أندرو روبنسون - العبقرية والجنون.. ترجمة: رحاب صلاح الدين

(العبقرية: مقدمة قصيرة جدًّا)
إن فكرة الربط بين الإبداع والاضطراب العقلي لها تاريخ طويل وحافل. في اليونان القديمة سأل أرسطو (أو تلميذُه ثيوفراستوس) السؤالَ التالي: «لماذا كل الرجال البارزين في الفلسفة أو الشِّعر أو الفنون سوداويون؟» وضرب أرسطو أمثلةً على ذلك بأبطال هوميروس وسوفوكليس، وأبطال الأساطير مثل أجاكس وبيلليروفون، ومن الشخصيات التاريخية الفلاسفة إمبيدوكليس وأفلاطون وسقراط. (تقول الأسطورة إن إمبيدوكليس مات بإلقاء نفسه في فوهة بركان يُطلَق عليه جبل إتنا؛ رغبةً في الوصول إلى مكانة مقدَّسة.)
أثَّرت رؤية أرسطو في مفكِّرِي عصر النهضة. كتب نويل بران في كتابه «الجدل حول منشأ العبقرية إبَّان عصر النهضة الإيطالية» أن خلال القرن الخامس عشر رأى فيلسوفُ الأفلاطونية الجديدة الفلورنسيُّ مارسيليو فيتشينو أنَّ السوداوية «هي الثَّمَن العَيْنيُّ الذي لا بد مِنْ دَفْعِهِ كي تتمكَّن مساعي الرُّوح «البطولية» من عبور الفجوة — التي لا يمكن عبورها بعقلانية — التي تَفْصِل بين الطبيعة المتناهية والزائلة والطبيعة الخارقة اللامتناهية الخالدة.» وشكسبير أدرك بديهيًّا شيئًا مماثلًا في مسرحيته «حلم ليلة صيف». يقول بطله الملك ثيسيوس: «إن للمجنون والمحب والشاعر مخيلةً مشحونةً مكتظَّةً؛ فالمجنون يرى من الشياطين ما يَفُوق سعة الجحيم الشاسع. والمحب شأنه شأن المحموم، يرى جمال هيلين في العيون المصرية. والشاعر عينه في تجوال متلهف مرهف، يَجُول بناظريه من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء.» ويختتم ثيسيوس كلامه بقول: «مثل هذه الخدع لها خيال خصب …»
في القرن التاسع عشر، إبَّان حركة «الرومانسية»، باتت حياة بايرون وروبرت شومان وأعمالهما — كلاهما يتسم بأنه تدميري لذاته — مثلًا تلخِّص الارتباط بين المرض العقلي والعبقرية، وهو المثل الذي زادته حالة فان جوخ دعمًا. وفي القرن العشرين، دَفَعَ ثلاثةٌ من الشخصيات الفنية البارزة في أمريكا، هم إرنست همنجواي وسيلفيا بلاث وجاكسون بولوك، حياتَهم نتيجةً للاكتئاب، وهو ما فَعَلَتْه فيرجينيا وولف في بريطانيا.
كانت معاناة فئة العلماء ككل من المرض العقلي أقل. لكنَّ استطلاعًا أجراه الطبيب النفسي فيليكس بوست في تسعينيات القرن العشرين استند فيه إلى سِيَر حياة ٢٩١ مبدعًا استثنائيًّا توصَّل إلى استنتاج مُفاده ما يلي: وفقًا لمعايير التشخيص الحديثة، عانى أينشتاين وفاراداي درجة «معتدلة» من درجات المرض العقلي، وعانى داروين وباستير من درجة «ملحوظة» من المرض العقلي، وعانى بور وجالتون من درجة «حادة» من المرض العقلي، إلى جانب عدد آخَر من كبار العلماء. داروين — على سبيل المثال — تحمَّلَ عقودًا من المرض مجهول الأسباب، والذي يبدو أنه كان ناجمًا عن قلقه بشأن استقبال الجمهور نظريته عن الانتخاب الطبيعي.
غالبًا ما كانت القصص المثيرة التي تُروَى عن العباقرة المتميزين تشوِّه الصورة العامة للمرض العقلي والإبداع؛ فالنوادر التي تُحكَى عنهم من السهل أن تعطي الانطباع بأن الاضطراب العقلي شرط لا غنى عنه للإبداع الاستثنائي، وهذه فكرة ربما تغذَّتْ من رغبة الشخص العادي في تبرير إنجازات المبدع الاستثنائي والتقليل من أهميتها. لكن رغم كل أمثلة المبدعين التي تعزِّز هذه الفكرة، ليس من الصعب أن نعثر على مثال مضاد لمبدع استثنائي فنان أو عالِم في حقل مماثل، ولا تظهر عليه أي من أعراض الاضطراب العقلي.
وعلماء النفس لا يمكن أن يحاولوا التوصُّل إلى استنتاج صالح بشأن صحة ملاحظة أرسطو أو عدمها إلا عن طريق دراسة الصحة العقلية لمجموعات كبيرة من كبار المبدعين، الأحياء منهم أو الأموات. وسوف نتناول هنا ثلاث دراسات عن ثلاثة أشكال مختلفة من الإبداع الفني في ثلاث فترات زمنية مختلفة، هي على النحو التالي: دراسة عن الفنانين التشكيليين في عصر النهضة الإيطالية إبَّان القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر، ودراسة عن الشعراء البريطانيين إبَّان عصر الرومانسية في القرن الثامن عشر وحتى القرن التاسع عشر، ودراسة عن الكتَّاب الأمريكيين في النصف الثاني من القرن العشرين.
يتسم عصر النهضة بمكانة ثابتة بِصِفَتِهِ أَحَدَ أعظَمِ عُصورِ تفتُّحِ زُهُورِ الإبداعِ في التاريخ. ومع ذلك تعطي هذه الفترةُ انطباعًا بندرة حالات المرض العقلي بين الفنانين لا زيادتها، لا سيما إذا ما قُورِنت بالفترة «الرومانسية» التي تتمتع بالمكانة نفسها. ورغم أن المعلومات التي وصلتنا عن كبار فناني عصر النهضة مثل بوتيتشيلي وبرونليسكي، وليوناردو ورفاييل وتيشان، أكدت بما لا يدع مجالًا للشك أنهم شخصيات قوية، فلا يبدو أن هؤلاء الفنانين، ربما باستثناء مايكل أنجلو، اعتبروا أنفسهم عباقرة معزولين معذَّبين ويميلون إلى تدمير ذواتهم. يشهد بذلك أن واحدًا منهم فقط هو الذي رُوِي عنه أنه قتل نفسه، هو الرسام الأدنى شأنًا روسو فيورنتينو، ثم جرى تفنيد هذه الرواية فيما بعدُ.
بحَثَ عالم النفس أندرو ستيبتو شخصيات فناني عصر النهضة من خلال تحليل السِّيَر الذاتية التي وَرَدَتْ في العَمَلِ الرائعِ الذي ألَّفه جورجيو فاساري والمُعَنْوَن «سِيَر أكثر الرسامين والنحاتين والمعماريين امتيازًا»، والذي نُشِر أولًا باللغة الإيطالية في العقود الوسطى من القرن السادس عشر. وسأل ستيبتو نفسه: «هل رأى فاساري أنَّ الأفراد الأكثر إبداعًا مختلُّون وسوداويون، وغير تقليديين أم أنه رآهم على نحو مختلف؟»
وينقسم كتاب فاساري إلى أجزاء ثلاثة، تغطِّي الفنانين الأوائل وفناني الفترة الوسطى والفنانين المعاصرين. ومن المسلَّم به عمومًا أن المعلومات التي وردت في الجزء الأول — حتى عام ١٤٠٠ تقريبًا — غير موثوقة إلى حد بعيد؛ نظرًا لندرة المعلومات التي توفَّرَتْ لفاساري عن هذه الفترة؛ لذا تستبعد دراسةُ ستيبتو الجزءَ الأولَ من كتاب فاساري وتحصر تركيزَها على السِّيَر الواردة في الجزأين الثاني والثالث، اللذين يتضمنان سِيَر ١٢٣ فنانًا من الفنانين المتأخرين — ٨٣ رسامًا، و٣٨ نحَّاتًا، و٢٢ معماريًّا (عدد كبير من الأفراد أجادوا أكثر من مهنة) — كان من بينهم أوسع شخصيات عصر النهضة شهرةً.
ثمة مشكلة أيضًا بشأن مدى مصداقية فاساري شخصيًّا؛ وذلك لأن أخطاءه الوقائعية لطالما كانت معروفة للجميع، لكن هذه الأخطاء تقل أهميتها في دراسة أي شخصية عن أهمية وجهة نظره؛ ما إذا كان حقًّا قد اصطفى من بين مصادره ونقحها كي يقدِّم صورة تتماشى مع أجندته الأساسية التي تذهب إلى أن الفنانين محترفون — لا مجرد حرفيين — جديرون بالتوقير الذي تتمتع به مجالات مهنية معروفة كالقانون والكنيسة والطب. في الواقع هناك بعض الأدلة على أنه فعل ذلك. من ناحية أخرى، ورد في كتابه ما يكفي من الصفات الشاذة والسمات الكريهة بما يشير إلى أن هذه السِّيَر يمكن تصديقها بشكلها الوارد في الكتاب. يدلِّل ستيبتو على ذلك بأنه حتى الفنانون المفضَّلون لدى فاساري كانوا «من الممكن أن تَشُوبَهم الصفاتُ السلبيةُ كالكبرياء أو التقصير، شأنهم شأن غيرهم من الفنانين.» الأمر المهم أيضًا هو أن السِّيَر التي قدَّمَها فاساري أُخِذَتْ على محمل الجد، دون تشكيك، من قِبَل معاصريه الذين كانوا أنفسهم يعرفون الكثير عن الفنانين الذين وصفهم.
فحص ستيبتو السِّيَرَ الذاتيةَ لاستقصاء ٤٢ صفة مختلفة، تضمنت صفات عامة كالصدق والكبرياء، إلى جانب سمات شخصية مثل الكآبة وغرابة الأطوار اللذين يشيع الاعتقاد بأنهما يشكلان جزءًا من «المزاج الفني». مما لا شك فيه أن المواد المتاحة لم تتلاءم دائمًا مع الخطوط التي رسمها ستيبتو للاستقصاء؛ لذا فقد اعتمد في نهاية المطاف ١٣ فئة أكثر رحابة من التعقيبات التي ذكرها فاساري على شخصية كل فنان فيما يتعلق بصفات: البراعة الفائقة، الاجتهاد في الدراسة، القدرة على العمل الشاق، النقد السلبي، الشخصية الاجتماعية، التهذيب، الأناقة، الاعتدال، السذاجة، الكآبة، غرابة الأطوار، عدم الجدارة، الغرور.
تبيَّنَ أن أكثر السمات شيوعًا هي الاجتهاد في الدراسة؛ إذ اتسم بها ٤٨ فنانًا من أصل ١٢٣ (بنسبة ٣٩٪)، تليها في الترتيب سمة التهذيب (بنسبة ٣١٪). كانت الميول الاكتئابية وغرابة الأطوار غير شائعة نسبيًّا، وكذلك الأناقة والسذاجة. يقول ستيبتو: «ليس لدينا هنا سوى القليل مما يمكن أن يثبت اتسام الفنانين بمزاج سوداوي، أو وجود ذلك المخلوق المنعزل مفرط الحساسية الذي تتصوره المخيلة الحديثة.» هل يُحتمَل أن هذه الصفات كانت تُميِّز النخبةَ الضيِّقةَ من الفنانين العظماء، أعني: مجموعة جزئية من الرسامين والنحاتين والمعماريين الذين حكَمَ عليهم فاساري بأنهم بالِغُو البراعةِ بدرجة استثنائية؟ ليس الأمر كذلك، فبعد أن عزل ستيبتو هذه المجموعة ثم أعاد تحليلها، لاحَظَ أنَّ النمط الأول يزداد وضوحًا؛ إذ تبدو مجموعة النخبة أكثر اجتهادًا في الدراسة ولطفًا واجتماعيةً واعتدالًا في عاداتها من الغالبية العظمى من الفنانين، مع عدم ارتفاع في نسبة الميول الاكتئابية أو السلوكيات الغريبة. وبعد أن أعاد ستيبتو التحليل مع المجموعة المنتقاة المكوَّنة من الأحد عشر فنانًا المعروفين بأنهم مفضَّلون بالنسبة لفاساري (مازاتشو، وبرونليسكي، ودوناتيلو، وليوناردو، ورفاييل، وأندريا ديل سارتو، وروسو فيورنتينو، وجوليو رومانو، وبيرينو ديل فاجا، وفرانشيسكو سالفياتي، مايكل أنجلو)، بات النمط حينئذٍ أكثر وضوحًا. يبدو أن أعظم فناني عصر النهضة لم يكونوا على قدر ملحوظ من عدم التقليدية أو المزاجية، وإنما كانوا على عكس ذلك، مجتهدين، عاملين مُجِدِّين، مهذبين، اجتماعيِّين، أنيقين. وهذا بالفعل هو ما يبدو عليه ليوناردو بالنسبة للمؤرخين الفنيين في الفترة من ثمانينيات القرن الخامس عشر حتى تسعينياته، حينما كان يعمل في بلاط دوق ميلانو ويرسم لوحة «العشاء الأخير» — ربما يُسْتَثْنَى من هذا ما عُرِف عنه من فشل في إتمام معظم أعماله.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: العبقرية: مقدمة قصيرة جدًّا، أندرو روبنسون، ترجمة رحاب صلاح الدين، مراجعة هبة عبد العزيز غانم، دار هنداوي.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى