يحيى صديق يحيى - منزل الرجل الوحيد

على ربوة حالمة ثمة بيت قديم طاول عمره قرناً من الزمان يستلقي باسترخاء لذيذ عند الطرف الشمالي الشرقي من المدينة حيث أعلى كتف من أكتاف دجلة ينعم بالسكينة والعزلة المفروشة بمساحات زروع خضر . تتخطى عتبة بابه الخشبي الذي لم يألف الغلق أبداً إلا عندما يَخلدُ صاحب البيت إلى النوم أوان حلول الظلام العميق، تعبر مجازا ضيقا،
يلامس رأسك عريش كرمة ظِّلية، زاهية الخضرة، وينفتح أمامك على الفور مشهد بستان واسع، احتل قلب البيت، متنوع النباتات سواء ما تدلى منها في أصص بنية معلقة أو ما افترش منها أرضية البستان من ورود وشقائق ملونة، تَهتزُ لها الروح كلما شفتها نسمة. قد تلمحُ مزهريات فخارية مزخرفة كبيرة غارت قواعدها في الطين، مَكسورة أو مفطورة الجانب. في الضلع الأيمن، غُرف وأواوين تُركّت نهبا للبلى والتصدع وتكدست فيها خردة متنوعة، أما عند الضلع الأيسر للبيت، فينتصب بناءٌ قائم على أربعة أعمدة من "الفَرش" الموصلي الشهير، تُزينُ قواعدها ونهاياتها زخارف بسيطة، تصعد إليه بدرجات أربع فتواجهك غرفتان واسعتان عن اليمين وعن الشمال، نوافذهما المشرعتان للريح ذواتا الشبابيك الحديدية المربعة تُطلان على النهر الذي ينحرف بمحاذاة الغابات قادما من الشمال عابرا من تحت جسر المدينة الثالث. الغرفتان مهملتان منذ زمن بعيد، أما السطح فقد انهارت جوانبه، وبانت ألواح "الشلمان" الحديدية الصدئة. تحت هذا البناء سرداب ربّي فيه ذات يوم دجاج وبط، لا يزال أثرهما ظاهرا حتى اليوم. قد تتعثر بقطة صغيرة تموء عند قدميك، فيما تتعلق أخرى بأطراف بنطالك وأنت تدفعُ بخطواتك عابراً دكةً واطئةً، ليستقبلك مربع عندَ طرف البستان، فُرشتْ أرضيته ببلاطات من "الفرشْ" أطرته تخوت خشبية وأرائك بالية بانت أحشاؤها وتهرأ قماشها، باقية هي في موضعها وعلى هيئتها أبدا يَغزوها قيظ الصيف وينال منها مَطر الشتاء، عندئذٍ تكون قد بلغت لُبَّ المشهد الحي للبيت، وقلبه الخافق. جرت العادة أن يملأ رواد المنزل هذا الأثاث، يجلسون عليه كيفما اتفق بعد أن تُفرش عليه البطانيات وهناك من يقف عند احد الأعمدة المعدنية التي تلتف حولها أوراق زهرة عباد الشمس، خاصة حين يكون البيت مُزدحماً أيام الاثنين والخميس، أو لحديث جانبي، لا ريب أنه يتعلق بشأن من شؤون الثقافة والفن، هذا في حال كان الجو مناسبا، ضحى وظهيرة وعصاري أيام الشتاء المشمسة، الربيع، أو في أماسي أواخر الصيف لذيذة الهواء. مؤخرا جُلبَ إلى البيت مكيف حديث طَرد مُبردة الهواء القديمة وحل مكانها فراح يبث برودته في أرجاء الحجرة التي تقع عند الطرف الأيمن لهذا المربع بالضبط مما زاد من ساعات الجلوس والاسترخاء، هي آخر ما تبقى من غرف البيت ونجا من مَخالب الزمن. قُبالة مُربع الجلوس هذا يرتفع قوس إيوان يحوى ثلاجتين عاطلتين وسخّاناً عليه دلّة قهوة لا تكاد تفارقه، وما أكثر ما تَعدتْ سخونتها فسالت من على الجوانب وفاحت في المكان رائحتها المحروقة. رائحة القهوة من العلامات اللصيقة بالمكان، فكلما ذُكِرَ المكان ذُكرتْ القهوة وتحسست الخياشيم رائحتها. إذا حافظت على اتجاهك فسوف ترى بابا بنياً من لوحين متواضعين تدفعهما بأناة فينفتحان كلاهما مرةً واحدة إلى الداخل وتدخل لتَحُلَّ وسط لجة الكلام وقهقهات الأنس التي ما عرفت الانقطاع أو الخفوت إلا ما نََدرْ. أفواه ضاحكة، رؤوس حانية تقرأ في كتاب، مجلة، صحيفة، تتصفَّحُ مجلدا تاريخيا، نقوش في الزخرفة الإسلامية، العمارة، آثار وتنقيبات ومتاحف، مجلة ناشنال جوكرفي البريطانية، كتاب صادرا من المتحف البريطاني يتحدث عن اكتشافات المنقبين في منطقة النمرود الأثرية. أشياء وأشياء تكدست بعضها فوق بعض عند الركن الأيمن من الحجرة، ناهيك عن كدسٌ آخرَ خلف باب "الروزنة" التي تتصدر الحجرة، هناك مكتبتان مزججتان عُلقتا لاحقا عند نهاية الحائط الأيسر للغرفة. على الحائط أيضاً عُلقت لوحة زيتية كبيرة لشيخ قسيس جلس يرسم وسط غابة من الأشجار السامقة للفنان نجيب يونس، وأخريات تنتمي إلى مدارس الفن الحديث، لوثر إيشو وماهر حربي. عيون مُشتتة تتطلع في شاشة التلفزيون على نشرة أخبار.. أخبار؟! أية أخبار؟!.. من يستطيعُ أن يسمع، أو على أفلام وثائقية. رؤوس أخرى تتمايل بطرب، تجاهد لكي تسمع صوت المطرب السوري صبري المدلل الذي جاء حبيب صاحب البيت بأحد أقراصه المُدمَّجة من حلب قبل أيام. لا تَجفلْ ! فقد تنفجر ضحكة مدوية على حين غَّرة لاشك أنها إثر طرفةٍ طازجة أطلقها أحدهم تستحق هذه الجلجلة مما يجعل حبيب يقفز من مكانه ويوقف صوت المدلّل صارخا: "حَّوشْ.. والله حَّوشْ!" هناك من إختفى من رواد البيت وترك البلاد وغاب في أصقاع الأرض، أو مَرضَ فلم يعد يقوَ على المجيء، أو قد يأتي أحدهم متوكئاً على كتف أحد أبنائه، وهناك من غَيَّبه الموت. أما اليوم فمعظم رواد البيت هم من جيل السبعينيات، الجيل الذي ذاق طَرفا من لسانه حلاوة سنوات الاستقرار وشهد حافلات مصلحة نقل الركاب الحمراء المكتظة، وجباتها النشيطين وهم يقطعون التذاكر وزحام شوارع السرجخانة ونينوى، شارع الدواسة العامر بصالات السينما بأنوارها الملونة البهية وبوسترات أفلامها، المكتبات، المقاهي، كازينوات الليل الصيفية على حافات دجلة، أعوام الرفاه، ليذوق الطرف الآخر من ذات اللسان فيما بعد علقم مرارة الحرب التي دشنت حُقبة الثمانينيات وساقت الجميع من دون تمييز إلى ميادينها وساحاتها وملاجئها وغَمرتهم بدخانها. هؤلاء الرواد بكل أصنافهم، موظفين، كتاب، صحفيين، فنانين، عسكريين سابقين، هم الناجون من نيران الحروب الثلاث التي عَصفت بالبلاد، عابرو سنوات الحصار والضنكْ الاثنى عشر، وانفجار المفخخات والعبوات والمقذوفات، الناعون على أواخر السبعينيات، البكاؤون على زهور العمر اليانعة التي قطفتها قبضات الحروب الضارية، من بقي "يَجترْ " كما يقول حبيب قصصا من ذكرياتها البعيدة. ( كُفوا عن الاجترار.. دَعونا نسمع !) يصرخ حبيب في كل مرة يسمع فيها قصصا تفوح منها رائحة الأسى والحزن وهو يريد أن يستمتع بسماع اسطواناته التي جلبها من سفرياته التي لا تنقطع. ( خذ هذه الرواية الفائزة بالبوكر هذا العام، هذا كتاب سيرة ذاتية ممتع، قرص لفيروز بتوقيعها، موشحات، قطع فنية تذكارية، هذه من الإسكندرية وتلك من القاهرة وغيرها من الشام، موسيقى صوفية من اسطنبول، لوحات مولوية )، هكذا يوزع ما جلبه معه من أسفاره التي لا تعرف التوقف. يختفي ثم يظهر، ونحن معه نختفي عند اختفائه ونظهر لظهوره في هذا البيت العتيد. أترى أصبحَ هذا المنزل عالما يحاكي عالم قبو البصل الذي كتب عنه الألماني غونترغراس؟ القبو الذي اعتاد أصحاب الهم والغم ارتياده وفي صحبة كل واحد منهم كيسا من البصل، يَجلس على أحد مناضده،ِ يُخرج واحدةً إثرَ أخرى، يُقشرها ويَفرُمُها بيديه فَّتنساب الدموعُ على الخدود فتخفِف، وتُنَّفس، ما كُبتَ وقُمعْ. الحق أقول أن ما يجعله يتقاطع تماما مع ذلك القبو هو ذلك الضحك وتلك القهقهات العالية التي لا تنقطع..لا. لا.. لم أشهد دمعة واحدة تُذرف.. هل كان ضحكاً كالبكاء؟! وحدهم رواد البيت وحبيب يعلمون ذلك. - نعم.. هنا.. في هذا المكان، هذا مناسب، مناسب جداً. قال فريدكن مخرج الفيلم الأمريكي " التعويذة " الوافد من مدينة السينما هوليود وهو يجول المنزل، ناقلا خطواته بين هذه الغرفة وذاك الإيوان، ويتفحصه بعينيه السينمائيتين. اتصل من فوره بمدير الإنتاج وأخبره: ( وجدنا المكان الملائم للتصوير)، هنا وقَعَ اختيارهم بعد أن جالوا المدينة طولا وعرضا بحثا عن موقع للتصوير. جلبوا معهم نسوراً مدربة بحسب ما تقتضيه حاجة الفلم. في فناء الدار أجريت عمليات المكياج للممثلين، نُصبت عاكسات الضوء والكاميرات، وصوّر مشهدا من مشاهد الفلم في المبنى الواقع في الجزء الأيسر من البيت. فيما صوّرت المشاهد الأخرى في مدينة الحضر التاريخية. هكذا حمل الفلم منزل حبيب وجاب أرجاء المعمورة وهو يُعرضُ على شاشات السينما في العالم. ميزة المكان الفريدة هي في قدرته العجيبة على اختطافك وإبهاركَ منذ الوهلة الأولى، غيابك في تفاصيله، كما غاب فريدكن وجعله يَعْلقُ في فخهِ. لكنك من دون شك سوف تُميز وجها يَلْمعُ هنا وهناك، يظهر ويختفي، في مفردات المشهد، جزءاً لا يتجزأ منه، لا يمكن فصله، تداهمك ضحكته الودودة بصخبها، تعليقه، كفه المضياف وهو يقدم فنجان القهوة باسما: - قهوتك عيني.. تلك هي صوفية الرجل المفرطة وخصلته العنيدة التي تجعله ينأى بنفسه عن الأضواء. - عمو حبيب.. دعني أكتب عنك.. سأجمع ما كتبته الوول ستريت جورنال واللوس انجلوس تايمز، ما صدر من المتحف البريطاني حول اكتشافات النمرود وأكتب، الله يخليك . - لا، لا تكتب.. لا داعي لذلك.. ماذا تكتب ؟ عادي.. أنا والله إنسان عادي. - لكني أراك كائناً أسطوريا مثل أبي الهول، مثل العراف الذي يقف عند بوابات المدن القديمة، في الأوديسا، يسألُ الوافدين لُغزاً لا يعلمه أحد، طائر الفينيق ! ها يَرفضُ دائماً.. دائماً يرفض.. هوَ حالةٌ من قبيل الحالات النادرة التي يتلاشى فيها المايسترو في خضم الأصوات مع العازفين، حركة خَفيّة تَجوسُ في لوحة هو صانعها، بيد أنه برع في إخفاء سر صنعته وجعلك تقف حائرا أمام شيء يشدك بقوة لكنك لا تستطيع أن تحسم وتحدد ما هو بالضبط الوجه أم المكان بمشهديته الملونة؟ *********** تتوقف سيارتان، يترجل الموسيقيون كلٌ وآلته، يعبرون عتبة المنزل ويدخلون. - يا هلا.. هلا والله هلا. يهتف حبيب ضاحكاً. يَغرقُ المكان ببهجة اللقاء، تحايا وضحكات. يجلس الموسيقيون، يدوزنون آلاتهم.. - رست .. نَدخل بالرست.. قال عازف القانون وأومأ بإشارة موسيقية من يديه ورأسه، ناظراً إلى العازفين الأربعة، عازف العود، الرق، الناي والطبلة بقصد التهيؤ والبدء، ثم هوت يديه على آلته تداعب الأوتار. سادَ صوت الموسيقى وحَلَّ إصغاء مُستسلمْ، إنشدَّ الصحبُ إلى اللحنِ المُرسلِ الذي راح يُحرك ما سكّنَ وسبّتَ بعيداً في كوامن الروح، يُدغدغُ قصصاً، يُخرجُ وجوهاً عالقة من الماضي كانت قريبة إلى النفس، مُبتسمة، تُعاتبُ، لماذا لا تَصفح ؟! أماكن، صفحات من حياة مهدورة... يُفلحُ صوت الناي الشفاف عندما يُحلقُ بمفرده في جو الحجرة في إيقاظ وتحريك قصص من رقدتها، وأماني ظلتْ طريقها وهَجعت بين تلافيف الذاكرة. لصوت الناي صلة وثيقة بالوجدان والإحساس الجمعي للإنسان، هو أولى الأصوات المُعبرة التي أطلقها. عندما يُرسل الناي صوته الحزين لا يُهيجُ ما سكن في خبايا النفوس فحسب، بل هو بذاته يحنُ إلى منزله الأول وهيئته البكر عندما كان قصبا أخضراً يانعاً يعيشُ قرب الماء، ثم قُطّعَ ليصبح نايا يُنفخ فيه وتداعبه الأصابع ليطلقَ من بينها أصوات عذاباته الخرساء، هكذا يذهب جلال الدين الرومي في كتابه "المثنوي" وهو يُعَلّلُ صوت الناي الحزين، وهكذا كان صوته يفعل وهو يموجُ في دواخلَ هذه اللَّمة الهاربة من نفسها ومن زمنٍ عّصيٍ قاسٍ ويحرضها على العودة إلى زمن الطفولة ربما، أو أي عالم آخر سوى هذا الذي تَّعيش بين ظهرانيه. (مولاي أجفاني جفاهنَّ الكرى والشوقُ لاعجهُ بقلبي خيما مولاي.. مولاي.. مولاي).. ينطلق الصوت مُنساباً بتروٍ وحَّنين تتبعه نقرات القانون الموزونة. يذوب حبيب، يُغادرُ إلى عوالم قَصيّة، ويهوي الحضور في غياهب اللحن والكلام، ملامح رِضا وابتسام، ملامح تأسٍ وحسرة، تعابير شتى تلون الوجوه. يُجَّودُ عازف القانون، يتوحد مع آلته، يَّهزُ رأسه طرباً في كل مرة تُداعبُ فيها أناملهُ أوتار القانون الذي وضعه على ركبتيه، يُنقّلُ نظراته بين العازفين والمطرب، قد ينحني عليه ثم يَعتدل رافعاً رأسه لينظر من جديد إلى العازفين يمنةً ويسرة. كل شيءٍ في تمامه. وحده الرائي والقادم يمكنه أن يميز كيف تبدو أجواء البيت وبستانه، أشجاره، فنائه، أواوينه، رائحة النهر، نوافذ الحجرة المضيئة التي احتوت الصحب، أنغام الموسيقى المنبعثة منها، وهي تموج بين جدرانه، عذوبة الأغاني والقصائد خاصة في الليالي المقمرة متلألئة النجوم. يغيب حبيب، تُسافرُ ذاكرته في البعيد صوبَ حقول الحفر والتنقيب حيث أمضى سني عمره، الأماكن والفضاءات المفتوحة التي أكلت منه وأكل منها. عُمرٌ من الكدح والعرق سفحه بسخاء. يدخل مغارة، يهوي في بئر سحيق، ينقب عن لقىً، يبحث عن رُقيم، عن سر نامت عليه قرون. يضحك حبيب بتصميم وهو ينزل إلى البئر ليكشف سِرَّه "، سآتيكم بخبرهِ"، يُرددُ البئرُ صدى ضحكته، يجرح الظلام بنور مصباحه اليدوي ينظر هنا وهناك. ذات مرة وجد عدداً من الهياكل العظمية مُقيدة اليدين وقد تهالكت بعضها فوق بعض، فيما تكدس إلى جانبها كنزٌ من الحلي الذهبية النادرة. ينهي عمله ويصعد، يخامرهُ زهو الاكتشاف،
ينعمُ بلذة المعرفة، الحلم يغدو حقيقة، روعتهُ وهو يَتجسّدُ وتُمسكه بيديك. حتى عندما سقط ودُقَّ رأسهُ خرجَّ ضاحكاً. " تعال .. ستنام في غرفة أجاثا كريستي وزوجها ماكس مالوان، مازال كل شيءٍ على حاله، كما تركته، مكتبها،غرفة نومها، أثاثها، مطبخها "، هنا في النمرود كتبت أشهر رواياتها، جريمة في بلاد مابين النهرين وموعد مع الموت وقطار الشرق السريع. "بس تعال". وذهب... هذه المرة وجد قرصا مرمريا رقيقا، أقرب إلى قرص اليوم المدمج، نَظّفهُ من التراب العالق به، وجلس يتأمله. بعد طول تأمل، نهض وجلب موشورا وقرّبه من القرص، وضع القرص على قلم، سلط ضوءاً على الموشور، فرَّ القرص... وإذا بصورة حية تظهر على الحائط لحشد من الجند بزيهم الآشوري يتقدمهم قائدهم وهم في سير عسكري مُنضبط، بيد أن الصورة سرعان ما اختفت، لم تستغرق أكثر من رمشة عين. هالهُ ما رأى، هل يصدق عينيه، أيمسكه سرا لا يبوح به لأحد أم ؟! لم يعد يعلم ما يفعل، نظر إلى القرص مليا، إلى الحائط، إلى وجوده المادي، كينونته، زمنه.... ما يكون هذا القرص ؟ ما سره ؟! لَفّه على عجلٍ في قطعة قماش رقيقة ووضعه في حقيبة السفر المزمع في صباح اليوم التالي مع أوراق وتقارير عن آخر الاكتشافات، سيذهب به إلى العاصمة، إلى الخبراء، سيخبرهم بكل شيء، كيف وجده، وأين، وقصة الموشور، هناك سيعرفون سرّه. في الصباح عندما فتح الحقيبة ليتحسسّ وجود القرص ويتأكد من وجوده، كان القرص قد أصبح مسحوقا من تراب ! جُنَّ الرجلُ مرةً أخرى. *********** عند صبيحة كل يوم، ليس صعباً لمن خَبر وجوه المدينة المألوفة، أن يُميزَّ رجلا قصير القامة يحمل كيسا في إحدى يديه يحوي كتبا ومجلات، ينحدر من منزله قرب النهر، ماراَ بمدرسته الابتدائية القديمة سيدة النجاة، ينصت إلى أصوات طفولته قبل خمسين عاما، مواصلاَ سيره مسرعا عبر دروب المدينة العتيقة، ليتوقف عند بائع عصير البطيخ في بداية سوق الشعارين صيفاَ أو عند بائع عصير الجزر في قلب باب الطوب شتاءً، ثم يستمر حتى يصل تسجيلات الربيع في شارع الدواسة. يمكث قليلاَ يدردشُ مع صديق له ذي نظارات طبية، يَسعَدُ بقدومه، يُطلق ضحكةَ ودودة، يتحاوران، يًطلعه على ما لديه من كتب ومجلات. يمسح رفوف الاسطوانات بعينيه باحثا عن ما صدر من أصوات وألحان جديدة. ثم يغادره إلى مكتبته المعتادة فيأخذ حصته من صحف اليوم ويعود أدراجه.. عندما يسافر، تكون المدينة قد نقصها وجهٌ وضحكة وأنيس لا يُمَّل... هو ذا حبيب..... * أي تشابه بين رجل القصة الوحيد ووحيد آخر في هذا العالم هو محض صدفة... سلامٌ على كل وحيد في هذا العالم سما بنفسهِ وحل في قلوب الناس.


* عن جريدة تاتوو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى