ألف ليلة و ليلة بروين حبيب - الحكاية في مواجهة الإجرام وإنتاج الحب..

يقول أحد الأدباء «الرّجل الذي لا يعرف أن يحكي قصّة لابنه رجل لم يعش» ويقول ماركيز «عشت لأروي» فأي العبارتين أقرب للحقيقة؟ ثم ماذا بشأن المرأة التي تعيش بين مطبخها وعملها وواجباتها العائلية التي لا تنتهي، من أين تأتي بكل الحكايات التي ترويها كل مساء لأبنائها؟
أبسط امرأة يمكنها أن تكون قاصّة رائعة. وأكثر الرجال تحليقا في العالم قد لا يعرف تركيب جملة واحدة ليروي مختصر يومياته لأبنائه. حتى شهرزاد التي تخرج من أساطير الأولين لا نعرف من أين خرجت، في الغالب هي صبية في مقتبل العمر، مملوكة أو ابنة وزير لا ندري أيضا، زُوجت لأمير مصاب بمرض الارتياب ويحتاج لضحية يمص دماءها كل ليلة حتى يتمكن من النوم بهدوء. ينتقم من خيانة زوجته بقتل العذارى، ظالم حتى النخاع، ويختلف تماما عن جاك السفاح الذي قتل إحدى عشرة مومسا في الأزقة المظلمة لمدينة لندن وظلّ مجهول الهوية لمدة مئة عام.
علاج الخيانة بالقتل رمزي في حكايات ألف ليلة وليلة، ولكنه يعكس الطريقة التي تتبعها المجتمعات البدائية جميعها لتصفية حساباتها مع الخائن، خاصة إن كان امرأة، لكن مسار الحكايات يخرج عن القاعدة الشاذة التي غرست في رأس شهريار على أن كل النساء خائنات. قد يكون هذا هو المختصر لحكاية ألف ليلة وليلة، ورغم كل الدراسات التي تناولت محتواها ونسبته للعرب والفرس والهنود مرات، ولتجار عبروا أمما كثيرة خلال أسفار عصيبة بين قفار آسيا وبلاد ما بين الرافدين، لم نتوقف أبدا عند تحليل نواة الحكاية التي تقوم على سلوك مجرم وصبية تروي الحكايات، ويبدو أن الحكاية تتنتصر أمام قوى الشر وأمراض الذكورة المنحرفة، وحين تنتصر بأدوات السرد السلمية، تعود السيوف إلى أغمادها، ويزهر الحب في أمكنة ما قريبة من القلب، قبل أن تعود الحياة لكل شيء شوهته دماء الموت سابقا. السؤال يقول إلى أي مدى يمكن لقوة الحياة أن تغير مصائر الناس؟
صحيح أن مجتمعاتنا لا تقرأ، ولا تهمها القصص ولا الروايات ولكنّها تروي قصص المجرمين بكثير من التبرير والتعاطف والصّفح اللامفهوم في النهاية.
شهريار في الحقيقة كان أول مجرم متسلسل في التاريخ، والغريب أنه تمّ الصفح عنه، وشهرزاد التي تروي الحكايات لم تفكّر في قتله، وهذه طبيعة الأنثى التي تمنح الحياة لغيرها وتحافظ على الاستقرار وتكون سببا في بناء مجتمعات وحضارات. كان الحل الأمثل ربما للقضاء على رجل متسلط وذي سلطة قتل عشرات العذارى، أن ينتهي به الأمر مسموما أو مطعونا بخنجر أو مقطوع الرأس أو مشنوقا، ولكنه بدل ذلك واجهته شهرزاد بثلاثة أسلحة هي أسلحة المرأة لحماية نفسها، أولها الحكاية، وثانيها الجنس، وثالثها إنجاب الأولاد.
ويبدو أن شهرزاد التي تعرف نقطة ضعف الرجل الأولى «الفضول» أو «الحشرية» بدأت تثرثر وتروي قصتها الأولى التي فيها الكثير من الإغواء، لينتهي الرجل في أحضانها وهو في قمة هياجه الجنسي، حيث نسي الخيانات وقسم الانتقام لنفسه ولأخيه، ثم نام بعد الانتشاء والتعب من السهر، واستيقظ بمزيد من الفضول لمعرفة بقية القصة، والقصة تجر قصة، والإثارة تجره للنيل من تلك الأنثى جنسيا، وكون حياته أخذت هذا المأخذ، فأجّل قتلها كل ليلة بعد أن تنهكه السّاردة الذكية بحكايات العفاريت والجن والحيوانات الناطقة والسحرة والنساء الشبقات، لم ينتبه إلى أنه أصبح أبا ليس مرة واحدة بل ثلاث مرات خلال الألف ليلة وليلة.
يا للهول!
أهذا ما حدث فعلا؟ أقول حتى إن لم يحدث فإن أغلب الذكور، خاصة بني عشيرتنا المبجلين، لا يعرفون من الجنس غير ميكانزماته لا نتائجه، وقبل ظهور معجزة الـ»دي أن أي» في مختبرات أنبياء الغرب، كان سهلا على الذَّكَر أن يتنصل من أبوته، ملفقا تهمة الزنى لمن كانت حبيبته أو عشيقته، ولا بأس إن رجمت حتى الموت، أو نُكِّل بها، أو قذف بها نحو عوالم الدعارة والتسول.
شهريار رغم قسمه لم يفعل ما فعله الفرعون الخائف من النبي القادم فقضى على كل أطفال مملكته، لم يقتل عذارى المملكة قبل أن يطأهن ويشوه طهرهن ويتلذذ بذلك، وهذا يسمى في لغة علم النفس «عنف جنسي» وفي لغة القانون «جريمة اغتصاب». طبعا لم نقرأ هذه الأمور في «ألف ليلة وليلة» لنعرف تاريخ أمراضنا النفسية، حاكمنا الليالي دينيا، فككناها حسب مناهج عدة، ولم نتوقف عند محتواها النفسي وإرث العقد التي تجذرت فينا منذ قرون ولا نريد أن نبحث لها عن حل. وكما قلت سابقا في مواضع عدة إننا وضعنا الأدب في قفص مبعد عن العلم، وعن طبقات كثيرة في المجتمع حتى تحوّل إلى مادة شبه ميتة، لا يقبل عليها إلاّ «أهل الصّنعة» إن صحّ التعبير.
هل بالإمكان اليوم أن نعيد قراءة خصال شهرزاد؟ المرأة التي تغفر للقاتل المتسلسلة جرائمه وتنجب منه أبناء لتحافظ على حياتها؟ هل يمكننا أن نتوقف قليلا عند عتبة حياتنا كنساء؟ هل ذهبت أبعد من ذلك؟ هل يستحق المجرم منا هذا الغفران العظيم؟ أم أن الغفران لأرباب السلطة مباح ولغيرهم غير ذلك؟ ماذا تعلمنا من قصص شهرزاد؟ وهل في الإمكان أن نذهب بعيدا في قراءة سر الحكاية التي أوقفت شهوة القتل وبشاعة الانتقام؟ ما موقع الحكاية في يومياتنا؟ في يوميات أطفالنا ومراهقينا؟ ما موقع الحكاية في مجتمعات يدمرها العنف يوميا، ويرمي بجثثها على البقاع التي يفترض أنها الفضاء المكاني لألف ليلة وليلة؟
طبعا موقع الحكاية هو الرفوف المنسية، وليس المدارس ولا المسارح، ولا المكتبات. وفي هذه الظروف الاقتصادية السيئة مع غلاء الكتاب وتوحشن الغزو العنكبوتي لأدمغتنا وأدمغة ابنائنا، باتت الحكاية أسطورة منسية من أساطير الزمن الجميل. أقول ذلك بحزن، وقد كان يمكننا أن نشيد كل تلك الأساطير على شكل مدن مثل «ديزني» ونفلت فيها أطفالنا حتى يتعلموا متعة الحياة في أزمنة مختلفة. وأن لكل شهريارٍ شريرٍ نهاية، وأن في كل شهرزاد مربية يمكنها ترويض الوحوش والقتلة وتحويلهما إلى كائنات محبة.
أقل ما يمكن قوله إن هذه الحكايات تحتاج لمزيد من القراءات، ولمزيد من التبسيط لتقريبها من كل الأجيال، من عمر الطفولة إلى الكهولة. ولنا في قصص شارل بيرو نموذج، فكم من مرة كتبت بصيغ مختلفة، وأنتجت على شكل أفلام مختلفة النهايات والرؤى؟
قصة سندريلا التي يعرفها كل أطفال العالم، وكل أبناء جيلي ومن سبقني ربما، لا نعرف أهي نفسها قصة روهدوبيس المصرية التي سرق النسر حذاءها ورماه في حفل أحمس الثاني فبحث عنها وأحبها وتزوجها؟ ولا نعرف هل هي أقدم من ذلك وتعود جذورها إلى الصين قرونا قبل تقمص سندريلا لشخصية الصبية الصينية، وهي تسافر عبر الأزمنة وأصقاع العالم وتتلون بالتقاليد التي تصادفها وبأنواع كثيرة من الثقافات.
هل سألتكم من لديه الشجاعة للدخول معي في محترف عن ألف ليلة وليلة؟ إنه مشروع جاد… وجاد فعلا.



٭ شاعرة وإعلامية من البحرين


https://www.alquds.co.uk/%ef%bb%bf%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%83%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d9%88%d8%a7%d8%ac%d9%87%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%ac%d8%b1%d8%a7%d9%85-%d9%88%d8%a5%d9%86%d8%aa%d8%a7%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d8%ad/

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى