لمياء الآلوسي - قاطعة الروح

كان ضوء الشمس ينعكس على جسد امرأة، وحيدة كما السماء، وكأنها قادمة من طول الارض وعرضها ، تهرع في كل الاتجاهات، وهي تعانق مياه النهر الباردة التي تغرق قامتها.
تجاورها ، تحتضنها، فتتحرر عوالم البهجة الرقراقة في روحها، من الصعوبة ان تجد حقيقتها ولكنها ومع النهر تضع كل احمالها وراء ظهرها، وتغرق ذاتها قبل جسدها بين امواجه العذبة .
كانت منذ ساعات الفجر الاولى تعقد صايتها الخفيفة حول خصرها النحيل فوق فستانها، الحشيشي، وتربط رأسها بملفعها الاحمر، فتتدافع من بين طياته اطراف ظفائرها المخضبة بالحناء .
لا تلتفت الى ذلك الضوء المتماوج، المنبلج من خلف الاشجار الكثيفة، المطلة على الجهة الثانية من نهر دجلة، الذي يجلل هامتها المنحنية، لا تعرف السكون، تتحرك بكل هدوء، وثمة ترنيمة حزينة تعانق شفتيها، رغم أن مواويلها اكتست بذلك الحزن الشفيف، الذي تتخلله نهنهاتها الناعسة، الا ان صوتها يجعلها ممتدة الى جوف الارض، الى آخر الدنيا، ولأنها كانت ضمن مطحنة الارض الحجرية او هكذا تشعر، فإن ذلك يخلق فيها تناغما عجيبا مع صوتها الذي يقطر عذوبة، تشبه وجهها الأسمر الذي يبوح بالعافية .
كانت تشعر احيانا بان حياتها رهن ببقايا اجساد، وحياة كانت تقطن ذلك الشاطئ المغمور بالماء طوال الشتاء، وعندما ينحسر صيفا عن شاطي عريض، مغطى بالحصى، تقطنها تلك الاجسام، تتعشق في روحها، تثير فيها همة لا تعرف التعب، كثيرا ما تشعر بدفء أيادٍ، وسيقان تلتف حول جسدها الصارخ الانوثة ، شغف نهم يشعلها .
يجعلها تنتشي بلمسات غاية بالعذوبة، فتذوب معها، يخفق قلبها بشدة، وتشعر انها تلمسها من كل مكان فيها، تمنحها قدرة على احتمال وحدتها، متجاوزة رجالاً ونساءً، يتحركون حولها ، تريد ان تكون قريبة منهم، لكنها لا تتجاوز حدودها معهم ، وتبقي على المسافات التي تحميها، ويعرفها الجميع من خلالها،
لم تلتفت الى اي شيء سوى ذلك الهوس، الذي يعتريها كلما حلت أيام الصيف الطويلة، الحارقة، فتطفئ لهيب شوقها إليه، في حضن دجلة .
مرت الأيام وأمها المصبوغة عينيها بلون (مستحلب الكُبّلي ( الوردي الغامق، التي تعالج به التراخوما الجاثم في عينيها، فيخلف في جفنيها المتورمين لوناً وردياً فاتحاً، فيخلق تناسقاً غريباً مع اللون الفيروزي للوشم الذي يزخرف وجهها وعنقها الطويل، متشحة بتلك الملابس النظيفة الغامقة.
بخطواتها المسرعة تمشي متجاوزة الاب الصامت دائماً، حتى ليكاد يكون غائباً عمن حوله، وطفلة ناعمة القد، صغيرة اليدين، يدفعان تلك الآلة العجيبة، التي تجعل أهل الحي يتسابقون خلفها، منبهرين بلونها الأخضر ، وعجلاتها الصغيرة، عبر الأزقة القديمة، حذرين من الانزلاق .
تتعالى انفاسهما، وهما يدفعانها كي يجتازا الارتفاعات الحادة، والانحدارات الأكثر حدة، وكثيرا ما يرتد ثقل العربة ليجثم على صدره الناحل، وسط هلعها، ولامبالاة الأم، يدفعها وهو صامت وقد تقطعت أنفاسه، يغلبه السعال، فيقطعه ليقذف بكرات البلغم الأخضر على الأرض حوله، فيتطاير رذاذاً يستقر على ثياب الطفلة، ووجهها الصغير .
في بيت احد الميسورين يتوقفون، بآلتهم العجيبة، عشرات النساء، يحملن أوانيهن المليئة بعجينة طحين القمح الغير مختمرة ، تجلس كل منهن في انتظار دورها، لتجعل تلك الآلة الخضراء، عجينة القمح القاسية خيوطاً رفيعة، تسمى (بالرشدة) تحمص بعد ذلك على نار هادئة، لتخزن إلى الشتاء .
فتدار الأحاديث على ضجيج اقداح الشاي الزجاجية، وهدير الآلة، ورغم وجود الرجل إلا أن النسوة كن يضحكن بصوت عالٍ، ويفشين ببعض الأسرار، بصوت خافت، وربما برموز تهمس بها النسوة بأصوات خفيضة، لكنها تبقى مسموعة ومفهومة .
كانت النسوة يسرفن بالبقاء حتى المساء، متناسيات غضب الرجال في بيوتهن، فيتنافسن في إظهار رغبتهن بقص حكايات الحي المتشابهات، لكن كلا منهن تجعلها جديدة، ومختلفة في كل مرة تقصها، لا يمنعهن تواجد ذلك الرجل الذي يفوق زوجته طولا ونحافة، ويبدو انه كان يظهر لامبالاته بحديثهن، حتى عندما يستغرقهن الضحك، وتصهل أصواتهن، لم يكن يبتسم لهن أو يلتفت إليهن، مواصلا عمله في تشغيل الآلة الضخمة متبرما، وهو يشعل سيجارته التي يلفها بكل عناية، منقياً التبغ، الذي يبعث رائحة أشبه بروث البقر، تلتصق بيديه وملابسه التي يصر على ارتدائها كلما خرج الى عمله .
في سنواتها الغضة تشربت بالكثير من قصص الحب، التي تحاول الأم ابعادها عنها ، لكنها باتت تتلقفها بوعي كامل، وتهنأ بها لتداعب مخيلتها البكر، منتشية بوعد سيتحقق ذات يوم ، إنها ستعيش قصة حب، لا تشبه كل قصص الحب التي تسمعها .
بدأت تكتب ككل الذين لا يعرفون الكتابة والحروف، مندفعين بصخب قلوبهم، وتفطر أرواحهم، لمن هم في حوزة حبهم الدائمة، مازالت ترى الوان الحب الهانئ، الأحمر، والأسود، والأزهار المرسومة برقة من فوق عالمها البهي، ستمر الأيام والأعوام، وتظل هذه الحكايات تقطن شغاف روحها .
عندما غادرتها الأم في ذلك المساء، في غرفة عرسها
إقتربت منها وهمست بهدوء : عندما اعود سأجدك امرأة تنام في عينيها شموس الكون.
عادت لتكرر وهي تحتضنها برقة : عندما اعود .
كعادتها، لا تكلمها إلا بهذه اللغة الأسطورية، التي تتلاحق مفرداتها، وكأنها تخشى أن تفضحها الكلمات، فتصرح بما في قلبها، تختبئ في كلماتها المعاني، ضمن قديمها، يكمن تراثها تقصه عليها، ويجب عليها ان تفهم مبتغاها، فيختفي الفاعل وراء الاحداث، لا يظهر إلا اذا ابحرت فيما ترمي اليه الأم بعيدا، فتأخذها الأفكار قليلاً، عندها تزجرها الأم متبرمة من عدم قدرتها على فهم ما ترمي إليه،
كل شيء يصبح مجهولا في لغتها، في قسمات وجهها، الذي يخفي جمالا اختصرت فيه، تناسل كل الأقوام التي حطت من مجاهل الارض في اجيال هذا الوطن، بعينيها الممتزجة الألوان، ووجهها الأبيض الذي وشحته الشمس، وهي تعانق الأرض،
دائمة الحركة، تضع عباءتها خلف ظهرها، محكمة استقرارها على راسها، الملفوف تحت دثاره الأسود شعراً مسترسلاً، محتفظاً بلونه الكستنائي رغم كل السنين، بظفيرتيه الطويلتين التي تعقدهما على قمة رأسها، فتكسب ملفعها هيئة التاج البارز فوق رأسها.
تضع سيجارتها بين شفتيها الدقيقتين، لا تفارقهما، إلا عندما ترتشف قهوتها المرة، أو قدح الشاي الاسود كالحبر،
حملقت في عينيها طويلاً، لكنها لم تفهم سبب هاتين الشفتين المزمومتين، والنظرات الصارمة، وكأنهما تتوعدانها بشيء لم تعيه جيدا ، لكنها ادركت انها لازالت في نظر هذه المرأة تلك الطفلة التي لا تفهم شيئا.

تركت حوارها مفتوحا معه ، حوار كل ليلة ، وكأن الحياة توقفت أمام تلك اللحظات ، تتداخل فيها الساعات كما لو أنهما خلقا ليكونا معا مهما كان الوضع عصيا .
كل ما في الحياة يبعدهما تقربهما الساعات وتبعدهما الأيام ، تعاون على خلقهما شيء من الجنون والألم ، ما أن يخفت إحداهما حتى يفيق الثاني .
التجأت الى باحة الارض المفروشة خارج عرزالها، تحت ظلال التل العالي المنحني بانحناءات متكسرة على دجلة الهادر في الاسفل، يتجاوز عطش الارض ليتلوى حول ذاته ، يتهافت مياها غدت من حزن الأسف المتداخل فيه عبر العصور، حمراء لا تعرف الصفاء، تقف كثيراً أمام النهر وأبدا تلتقيه عندما ينقطع حديثها معه.
هكذا تتجمع الرغبات، وهو يحاول الاقتراب منها، وتمنعه نوارس حمقاء، تحلق دوما بشكل دائري على ضفاف دجلة المتعرجة، على أغصان روحها، أشجارها التي غدت غابات صغيرة على سيقان الصبر المغروز فيها.
أفاقت على صوته يدعوها، وهو يحمل أغصان الغرب والطرفاء :
– هنا في هذه الارض سأنصب لكِ عرزالاً، يحتضن الشمس كلها سيبدو وكأنه غرفة صغيرة تليق بك، من اغصان الطرفاء والغرب، وعندما ارشها من أجلك عصراً بالماء الصافي ستشتعل الدنيا برائحة مخبولة مثلي، تكون لك فقط ، لأنها مخبولة بك، بامرأة تطال السماء، ثم اعمل لك طارمة مسيجة بجدران من ذات الاغصان، فيمد العرزال جناحيه من اجلك الى آخر النهر .
إنه يهذر بكلامه الذي تراه في كثير من الاحيان غريبا، بسبب تلك الشظايا التي استهدفته بلا سبب ، فهدلت شفتيه، وشوّهت فكهيه، وعبثت بذاكرته، تتداخل خطواته التي يشوبها العرج ، وهو يتكأ على ساقه الخشبية .
عليها ان تشذب وتعدل الكثير مما يقوم به، لا تريد ان تتعبه كثيرا، الا انها تعتمد عليه ، عاد اليها وطفولة غريبة مقيمة فيه، رغم ذلك كان يشعرها بالأمان، يساعدها في نقل فراشهما، وبعض ادوات كانت قد اختارتها من بيتهما في وسط المدينة، ليعيشا هنا في عرزالهما على شاطئ النهر طوال الصيف، كما تعودت منذ طفولتها .
كانت منشغلة بسجر تنورها الطيني، ليس بعيدا عن العرزال .
بعد ان فارقتها امها منذ كومة من السنين، ابقت فيها حبا تأصل عميقا في روحها، لأرض لا تتعبها كثيرا، ليس الا ذلك السماد الذي تحضره من مزابل مدينتها على ظهر الحمار، الذي تستأجره مرة واحدة فقط ، كما كانت تفعل أمها، بعدها تصبح الأرض خضراء، تمتد سيقان اللوبياء والرقي والخيار فوقها، فتتشابك الاذرع في جنون عشقي فريد من نوعه، لا تتعبها السقاية فالجذور المتشبثة بالأرض اليانعة، المخضلة، تتلقف مياه النهر القريب، من داخل الأرض .
وحدتها التي ادمنتها تتلاشى هنا، أصبح لها بيت وبضع امنيات تغمرها الأيام بها، ورجل غدا مخبولاَ بها، يحنو عليها، وتحبه، زوجها الذي غُيبت رجولته، بسبب الحروب الرعناء .
مسحت قطرات العرق، واضعة كفها فوق جبينها لتحجب ضوء الشمس، وهي تضع أقراص الخبز الساخن على جذع شجرة نظيف، يابس .
كان يفترش الارض قريبا منها، متأنيا بمضغ رغيف الخبز الساخن .
– لم لا تتزوجينني فطوم، كلانا بلا جذور، دعيني أكون جذورك في هذه الأرض .
لا تعرف لم يصر على أن يسميها بهذا الاسم ، لكنها تعودته، كما تعودت أن يطلبها للزواج في كل مرة توقد فيها تنورها.
قرفصت أمامه، وهي تضع يديها على ركبتيه، ثم تلقفت وجهه بين يديها، وهي تهمس لعينيه
– أجل ، أقبل ، وستكون عريسي اليوم ، وكل الأيام .
اغلق عينيه وهو يجلس على الأرض مذهولاً ، أو كمن فقد وعيه .
التقت نظراتهما جذلة، وثمة دموع حيرة تنساب على خديه ، سحبت معها جرأتها، وشوقها إليه، وهي تبتعد عنه قليلاً.
ضحكت بصوت عالٍ : هناك لبن رائب في الداخل اجلبه من أجلنا .
أثارت نساء الشاطئ المتعبات، رائحة الخبز الطازج، العابقة، فتحلقن حول أقراص الخبز الحارة، لم تستقر عيناها إلا على وجهه المستغرق بعيداً، ينظر اليها ثم يعود الى سكونه العجيب .
كثيراً ما تتخيل انه ربما يتذكرها جيداً، إلا إنه يريد ان يبقي على هذه المسافات القاحلة بينهما، بسبب جسده .
أصبح المكان مزحوما بعشرات النساء والأطفال، بسخاء كانت تجود عليهم، فيكسبها ذلك استرخاءً عجيباً، وكأنها تنتظر لحظة كهذه لتجعل المسافات قريبة بينها وبين ماضٍ قريب بعيد، لكنهن كن يخطفن أرغفة الخبز، ويعدن إلى عملهن المتشبث بالأرض .
ظلت ترقب باب العرزال المفتوح ، الذي غيبه في زحمة انشغالها بالآخرين استرخاؤها غدا قلقاً، يكتنفها من اجله، تركت تنورها موقداً .
عندما دخلت كان ينتحي زاوية العرزال الأكثر ظِلالاً، يغمد راسه بين ركبتيه، إقتربت منه وجلة،
جلست بهدوء الى جواره ، وفحيحها المؤلم، يزغرد مع رائحة دجلة الممزوج بعبير الطرفة وأغصان الغرب المدوخ ، عانقته بقوة .

– كل مرة أعانقها، أشعر وكأني اعانقها للمرة الأولى، كل مرة أقبلها، وكأني اقبلها للمرة الأولى، كلما نظرت الى ما ترتديه، وتلبسه، وكأني اراها للمرة الاولى في حياتي،
عندما يتجدد اللقاء بيننا أشعر وكأني القاها لأول مرة .
– تشمها لأول مرة، تقبلها لأول مرة .
– أي عشق متجدد هذا، اي حب لا يمكن ان يكون الا مذهلاً،
– يا لها من امرأة محظوظة .
– هي واسمها يقطناني، يسكنان في روحي .
– فطومة، أهذا اسمها ؟
– أجل .
– ربما لأنها تحبك بشكل مجنون .
– لا اعتقد، كل ما اتمناه أنا، هو أن يشعر قلبي بحبها، أن احبها أنا .
– لأنها تريد ان تكون لك طوال الوقت، تربطك بحبلها السري، تجعلك فيها .
– أجل، أحب، أعشق ذلك، أريد ان اكون في بطنها .
– ستعتبرك ابنها الذي سيولد ذات يوم .
– لتعتبرني هي كما تشاء ارغب ان اكون في ضيافتها، ان تستضيفني في بطنها الناعمِ
– تهفو اليك روحها، تشتاق اليك، تجن فيك، تريد ان تغمرها بفيضك كل الاوقات، ان لا تخرج منها ان تروي عطشها اليك .
ساد صمت قلق بينهما، وأصوات الآخرين على الشاطئ وضحكات الاطفال ، غدت طنينا بعيدا، وهي متشبثة بأحضانه، ذائبة هذه المرة بين يديه، تشرب دموعه .

– انتِ من يمكنه ان يروي عطشي انتِ فقط .

– انا ايضا اريد ان تأخذني ولا تعيدني، لأنك ومنذ ذلك اليوم لم اعد الى نفسي، بقيت فيك وانا لا أعي أني فيك.
لمحها راكضةً فوق الحصى الناعم، حاسرة غلالتها، ظفائرها الطويلة، تتطاير خلفها، وثوبها الطويل غدا قصيرا يكشف عن ساقين طويلتين بيضاوين .
غير عابئة بما خلفته من ذهول في عيون الاخرين، الذين وقفوا ينظرون اليها، وتهفوا قلوبهم الى معرفة سبب ذلك الفرح المذعور الكامن في عينيها، وتورد خديها ، وهي تترك تنورها موقدا، ورائحة شياط اقراص الخبز المتروك في داخله بدأ يملأ المكان.
أصبح الدخان غيمة رهيفة، بيضاء، تحجبها تماما عنه، عنهم
أفلت روحه، وحمل جسده ، وقلبه بين يديه، وراح يعرج وراءها ، باتجاه الجبل المنحدر الى الارض السهلة، في الوادي المخضر الواسع أصبحت تلهث، وهو وراءها، لم يكره عوقه كما كرهه على ذلك الطريق الذي غيبها في مجاهله.
لكنه بات يعرف مقصدها .
لا يهم الزمن الذي يستغرقه للوصول اليها .
ستنتظره يعرف ذلك،

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى