حنون مجيد - لحظة شباك

من شبّاك غرفته الذي يطل على مرتفع جبلي أعد ليكون مدينة حديثة ، استغرق في التفرج على الخضرة الفاحمة لأشجار أقدم عمراً تناثرت بينها وحولها البيوت. كان الشبّاك هذا هو منفذه الوحيد الى عالم رحب غير عالم الفندق المخنوق بدخان النزلاء.
كان ما يزال لم يخلع ملابس السفر، إنما رمى حقيبته على منضدة في ركن وظل يتابع المنظر العام لمدينة تصاعدت بيوتها صفاّ فوق صف ، وفي تدرج تقتضيه عادة طبيعة مثل هذه الأرض.
من ذلك رأى أنّ سطوح البيوت بلا أسيجة ، إذ ما نفع سياج لا يمنع عن بيته نظر الآخرين في البيوت التي أعلاه ، ثم من بات يقضي ليله على سطح بارد كالثلج هناك حتى لو حماه سياج؟
البيوت تتصاعد حتى قمة الجبل ، خضرتها الشجرية تتصاعد معها ، بعض منها أعلن عن قدوم المساء بأضوية كابية ولمّا يأت المساء.
إذ كان مأخوذاً بالمنظر الكثيف ، جعل يخلع قميصه واقفاً ليلقيه على سريره من دون أن يشغل نظره بتعليقه على حاملة ملابس قريبة منه.
في شبّاك مقابل كانت المرأة تراقبه ولا تدري إن كان يدري أم لا. رأته يخلع قميصه ليظهر صدره عارياً ، ثم رأته ينحني فلا يظهر منه إلاّ ظهره. كان فيما بدا لها يخلع حذاءيه.
عندما استقام جسده مرة اخرى شاهدت يديه مشغولتين معاً كما لو يفك حزام بنطاله . صدق حدسها لما رأته يمارس طقوس من ينزع بنطاله إذ راح جسده يتمايل مرة لليسار ومرة لليمين.
لم تشاهد المرأة الفتية بعد من نصفه الاسفل شيئاً ، وكانت تود ذلك فصدره العريض ينمّ عن جسد متين ، ومنذ وقت طويل لم تشاهد جسداً عارياً لرجل ما. كما لم تشاهد من الغرفة إلاّ دولاب حفظ الملابس ، والمنضدة المركونة في مكانها الجانبي عليها حقيبته، وبعضاً من السرير، وملحقات أخرى كجانب من غرفة الحمام ، وربما لو أنعمت النظر لشاهدت لوحة لامرأة غائمة الملامح أقرب من غيرها الى السقف محفوفة بإطار معتم.
فتح الضوء وأخرج من حقيبته ملابس ما ودخل غرفة الحمام . رأته يدخلها فلا يغلق بابها . لا تدري لماذا ترك باب حمامه مفتوحاً .لم يخطر لها أن رأت أحداً يفعل ذلك من قبل . غاب هناك دقائق كانت كافية لأن تعدّ لنفسها الشاي وتجلس هذه المرة على كرسي قبالة الشباك.
وجدت المرأة الوحيدة التي قتل زوجها في حرب الشمال فرصة ، قد تكون نادرة ، أن تشرب الشاي على كرسيها المتروك منذ سنتين، وقبالتها رجل لا تعرف عنه أي شيء ولا تعرف كذلك من أي ناحية وفد ، سوى انه نزيل جديد في فندق ما .
لم تعرف المرأة اسم الفندق ، وحتى إن مرت عليه يوماً فإنها لم ترفع نظرها نحو لافتته ، ثم ماذا سيكون منها لو رفعت نظرها واستغلق عليها فك حروفها هي المرأة التي لا تعرف في الأصل فك الحروف؟
ظهر اخيراً ، منشفته تتنقل بين صدره ورأسه وأذنيه في لمسات بدت أخيرة ، إذ ما عتم أن رمى المنشفة على عارضة السرير.
ما يزال صدره العاري قبالتها ، ثم ما لبث أن فتله نحو حقيبته وأخرج كتاباً . لحظة غاب رأسه ونصف جسده ارتفعت من على القسم الخلفي للسرير رجله اليمنى منثنية تحمل ساقه اليسرى في تشابك جميل .
كان السرير نسبةً لموقعها في وضع عرضي ، لذا كانت ترى ساقيه المتعاكفتين أشبه بجسدين متضامين. بل كانت ترى وهي التي لم تشاهد من الفن الاّ الرسوم في كتب الأطفال ، ان الساقين بوضعهما هكذا يشكلان صورة ما ، صورة جميلة ولكن تنطوي على قوة ما ، فهما يلوحان لها طويلتين وعضليتين.
يا إلهي إنه يشبهه، امتداد جسده ، طريقة وضع ساقيه على سريره اللحظة التي يسترد فيها أنفاسه بعد ساعة اللقاء ، ثم وأنا أذهب الى الحمام لأعود من بعد أعدّ الشاي. جسده المغري ممتد على طول السرير ، والساقان المتعانقتان، ولحظات الهدوء العميق ، الصمت الذي يأخذ به حتى نلتقي على شاي العصر ، ثم سلاسة صوته إذ يطلب شيئاً ، كأساً من الماء مثلاً. هل لذلك الآخر صوت يشبه صوته ؟
لا شك أنّه يقرأ الآن ، يفك حروفاً حاول فكها لها قبل أن يعود اليها أشلاء.كانت الحرب انتهت أو أعلن عن انتهائها، لكن رصاصة طائشة لا تدري إن كانت إعلاناً أحمرعن بهجة عيد، أو ختماً أسودعلى صفحة بؤس ، دخلت صدره وقتلته !
لم تسمع من المعزّين غير دمدمات باردة مثل " الموت حق ،ولا اعتراض على حكم الله ، وما حصل لزوجك حصل لآلاف غيره " ولا حقوق اخرى ، ثم لم تسمع ، من بعد، أحداً تحدث عن شيء أسمه نفسها أو جسدها أو حياتها القادمة . لقد اعترى الصمتُ الجميع ، وأطبق عليها النسيان .
ها هي تشرب الشاي مطرزاً بلذة غريبة ، تماماً كما هو الخيط المر الذي يمازج حلاوته الآن، وتتسقط حركات الرجل المختلفة، امتداد ساقيه لحظات ثم عودتهما على نحو مختلف ، اليمنى تنضم على اليسرى وتهتز، ارتفاع الكتاب إلى الأعلى في حركة متوترة كأنْ ينش به حشرة ما.
رشاقة الساق التي تعلو اختها تثير مكامنها ، ولوعرفت الرسم لخطت خطها المرسوم بانسيابية عاتية ابتداء من قمة الركبة حتى أصابع القدم النافرة كرأس غزال يتسمع لنداء بعيد.
ينهض ، صدره ما يزال عارياً، يملأ قدحاً ماءً يجرعه دفعة واحدة ثم يدخل غرفة الحمام ويغيب.
لقد تناولت شايها اللذيذ.. كوباً واحداً فقط ، ولما كانت كعادتها لا تكتفي بكوب واحد، غلت الشاي من جديد وعادت بإبريق صبت كوباً آخر منه .
وهي تجلس جلستها السابقة ، كرسيها أمام شباكها وإلى جوارها منضدة وضعت عليها إبريق الشاي والكوب بين يديها ، فكرت بأحلامها ، احلامها المبهجة التي لم تتعدَّ عدد أصابع اليد الواحدة ثم كفت سريعاً عن تذكرها إذ أصبحت بفعل قدمها لا تقدم بهجة ما. كان موته إذّاك قريباً وصوته ما يزال حيّاً ، كذلك لون شعره ونظرة عينيه وهمس أصابعه . الآن تزداد لوعتها إذ يسقط كل شيء في العتمة فتصبح الأشياء الجميلة بعيدة جداً ، ما خلا هذه ذات السنوات الأربع التي تلعب الى جوارها وتغفو من أول نومها . لم تتمنَّ أن يفطن الرجل إلى وجودها، فلربما أسدل ستارة شباكه وأطفأ لحظات نشوتها.
شجرة التين التي تتصدر واجهة بيتها تحميها أو حمتها من نظراته ساعة كان ينظر صوبها. لم تعتقد لحظة أنّ نظره انصب عليها . كان نظره طائشاً هو الآخر فإن سقط على شيء كشجرة التين اليانعة مثلاً، يكون كالرصاصة التي ثقبت صدر زوجها . المصادفة هي التي حددت كل شيء.
يرتعش جسدها إذ تقارن بين الرصاصة القاتلة وشجرة التين بثمارها الصفر، تكاد تذرف دمعاً غزيراً إذ يلوح لها ذلك عرضاً ، دون سابق تفكير، ولكن بإصرار عنيد.
جيش الظلام بدأ ينتشر في الأرجاء ، في المقابل بدت الأضواء أشدّ توهجاً والصورفي الغرف أكثر وضوحاً ، لون حقيبته البني مثلاً وكذلك سمرة جسده أو هكذا جاءت صورته لعينيها، ولربما لو أنه نهض الآن وصوب نظره محدداً الى الزجاجة التي تجلس خلفها لرآها.
تنهض الى المرآة تطالع جسدها المجلل بالسواد، تتفرس في بياضه الغائب في تهطّل أيام تمر بطيئة ولا شيء غير أن تلقي بنفسها على سريرها البارد تمسك لحمها الصلب ، تنشر أصابعها على انحاء منه ، تتحسس كوامن حرارته الملتهبة ، فتحزن وترفع يديها فجأة عنه كما لو في حالة نفور منه ، ثم تفردهما على مدى جانبي السرير.
صورته المعلقة أعلى سريرها وقبالتها طبعت بصمتها على عينيها فما عادت ترى صورةً سواها. وحدةُ الليل ووحشته ، وحدهما، يثيران حماسها الى القرين الحي، الذي يمتلك أصابع حية تمتد كالمجسات ، الى مواطن المسرّة في جسد لم تعرف حتى هي مقدار ما يمتلك من لذائذ وأسرار.
كانت أسئلة ما تطرأ على بالها سرعان ما تطردها قبل أن تظهرعلى شفة او لسان، درءاً لما قد يشاع أو يقال، ثم كيف لها أن تتحدث في هذا وكل ما تلبسه أسود ، وكل ما حولها صامت عنها صمت ما يحيط بها من حيطان وأسوار؟
مع مرورالأيام كانت وحدتها تشتدّ وتشتدّ فيؤلمها أكثر ثم اكثرمقدار ما صنع بها شيء أسود إسمه الموت ، ما أفقدها من رجل وما أملى عليها من حزن.
على المدى الذي تسمح به نافذة غرفته تتسع نظرته، يسرّحها على جبل أدكن منقط بالأضواء. يفتح نافذته يستنشق العطر الذي تفحه الغابة أمامه. يرفع سماعة الهاتف فيأتيه عامل خدمة بملابس خارجية بيض، بصينية عليها إبريق وعلبة سكر وقدح.
يعود الى نافذته يتابع بنظر كالمسحور صفحة الليل . يهيم في المدى الغامض البعيد ، مستسلماً لسطوة غريبة بدأت تستحوذ عليه ، أن يظل هكذا حتى ينهض الفجر، يراقب التجليات المتدرجة أعالي عينيه ويشرب الشاي.
يعرف أنّ ليلته هذه ستكون طويلة عليه ، ليس لشيء سوى أنه على موعد غداً وها هو مأخوذ بما يشاغل نفسه ، ويمضي بالساعات.
ما تزال المرأة تراقبه، تتقرّى حركة رأسه المنضمّة على هدوء غريب أشبه بهدوء الموت ، وتدرك في الوقت نفسه أن لم يعد لديها متسع من الوقت ، لمراقبة رجل لا تعرف أين يصوب سهم عينيه، إنما آن لصبرها أن ينفد الآن بعد أن أغلق شباكه ، وعاد الى سريره مركّباً ساقاً على ساق وفي تناوب لا يهدأ أو يمدهما ملتفتين.
مع مرور ساعة اخرى كانت ترى الجسد الفارع ينهض ويتجه الى الباب ،ترى بين فرجته امرأة نزعت عن جسدها قبل لحظات ملابسها السود ، فاستبدلت بها ملابس حمر وخضر وصفر، تحمل بيديها طبق تين لتدخل الغرفة إذ يدعوها ، وتجلس على وجل على الكرسي المجاور للسرير، ثم ما تلبث أن ترتقيه على ذراعيه.
بعينين مغبشتين كانت ترى الريح تهب عاتية تجعل شجرة التين تهتز وتتشابك أطرافها، في عنف قلما شهدت درجته من قبل ، حتى ليخيل اليها انها نفضت مجمل اوراقها.
إذ ينهض أخيراً ويبدو جسده منهكاً ليقصد الحمام ،تغادر المرأة الغرفة مستكنّة القلب هادئة الخطو، تعود لشايها الذي اصبح ثلجاً الآن ، تغليه من جديد ، وتسدل ستارة شباكها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى