ألف ليلة و ليلة هدى توفيق - أحلام شهرزاد..

عرض لكتاب أحلام شهرزاد لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين
استطراد لحكايات ألف ليلة وليلة


يتناول كتاب أحلام شهرزاد لعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين استطراد فاتن ورائع بحكي سلس وبسيط وممتع لعدد من الليالي من حكايات ألف ليلة وليلة، في سلسلة دار المعارف (اقرأ). التي إيجازا نعتبرها الكلمة الأولى، التي أحضرت بعد ذلك كل تحضر البشرية وكانت بادئ ذي بدء بتنزيل القرآن، ومخاطبة سيدنا محمد (ص) بأمر القراءة.
فالنطق عند أرسطاطاليس يدل على التفكير والتعبير معا، فالكاتب يفكر قبل أن يكتب وأثناء كتابته ،والقارئ يفكر فيما يقرأ أثناء قراءته وبعد أن يقرأ، فإذا أمر الله الإنسان بأن يقرأ فإنما أمره أن يطمح إلى الكمال، فالقراءة أخص مميزات الحضارة. لأن القراءة هي الطريق الطبيعي الميسرة لرقي العقل والطبع والخلق والذوق. ولكن القراءة يجب أن يتوافر معها شرط الاستفادة والارتقاء بما تحويه مغزاها وشكلها الخارجي المتجسد في اللغة والسرد المتقن والخصب في آن واحد ليكون هدفها الأساسي شق العقل والروح وليس فقط مجرد كلام رخيص مبتذل ليس به أي نفع للعلم والفلسفة والأدب. وقد كان ذلك هو هدف السلسلة العظيمة، وهو تيسير أمور القراءة لنشر ثقافة متنوعة نافعة تسعى إلى ترقية الشعب، وتدعوهم إلى الاستزادة من الثقافة بأشكال مبسطة وبأثمان زهيدة لا ترهق أوساط الناس أو فقرائهم. فتلك السلسلة التي بدأت رقم (1) بكتاب أحلام شهرزاد، هي دعوة إلى حياة عقلية أرقى وأخصب من الحياة العقلية التي نحياها.
أحلام شهرزاد تبدا من الليلة التاسعة بعد الألف، ساعية لتحقيق أمثولة غاية في الأهمية مفادها أن العقل هو الفاعل الحقيقي والمؤثر في تلك الحكايات، وذلك باستخدام شهرزاد لحيل وألاعيب على قدر عال من الذكاء، والتعقل، والتفكير الدائم لتنقذ روحها من سيف شهريار الذي ينتظرها كل صباح، فهي ليست مجرد حكايات عبثية من أجل التلهي ونفاذ الوقت، بل هي حكايات تحوي دلالات وأحكام ومفاهيم عالية القيمة عن عالم الإنسان والجن، حتى عالم الطبيعة الشامل وأرضه وبحره ونباتاته وحيواناته.
شهريار الشخص المدمر القاتل لكل نساءه بعد ليالي الحب الأولى، أصبح أسير حكايات شهرزاد أي عقلها وليس لمجرد رغباته الجنسية والانتقامية. وبالتالي تحول حب القصص الذي يشمل الأفكار والخيال والمغامرات إلى حب للذات نفسها التي تحكي وتنطق لسانها بكل ما هو غريب، وحلو وسئ في روايتها عن أبطال حكايات ألف ليلة وليلة بمنطق فاق تصور وأحكام هذا الملك الشديد الهيبة والصولجان والظلم تجاه كل النساء والحقيقة أن شهرزاد لا تريد فقط أن تنقذ نفسها من الموت؛ ولكنها أيضا تريده، تريد الحب الذي أغشاه الكره والانتقام من كل نساء العالم. تريد أن تعيد ثقته وحبه للحياة. تريده عاشقا كما كانت هي عاشقته. بل هي جامحة في طموحها، إنها تلهث وراء العشق الذي لا مناص منه ولا وجود إلا به بين الرجل والمرأة، اللذان باكتمالهما يستحضران ما هو أشبه بوجه قمري مستدير مضيئ لامع مشع بأضواء الحب القوي الذي مصدره عقلاني في الأول وفي آخره أذيال المتعة الحسية كتأكيد لمنطق الحب المفعم.
أحلام شهريار التي تؤرقه ليلا، وتجعله يذهب في ساعة متأخرة من الليل إلى مجلس من مجالس غرفة الملكة، كأنما ينتظر شيئا، فهم أنه ينتظر صوت شهرزاد، مصغيا إليه فيحسه كصوت الغدير الذي يحب الملك أن يجلس إليه حين تؤذن الشمس بالغروب فيستمع إلى غنائه العذب، ويسكره هذا الحرف الذي تهديه إليه شهرزاد فقط فتحكي له عن طهمان ابن زهمان ملك الجن في حضر موت، كانت له فتاة حسناء رائعة الحسن بارعة الجمال، ذكية القلب نافذة البصيرة تدعى فاتنة، وقد قرأت كتب الأولين وعرفت حكمة المحدثين ولكن فاتنة كانت غريبة الأطوار، بعيدة الآمال، عظيمة الأطماع، لذا زهدت في ملوك الجن جميعا، فردت خطابها مخذولين مدحورين وكان هذا يصدر عن نفس شديدة الكبرياء لا تؤمن بأحد ولا تستريح إلى أحد إلا حين كانت تتحدث إلى أبيها فهو وحده الذي كان يظفر منها بالوجه المشرق والثغر الباسم والنفس الراضية، ولأن لكل شئ غاية يقف عندها وأمد ينتهي إليه، أبلغها والدها الذي يحقق أقصى سعادته بقربها منه، أنه آن لنا أن نفترق لأن أجيال الجن إذا تم من عمره خمسة عشر ألفا من السنين وجب عليه أن يستعد لفراق الأحباء وأنه ينتظر هذه اللحظة الرهيبة التي يستحيل فيها إلى قبس من نار يمتزج بهذه الجذوة الهائلة التي يدور عليها الكون والتي تنضج حياة الأحياء، فلابد من الفراق، واختيار أحد هؤلاء الملوك زوجا لك.

- خواطر العشق المطلق:
ولأن هذا القص في أحلام شهريار عن شهرزاد، قد جعلت منه ملكا حائرا ومضطربا صامتا صمت النشوان الثمل الذي صرفته الحياة عن الأحياء، فصرفته الطبيعة عن الناس والأشياء ومن ثم أصبح عاشق دون قصيدة، يعالج أحلامه وهواجسه بالإنصات إلى قصص شهرزاد العذب الجميل حتى يأوي إلى سريره مستمتعا بنوم لذيذ وطويل ولم يسل عن قصص شهرزاد منذ انتهى منه في الليلة الواحدة بعد الألف، ورغم انشغاله بشئون القصر، لكنه كان يشعر دائما أنه فقد شيئا وهو متشوق إلى قصصها وهو فى نفس الوقت لا يستطيع أن يخدع اثنان شهريار نفسه وشهرزاد تلك الساحرة الماكرة التي كانت تعلم جيدا بما يضطرب في نفس الملك من قلق وما يملأ قلبه من حزن، عاجزا عن فهمها وهذا الغموض الذي أصبح لا يطيق له احتمالا، فخواطره تصطبغ بحمرة الدم، فيرى نفسه مقبلا عليها يضمها إليه ضما شديدا ثم يخمد خنجره في صدرها الناصع الجميل فقد كان ضيقا بغموض شهرزاد أشد ضيق، ولكنه يجد سعادته في هذا الضيق ولذته في هذا الألم وهذا هو حال العشاق، هم في حاجة دائما أن يجدوا مصدرا للشكوى، ويكرهون الراحة المطردة فسعادتهم في الطموح المستمر والجهاد المتصل، لا في بلوغ الغاية والانتهاء إلى الأمد.
أيضا شهرزاد متشوقة مثل شهريار إلى هذا القصص، هو يراها المرأة الماكرة التي لا تحتمل عشرتها وغموضها إلا بما تقص عليه من أخبار، وهي تراه الرجل القاتل الغادر الذي يلتمس لذته، حتى إذا ظفر بها ألغى مصدرها إلغاءا، فلا سبيل إلى اتقاء شره إلا بتلهيته والتلهي عنه وقد حدثته خواطره قائلة له:-
أنت متشوق إلى أن تسمع منها وإلا قتلتها،و هي متشوقة إلى أن تتحدث إليك وإلا قتلت
{لن يهلك الإنسان إلا إسرافه على نفسه بالشك والارتياب، هكذا أخبره طائفه بصوته الهادئ المطمئن} وهو يتردد للذهاب إلى مجلس شهرزاد في الليلة العاشرة بعد الألف حتى تتم له حكاية فاتنة مع ملوك الجن الذين لم يستطيعوا أن يظفروا بها، فيكيدوا لها مكيدةمروعة وهي أنه بعد موت أبيها أزمعوا الحرب عليها حتى يدمروا ملكها تبريرا ساحقا وأيهم ظفر بها فهي أسيرته، وكتبوا بذلك وثيقة أودعوها مكانا حصينا هناك في قاع البحر المحيط وراء أعمدة هرقل. وفاتنة العليمة بفنون السحر والنفوذ إلى أسرار الكون، أخبرت والدها أنها قررت أن تبدأ هي بالحرب، فأخبرت الوزراء ورجال القصر أنها ستتزوج من يستطيع أن يقهر مدينة أبيها ويدخلها عنوة فهي له زوج وملكها لملكه يتبع.

- الجهد العقلي الذي أصبح عادة شهريار
لا يجد شهريار نفسه في قص أحاديث ألف ليلة وليلة مجرد استماع لقصص تجعله ثائر النفس أو جامح الشهوة أو سئ الظن بالمرأة، مستجيبا لغرائزه حين تدعوه إلى ما تدعوه إليه من الخير والشر، لكنه بسرد تلك القصص إليه، يجعله كثير التفكير متأملا مجتهدا في معرفة مصدر الأشياء وغايتها، يجد في فهم الظواهر وتأويلها، باذلا جهدا عقليا في التحليل والتعليل، وبذلك تكون شهرزاد الفاتنة قد خلقت رجلا آخر خلقا جديدا.
رجل مفكر دائما مقدرا للأمور، ينفق وقته في فك شفرة الألغاز والأسرار التي تطرحها شهرزاد في نفسه وأمام عقله، تاركة إياه التفكير والتفكير الذي يزداد شدة وعنفا كلما لقي شهرزاد وانصرف، وبذلك تبدلت حياته وإدارة حكمة، وأصبح يطلب من وزرائه الدقة في القول والعمل جميعا بموجب الإمعان في التفكير في الرد والحديث قبله كما كان يمعن فيه.
- فاتنة هي شهرزاد بالفعل
فلما كانت الليلة الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة بعد الألف سردت شهرزاد حكاية فاتنة مع عشاقها الملوك حتى نهايتها – بموجز القول{ لما كان الملك يخاف على مملكته من الدمار، ورعيته من بؤس الحرب والدمار ومهالكها البعيدة المدى، فأخبر ابنته بما يجول بخاطره من حزن واكتئاب لقرارها بتدبير الحرب على عشاقها، إلا أنها ردته عازمة النية والفعل على قهر وهزيمة هؤلاء الملوك باستخدام حيل السحر والذكاء الشديد الذي لديها حتى أوقعتهم شر الهزيمة والذل والخضوع لصولجانها دون أي أذى نال رعيتها أو حتى رعية المغيرين حتى أقبل قادة الملوك طهمان بن زهمان حائرين ثائرين يقولون "إنه السحر أيها الملك ! إنه السحر الذي لا عهد به من قبل لأحد من الإنس أو من الجن"، وبقوة وبصيرة نافذة ردت فاتنة إلى شعوب الجن حقوقها المغصوبة وحرياتها المسلوبة.
بينما شهرزاد المعادل الأقوى في قص حكايات ألف ليلة وليلة، تعلم شهريار أن العلم لا يبلغ إلا بعد الجهد في طلبه واحتمال العناء في تحصيله. فتدخله في غرفة من غرف القصر يجهلها يشاع بها جو غريب قوامه أنغام موسيقية عذبة نفاذة إلى أعماق الضمائر أخاذة بمجامع القلوب ثم فجأة تتحول تلك الغرفة إلى مكان متباعد الأرجاء مترامي الطراف، وقد تقدم هذا المكان بحيرة تحيط به من جهاته الثلاث، واتصل بالقصر من جهته الرابعة، ثم يظهر أزواج من الفتيات والفتيان فرحون ومرحون، لكنهم لا يرونه ولا يسمعون حديث شهريار لشهرزاد لأنهم لم يخلقوا بعد ، ولكنهم سيخلقون في يوم من الأيام. وتخبره شهرزاد بحقيقة هؤلاء الفتيات هن اللائي لم ترسلهن إلى الموت، لأن شهرزاد شغلتك عنهن بما قصت عليك من أنباء الماضي، وبما تقص عليك الآن من أنباء المستقبل، وستشغلك عنهن بما تعرف فيها وماتنكر منها من وضوح وغموض.
ينظر أيضا الملك فيرى أسرابا لا تحصى من الزوارق قد ملأت البحيرة، ويرى الملك نفسه مع شهرزاد في زورق من هذه الزوارق الرائعة التي تسبح في الماء والضوء والموسيقى والغناء جميعا وإذا الزورق ينساب بهما في نهر ضيق هادئ، وقد كسي شاطئاه عن يمين وشمال عشبا أخضرا كثيفا كأنه السندس، وينظران فإذا جماعات من الفتيات ينحدرن مسرعات عن يمين وشمال إلى النهر يحيين بالزهر النضر والأغصان الخضر ويدعون العاشقين إلى جزيرة النعيم وبعد النعيم والعجز والاستسلام التام لهذا السحر العارم والعشق التام في قبلة لم يعرفا أولها ولم يعرفا آخرها، تأخذه وتشاركه شهرزاد لغة البؤس. عندما يرى الملك الزورق ينحدر به في النهر متجها صوب البحيرة التي جاء منها، وعلى يمين وشمال شاطئ البحيرة يرى الملك أشجارا باسقة وما هي من الأشجار في شئ وقد طالت إلى السماء وأمدت لها فروع ونبتت في هذه الفروع زوائد تشبه أن تكون الورق وفي الحقيقة أن هذه الكائنات التي تشبه الطير وما هي بالطير، إنما نفوس أولئك اللائي أرسلتهن إلى الموت منذ ثرت ثورتك المنكرة بالنساء.
وادرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.. وعكف شهريار على نفسه يتدبر ما سمع ويستحضر ما شهد ويتذكر ما رأى وقد نسي نفسه في هذا العكوف حتى أقبلت شهرزاد وقد ارتفع النهار، تعنفه وتلومه في صوت حازم باسم معا، كيف له هانت عليه أمور الملك والرعية، ويخلو إلى نفسه في زاوية من زوايا غرفته كأنه فرد من أفراد الناس البسطاء، ولا يحاسب نفسه على هذا الوقت الطويل الذي أنفقه في غير شئون الملك، وهو يعلم أن للشعب حقوقا يجب أن تؤدى إليه.
وأخيرا يقول الملك دهشا في صوت كأنه يأتي من بعيد:
"يا عجبا! كأنما أسمع حيث فاتنة".
ولأن شهرزاد هي الفن الحقيقي، وصاحبة ومبدعة كل هذا القص الأثير بجموحه وروعته وأبطاله تندهش من قوله له قائلة له:
"فاتنة! فاتنة! ليس هذا الاسم عليّ غريبا، وأحسب أن لي بى عهدا قريبا".

أحلام شهرزاد
طه حسين
سلسلة دار المعارف

هدى توفيق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى