أمل الكردفاني- قصة الجزار والموظف الغلبان- قصة قصيرة

كان الموظف الغلبان يبذل جهدا كبيرا للعبور إلى منزله دون أن يراه الجزار...وقد نجح عدة مرات -بشق الأنفس- في الإفلات منه ؛ غير أنه في ذلك اليوم ونتيجة للارهاق لم يكترث إلا للوصول إلى منزله حاملا كيسا به عشرة أرغفة فلم يبرح حتى وجد كف الجزار الثقيلة تهبط على كتفه النحيل.
- الديييين...الآن وليس بعد ساعة...
قال الجزار فأجابه الموظف:
- يا صديقي نحن جيران قبل كل شيء والرسول أوصى بسابع جار...انتظر أول الشهر القادم...
قال الجزار:
- لم نكن أصدقاءا يوما ما فأنت متعجرف رغم تسولك وتعتقد أنني مجرد جزار جاهل إنك حتى لا تقف قربي في الصلاة.
قال الموظف بتمسكن:
- هذا حقيقي ولكن إذا عرف السبب بطل العجب..وأنا أخشى أن تزنقني بعد الصلاة وتطالبني بالديون المتراكمة .. إنني اشتري ربع كيلو كل اسبوعين فقط ليشم العيال رائحة اللحم وفوق هذا فاللحم يمكن أن نطبخ منه ثريدا..تصدق وتؤمن بالله.. هذا الربع كيلو تصنع زوجتي من ثريده ثلاثة أنواع من الطبيخ..الحلل الثلاثة تكفينا ثلاثة أسابيع نشم فيها رائحة اللحم بالمايكروسكوب الشمي...
قال الجزار:
- مايكروسكوب شمي؟!!! ما هذا...
- آه يا صديقي هذا مجرد مجاز..دعك منه..
قال الجزار بغضب:
- متسول بروح متعجرف...
قال الموظف بفزع:
- لا لا أرجوك لا تفهمني خطأ يا صديقي..كل مافي الأمر أنني احاول شرح مأساتي بشكل يمكنه أن يجعلك تشعر بها..
قال الجزار:
- في كل الأحوال إما أن تدفع الآن أو سأتخذ ضدك إجراءات قانونية..فأنا رغم جهلي كما تعتقد إلا أنني لا أميل إلى العنف والدموية..فهذا من نصيب خراف وعجول مزرعتي..
قال الموظف:
- بارك الله لك في مزرعتك ومالك وعيالك ونفعنا بخيركم يا سيدي الجزار...
قال الجزار غاضبا:
- وتسخر...المااال..أريد مالي..والآن فورا...
قال الموظف:
- معاذ الله أن أسخر لقد قال تعالى ولا يسخر قوم من قوم..
قال الجزار:
- وقال أيضا إدفع بالتي هي أحسن...
قال الموظف:
- ولكن هذا ليس معناها...معناها أن تدفع الشر بالخير والكره بالمحبة...
إحمرت عينا الجزار وقال:
- وتحاول التقليل من قدراتي على فهم كتاب الله بأكاذيبك...
فزع الموظف وقال:
- أقسم لك يا سيدي أنني لم أقصد ذلك.. لماذا أنت حساس هكذا اليوم...
قال الجزار:
- قال الله ..إدفع...
ثم فرك إبهامه وسبابته وأضاف:
- إدفع بالتي هي أحسن ..بدون مشاكل وبدون أن تحوجني للجوء للبوليس..
قال الموظف:
- يا سيدي الجزار.. إدفع هنا بمعنى أن تستخدم الخير لتغيير علاقة الخصام والجفوة.. وبالتي هي أحسن أي كما لو قمت الآن بإعفائي من كل ديوني...فتنال أجر الدنيا والآخرة..
قبض الجزار على تلابيب الموظف وقال:
- آه يا زنديق..تتلاعب بكتاب الله لتخدعني...
ثم صاح مناديا على الناس:
- تعالوا يا قوم... تعالوا واسمعوا هذا الزنديق يتلاعب بكلام الله تعالى دون أن يخشى الله...
تجمهرت مجموعة من النسوة والأطفال حول الرجلين...وارتفع صراخ الجزار:
- يا زنديق يا مهرطق..تتلاعب بكلام اللله تعالى...
وحاول الموظف الفلفصة والهروب وهو يصيح بذعر:
- أقسم بالله أنني لم أفعل...
- بل فعلت..
- لم أفعل وشرفك...
صاح الجزار:
- اسمعوا ما يقوله هذا الكافر المرتد...
صاح الموظف باكيا:
- اللعنة اللعنة..أتركني.. أترك كم قميصي...إنه قميصي الوحيد الذي أذهب به للعمل...
صاح الجزار:
- هذا جزاء كفرك وزندقتك يا زنديق...
ثم دفع الموظف فتلقته الجماهير بالصياح والضرب بالقباقب حتى دخل إلى منزله وأغلق الباب وراءه.
تلقته زوجته وهي تصرخ:
- ما هذه الدماء..من فعل بك ذلك؟...
قال وأنفاسه تعلوا وتهبط:
- كل أهل الحي.. لقد خدعهم الجزار وقال لهم بأني زنديق ومرتد وأغير في كلام الله...
صاحت:
- وهل هذا وقت النقاش حول الدين...نحن نعاني من الفقر وأنت تتناقش في مسائل الدين...ولدك مريض وابنتك لم تذهب للمدرسة منذ اساببع لأننا لا نستطيع منحها تكاليف الإفطار هناك.. وأنا لم أتعطر منذ تزوجتك توفيرا لثمن العطور ..فلم أعد أشبه النساء وأنت تترك كل ذلك وتتجادل وتزندق في كلام الله..
اتسعت عيناه وقال بفزع:
- من قال أنني زندقت..إنه كذاب..كذاااب.. أقسم لك أنه كذاااب.. بل .. بل جاهل .. جاهل أحمق... منحه الله المال ولم يمنحه عقلا إلا كعقل بهائمه...
قالت:
- وكمان تعترض على حكمة الله في تدابيره.. أنت بالفعل كافر..سآخذ الأولاد وأعيش مع خالتي ..
صاح غاضبا:
- أنت تبحثين عن حجة للهروب من المسؤولية فقط..تتحججين حتى تخوني ميثاق الزواج..
صاحت:
- فليذهب ميثاق الزواج إلى الجحيم.. هذا لم يكن زواجا بل كان نقمة وابتلاء لي.. كيف قبلت الزواج بك..من خدعني ورماني في هذا البؤس والشقاء..
قال بغضب:
- أيتها المرأة الجاحدة... عندما تزوجتني تواعدنا على البقاء في السراء والضراء فأين وعدك؟
صاحت بدورها:
- وأين السراء؟ إنني لم أذق طعم السراء هذه منذ تزوجتك..لم أعرفها إلا من خلال المسلسلات... ما طعمها ما لونها؟ ..
قال وهو يبكي:
- يا إلهي..وابناؤنا..أليس سراءنا ونعمتنا...
قالت وهي تبكي بدورها:
- ليتني لم ألدهم ليعيشوا في هذا البؤس..
قال:
- لا .. لا تقولي ذلك..كوني صبورة... فالأحوال تتبدل..
صرخت:
- إنها لم تتبدل منذ اثنتي عشر سنة فمتى تتبدل..
اندفع نحوها واحتضنها وهو يبكي:
- ربك كريم..ربك كريم...
دفعته عن جسدها وصاحت:
- ربك قال اعقلها وتوكل..وأنت لا تفعل شيئا سوى الاتكالية..
صاح وهو يغطي وجهه:
- رباااه..لماذا أصبحتم كلكم فقهاء في الدين...لماذا اليوم فقط...
سمع طرقا في الباب فمسح دموعه وفتح الباب ليجد الجزار وأهل الحي يقفون وراءه ، قال الجزار:
- عليك أن تغادر الحي .. لا نريد أن يصب الله علينا غضبه لمجرد وجود زنديق مثلك...
نظر لأهل الحي فوجد وجوههم مكفهرة حانقة فقال:
- أقسم لك يا سيدي الجزار بأنني لست زنديقا..كل مافي الأمر أنني لم أكن أفهم معنى الآية...والحمد لله رجعت للتفاسير فوجدت تفسيرك لها هو الصائب..
رمش الجزار وبدت الحيرة على وجهه ثم قال:
- حتى تعرف من هو الجاهل.. والدي شيخ الجزارين كان حافظا للقرآن وقد حفظه في خلوة جده .. نحن نعرف الدين أكثر منكم يا من بوظتكم المدارس العلمانية الملحدة..
قال:
- ولكن كيف كان لي أن أعرف ذلك حين كنت طفلا..لقد أخبرني والدي بأنني سأدرس كما يدرس الخواجات...
قال الجزار:
- جاهل.. والدك جاهل ..
قال الموظف:
- هو معذور يا سيدي..لقد عمل مع المستعمر الانجليزي لفترة طويلة فخدعوه بالرقي والتحضر الزائفين..
قال الجزار:
- حسن.. المهم أن لا تكرر مثل تلك الزندقة مرة أخرى..
نفض الموظف رأسه يمينا وشمالا حتى اختلج خداه وقال:
- تبت..تبت ورب الكعبة..
قال الجزار:
- هل أنت مصر على أن آية وادفع بالتي هي أحسن لا تعني دفع ديونك؟
نفض الموظف رأسه مرة أخرى وقال:
- طبعا لا بل إنني أشعر بالخوف والفزع مما زينه الشيطان لي ..
قال الجزار:
- حسن... ما دمت كذلك..فهل ستدفع لي بالتي هي أحسن؟...
صمت الموظف وهو يفكر في سبيل للحصول على المال ، لكنه أسقط في يده...فصاح:
- هذا ليس معنى الآية أيها الجاهل.. ولن أدفع لك شيئا...إنك لست رجلا بل خنزيرا لا يختلف عن بهائمه...وأنا كافر..وأعلنها بأنني كافر...
صاح الناس:
- اقتل هذا الكافر... اقتل هذا الكافر ...
حينها أخرج الجزار سكينا حاد الشفرة من عضده وانقض على الموظف وكال له الطعنات..
قال الموظف وهو خائر القوى:
- هكذا تخلصت من دينك وتخلصت منك..سوف تعلق على حبل المشنقة إن لم تدفع دية لعيالي...
ثم ألقى نظرة أخيرة متألمة إلى زوجته المصدومة وقال:
- طالبي بالدية فأنت ولية العيال..هل فهمتي.. خذي المال واخرجي من هذا الحي واستثمري المال في مشروع صغير جيد..
قالت وهي تبكي:
- طبعا سأفعل وهل تراني أخسرك ثم اخسر النقود أيضا..لست حمقاء لهذه الدرجة..
ابتسم وغمغم:
- جيد يا زوجتي العزيزة...وداعا...
ثم تهدل جفناه في نصف إغماضة....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى