندكم الرجل يتزوج واحدة فقط؟"
- "واحدة فقط يا لطيفة".
- " وعندكم لا تضربون الزوجة؟"
- " لا كيف يمكن ضرب التي تحبها وتحبه؟"
- "هل عندكم الفتيات يتزوّجن ممن يحببن؟"
- "طبعًا"
- "وعندنا يبيعوننا كالحمير..."
كانت عينا لطيفة في هذه اللحظات لا تزال أجمل وأعمق .. وأكثر اسودادًا.
- "أبي يقول" أضافت بعد ذلك " أنه كان سيزوّجني إليكَ لو كنتَ مسلمًا ..."
- "إليّ؟ ..."
انفجرتُ في الضحك رغمًا عني، ونظرتْ لطيفة إليّ وعيناها بها حزن عميق.
- "لطيفة" قلت "كوني يهودية وسأتزوجِكِ..."
- "أبي يقتلنا، يقتلني ويقتلكَ..."
في اليوم التالي جاء إلى ضيعتي الشيخ شوربجي، وهو رجل مسن ذو لحية بيضاء وجميلة، وعلى رأسه "طربوش"، ويمتطي فَرَسَته البيضاء التي كانت تركض وتتحرك كثيرًا.
حيّا العمال وأنحنوا احترامًا له وسكتوا. نظر إليّ بغضب وانفعال وحيّاني بغيظ، رددتُ عليه ببرود زائد. بين المستوطنة وبين الشيخ لم يكن هناك سلام حيث كان يكره اليهود كراهيةً شديدة.
عندما رأى الشيخ ابنته غضب كثيرًا.
- "ألم آمركِ بعدم الذهاب إلى اليهودي؟" صرخ الشيخ في ابنته.
وصاح في العمال قائلًا: "العار للمسلمين الذين يعملون عند غير المؤمنين!" وبعصاه التي كانت في يده ضرب لطيفة على رأسها وكتفها.
غضبتُ، وأشرتُ إليه في غضب، ولكن عينا لطيفة السوداوين المليئة بالحزن والدموع نظرتْ إليّ وكأنها تقول لي: اسكت!
ذهب الشيخ وابنته وبدأ العمال في تغيير الجو.
- "الشيخ شوربجي سيئ وعنيف" قال أحد العمال. وقال آخر "إنه غاضب لأنه لم يجد الفرصة ليستأجر عمال بنصف الأجر ليشغلّهم في عمل شاق".
- "وأنا أعرف لماذا غضب اليوم." قال عطالله، وارتسمتْ على شفتيه ابتسامة خبيثة.
لم تعد لطيفة تأتي للعمل مرة أخرى.
ذات مرة بعد عدة أسابيع عندما خرجتُ بعد الظهر من المنزل حيث تناولتُ هناك وجبة الغداء، قابلتُها وكانت تجلس على الأرض وفي يديها طيور للبيع، وعندما رأتني وقفتْ. كانت عيناها أجمل وأكثر حزنًا.
- "كيف حالك يا لطيفة؟"
- "تمام يا خواجه."
ارتعش صوتها
وأحيانًا وعلى فترات متقاربة كانت لطيفة تحمل طيورًا لبيعها وخاصة في وقت الظهيرة.
ذات مرة قال لي عطالله: "خواجه، لطيفة ذهبت لأجار، وتزوّجها ابن الشيخ.. صغير وحقير.."
شعرتُ بطعنة في قلبي.
بعد ذلك سمعتُ أن بيت زوج لطيفة قد نشبت فيه الخلافات، لأن لطيفة هربتْ إلى منزل أبيها وأعادوها إلى زوجها رغمًا عنها.
مرت سنوات عديدة. وأنا أسكن في منزلي الذي بنيته. نسيتُ عيني لطيفة من أجل عيون سوداء أخرى.
ذات مرة عندما خرجتُ في الصباح وجدتُ امرأتين عربيتين كبيرتين وفي ايديهما طيور، سألتُهما:
- "ماذا تريدان؟"
وقفتْ واحدة منهما ونظرتْ إليّ وقالت:
- "خواجه موسى؟"
- "لطيفة؟"
نعم، كانت هذه لطيفة، امرأة عجوز ووجهها تملؤه التجاعيد، ولكن عيناها كانت لا تزال لامعة مثل أول مرة.
- لديه لحية.. وتغير، قالت هامسةً ولم تصرف نظرها عني.
- "كيف حالكِ؟ لماذا تغيرتِ هكذا؟ ..."
- "كله بيد الله يا خواجه!"
وصمتتْ
- "خواجه موسى .. هل تزوجتَ؟"
- "نعم يا لطيفة ..."
- "أريد أن أراها..."
ناديتُ زوجتي لكي تخرج.
نظرتْ لطيفة إليها كثيرًا.
وانسالت الدموع من عينيها.
ومنذ ذلك الوقت لم أرَ لطيفة.

موشيه سميلانسكي: (1874 – 1953) هو فلاح وصحفي وأديب عبري. ولد في أوكرانيا، وهاجر إلى فلسطين عام 1891 واستقر في رحوفوت. في عام 1898 نشر أول مقال له بعنوان "الصافرة"، واستمر في وصف حياة المستوطنات في فلسطين تحت اسم مستعار "ابن حواء". وكتب مقالات عديدة في صحف مثل "هامليتس" و"هاتسوفيه" وفي دوريات مثل "هآارتس" و"هاشيلوح" وغيرهم. أكثر سميلانسكي من الكتابى عن حياة العرب في فلسطين ولذلك لقبوه بـ"الخواجه موسى". من أعماله (הארבה الكمين) 1930، (ספורי סבא قصص الجد) 1946، (בהר ובגיא في الجبل وفي الوادي) 1949.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى