وفاء سليمان - بين الأمس واليوم.. قصة قصيرة

كانت غير قادرة على تحمل كلامه أكثر ..
- كلا.. لا تحاول معي رجاء .
رد بنبرة يشوبها الألم :
- لكنني لا أستطيع إكمال حياتي من دونك ! .
تدثرت بالصمت .. لم تجد كلماتٍ مناسبة للرد، فلا هي قادرة على الكذب ولا هي شجاعة كفاية لتقول الحقيقة ..
استفزه صمتها فسحب نفسا قصيرا من سيجارته، نفث دخانها بقوةٍ وقال مهددا وقد تحول من الاستعطاف والرجاء إلى الغضب والقساوة :
- لن أتوانى عن فعل أي شيء في سبيل الظفر بك، أنت تعلمين هذا .
زفرت طويلاً ثم قامت عن كرسيها، حملت حقيبتها ثم أجابته وقد بدت تقاسيم وجهها هادئة :
- لن تستطيع فعل شيء يا آدم .. انتهى كل شيء، لكل منا طريقه الآن .
لم تنتظر لترى ردة فعلِه، غادرت المقهى دون أن تلتفت وراءها، رمقها بنظرات غاضبة وهي ترحل، أطفأ عقب سيجارته في المرمدة .. شرب جرعة ماء بلل بها ريقه ثم دفع حساب الفاتورة ومضى ليلحق بها على عجل .
* * *
الفصل الأول
- 1 -
كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل وعشرين دقيقة حين انفتح باب شقة الطابق الخامس من إحدى عمارات المجمع السكني الخاص بموظفي المدرسة الثانوية، اندفع منه بأقصى سرعة شاب لم يتجاوز عقده الثالث، بمنامة منزلية ارتداها كيفما اتفق راح يركض على الدرج غير آبه بأنه كان حافي القدمين، في أثناء ذلك صدح صوت هامس من ورائه :
- جــاد.. رجاء عد الآن، ستجلب لنا فضيحة !..
لم يتردد في إكمال طريقه نحو مخرج العمارة.. كان يخشى أن يفقد أعصابه ويتهور، لكنها أصرت على اللحاق به، تشبثت بيده لتوقفه، نهرها وقبض على معصم يدها بقوة ليفلتها، قوة جعلت السوار الذهبي الذي أحاط برسغها ينقطع، جز على أسنانه من شدة الغضب وقال لها بنبرة آمرة :
- اصعدي الآن .
- ليس من دونك.. أرجوك يا جاد، تعال وسنجد حلا للمشكلة .
أغمض عينيه وأطلق تنهيدة طويلة، ثم أشار لها بالصعود، تحركت فتبعها متباطئا .
جلست على أريكة الصالة ودلكت موضع الألم بذراعها وهي ترمقه بنظرات متوسلة، كان يذرع المكان جيئة وذهابا محاولاً أن يسيطر على غضبه قدر المستطاع، وأخيرا نطق دون أن يلتفت إليها قائلا بلهجة مؤنبة :
- لقد ضقت درعا بجنونك هذا يا سهام، هل توجد امرأة عاقلة تصرخ لمجرد أن زوجها أراد أن يلمسها !، من يراك سيظن أنني مجرم كنت أنوي اغتصابك ! .
- أخبرتك.. أمهلني بعض الوقت.. لكنك مصمم ..
- بعض الوقت !!، أنا أنتظر منذ أربعةِ أشهر، تاريخ زواجنا.. هل تذكرين؟ .
همست قائلة :
- وكيف لي أن أنسى؟، ثم علا صوتها :
أنت تدرك أن الأمر ليس بيدي، إنه رهاب .. والطبيب قال أنه مع الوقت والعلاج سأتجاوب و .....
احتد صوته وهو يقاطعها :
- هذا في حالة ما إذا كنت ترغبين حقا في العلاج، ثم إن مسألة الرهاب هذه لم تقنعني، أكاد أجزم أن لا علاقة له بالأمر، أنتِ تفعلين ذلك بإرادتك، إني أرى الرفض بعينيك يا آنسة سهام .
أربكها كلامه، كان محقا بكل ما قاله ..
- جاد .. رجاء، فقط بعض الوقت.. أعدك.. سأحاول ..
قال منهيا الحوار، متجها نحو غرفة النوم ودون أن ينظر نحوها :
- شهر واحد يا سهام، فقط شهر واحد.. وإلا ..
كانت تعرف بقية الجملة .. وإلا سينفصلان، فتحت أصابع كفها المطبقة على سوارها المنقطع، تلمست بأناملها حرفي "A" و"S" الذهبيين المتدليين منه، ترقرقت عيناها بالدموع وهي تغمغم :
- اللّعنة عليك يا آدم .
* *
خلال سنوات مراهقتي الأولى نفحتني جدتي نصيحتها قائلة : " ما الأقدار إلا سهامٌ تصيبنا ولا تخطئنا، لتتابع.. أن ارضِي بقدرك يا ابنتي فالخيرة فيما اختاره الله " ..
الأيام تمضي بنا ولا تترك أحدا، ما كنت سأعرف نفسي لو عادت بي عجلة الزمن للوراء، في وقت ظننتُ أن انتهاء مرحلة تعليمي الجامعي وبداية البحث عن وظيفة يعني الاستقلال المادي وتحقيق كل حلم راودني منذ الطفولة ..كانت آمالي بالمستقبل كبيرة، ولم يكن آدم الذي اقتحم حياتي فجأة أحدها في ذلك الوقت ..
أنا الابنة الثالثة لإحدى العائلات البسيطة التي تقطن أحد الأحياء الفوضوية الموجودة بضواحي المدينة، كان والدي رجلا فقيرا يكسِب قوت يومه من سيارةِ الأجرة التي وهبها إياه أحد أقاربه الأثرياء منذ سنوات طويلة، تكبرني فتاتان تزوجتا بعد تخرجهما من الجامعة، وتصغرني اثنتان أخريان إلى جانب توأم من الصبيان كانا آخر العنقود .
عشنا حياة صعبة، ذقنا مرارة القِلة والحرمان، مرت علينا الكثير من الأوقات التي لم نكن نجد فيها ما نسد به رمقنا، ومع ذلك كان والدي قد قطع على نفسه عهدا أن لا يبخل علينا فيما يخص تعليمنا ولو اضطره الأمر للتسول ..
بحثت بجدٍّ عن وظيفة، أي وظيفة كانت .. مع أنني كنت خريجة كلية العلوم الإجتماعية ومتحصلة على درجة الماجستير في تخصصي، وأخيرا وجدتها كأستاذة قيد التدريب بثانوية قريبة من المنطقة، كنت سعيدة جدا بالخطوة التي تقدمتها في المسار الصحيح الذي رسمته لحياتي، قبل أن أجدني قد انحرفتُ عنه وبملء إرادتي .
كنت كما العادة أمر بالطريق المواجه لمقهى الحي، فقد كان الوحيد الذي يصل بين منزلي ومقر عملي، على الرغم من أني وفتيات الحي كنا لا نسلم من التحرشات اللّفظية لبعض شباب المقهى الطائش، أشياء اعتدنا عليها دام أنها لا تتجاوز الكلمات، لكن ما حدث أنه أثناء عودتي في تلك الأمسية الشتوية للمنزل، وقد كان وقت الغروب قد أزف منذ فترة، اعترضني شاب بدا لي مألوفا ولكنني لم أذكر أين رأيته بالضبط، عريض الكتفين، متوسط الطول، أسود الشعر، أسمر ذو ملامح لا تخلو من وسامة، وقف أمامي بكل ثقة قائلا بصوتٍ جهوري :
- الفتيات المحترمات لا يمشين لوحدهن في الليل .
بلغ الاندهاش مني كل مبلغ وأنا أحدق به كالبلهاء، فأردف وكأنه لم يكن ينتظر مني جوابا :
- تعلمين أنك عرضة للخطر في مثل هذا الوقت، انظري من حولك لتري عدد الأعين التي تتربص بك .
أدرت رأسي من حولي باستسلام تام، فوجدت مجموعة من الشبان الجالسين على طاولةٍ خارج المقهى، يحدقون إلينا وأصوات ضحكاتهم تتعالى شيئا فشيئا .
فكرت حينها.. ما الذي يجري بحق الله؟!، قررت أن أنسحب من الموقف برمته، فتجاهلت ذلك الشاب وتجاوزته لأمر بمحاذاته، اصطدم كتفي بكتفه فأجفلت، ازدادت حدة الضحكات والقهقهات، شعرت بالخزي وأحسست أن دمعي يكاد ينهمر .. حاولت الإسراع لكنه أمسك بذراعي وجذبني لأواجهه من جديد.. تلاقت عينانا لبرهة قبل أن أصرخ فيه :
- من أنت يا هذا؟، وكيف تجرؤ على لمسي؟ .
- آدم .. اسمي آدم، ربما لا تذكرينني، لكنني أذكركِ جيدا يا سهام ..
صدمتُ.. فابتلعت صوتي ولم أرد وأنا أسمعه يتابع :
- عودي الآن إلى بيتك، ولنا في المستقبل القريب حديث طويل ..
خمنت لحظتها أن به حتما خطبا من الجنون، حررت ذراعي منه وحثثتُ الخطى للابتعاد عنه، بعد أن اجتزت مسافة كافية دفعني الفضول لأن ألتفت للخلف، وأرى إن كان لا يزال واقفا هناك، فوجدته وقد أمسك بخناق أحد أولئك الفتية، لم أنتظر لأعرف ما سيحدث وطرت كالسهم ناحية المنزل .
حاولت ما استطعت أن أبدو طبيعية بين أسرتي، فوالدي لا تنقصه مشاكلي أنا الأخرى، بعد العَشاء رافقت أمي إلى المطبخ، كنت أجلِي الصحون وقت سألتها :
- هل تعرفين شابا من الحي يدعى آدم يا أمي؟ .
كست ملامحها علامات الارتباك للحظات، ثم أجابت عن سؤالي بسؤال :
- أين رأيته؟ .
- اليوم أمام المقهى ....
لم أجرؤ أن أقص عليها ما حدث بالضبط فقلت :
- سمعت أحدهم يناديه بآدم، بدا وجها جديدا ومختلفا عن سكان المنطقة، ومع ذلك أشعر أنني رأيته من قبل .
تقدمت نحوي وهي تقول بلهجة تحذيرية :
- احترسي منه يا ابنتي، نحن أناس بسطاء ولا قوة لنا بمن هم على شاكلته .
- ماذا تعنين؟ .
- آدم هو الابن البكر لعزيز صاحب دكان البقالة القديم .
ساعتها تذكرت الفتى الذي كان يزعجنا صغارا وقت كنا نذهب لنبتاع شيئا من الدكان .
- آه .. تذكرته، لم أره منذ زمن طويل فقد اختفى فجأة.. أين كان؟ .
- ترك الدراسة صغيرا .. ثم سافر للعمل بمدينة أخرى، انقطعت أخباره لسنوات ثم ...
- ثم ماذا؟ .
- سمعنا أنه دخل السجن، شيء له علاقة بأعمال غير مشروعة .. عاد منذ أيام قليلة، يقول والدك أن له هيئة المجرمين .
سرت رجفة شديدة بأوصالي وأنا أتساءل كيف تذكرني دام أنه حديث العهد بالوصول للمدينة، تحركت أمي لتكمل أعمالها ولم تنس أن تكرر تحذيراتها بأن أتجنب أماكن تواجده قدر المستطاع .
وهل كان الأمر حقا بيدي حتى أفعل؟ .
* * *
- 2 -
داخل قاعة الانتظار الخاصة بالنساء في عيادة الدكتور سامح جلست تقلب صفحات مجلة فنية دون هدف، كان القلق العارم يعتريها، هي لم تستطع أن تكمل بعد أول جلسة، كانت تخشى أن تبوح بما اعتبرته أكثر أسرارها قدسية، وعلى الرغم من أنه لا أحد على الإطلاق كان يعلم بزيارتها لطبيب نفسي، إلا أن الشك بقي يعتمل داخلها، ولكنها اليوم قررت أن تستجمع شجاعتها، أن تفعل شيئا ما تنقذ به نفسها من الضياع .
- سهام أحمد .
علا صوت السكرتيرة معلنة أنه دورها .. وضعت المجلة من يدها وأمسكت بحقيبة يدها وتقدمت نحو مكتب الطبيب، ولجت إليه .. ألقت السلام فرد عليها، ثم جلست .. أطلق الأخير ابتسامة مطمئنة وقال بهدوء :
- تبدين مختلفةً هذه المرة .
بادلته بابتسامة باهتة :
- لنقل أن الوقت قد حان .
فهم ما ترمي إليه فسأل :
- كيف يجري العِلاج الزوجي؟، هل من تقدم؟ .
لوت فمها وقالت بتهكم :
- هل تسخر مني يا دكتور؟، كلانا نعلم أنه ما من داع إليه .. المشكلة هنا .
قالت ذلك وأشارت لقلبها، صمتت للحظات محاولة أن تتماسك، اغرورقت عيناها بالدموع ثم راحت تسيل حارة على خديها، قدم الطبيب إليها منديلاً ورقيا وحاول تهدئتها :
- هل تودين الحديث؟ .
أومأت برأسها إيجابا، فوجهها نحو الأريكة الخاصة بالعلاج، اتكأت بأريحية.. ثم جلس هو على كرسي أمامها وسأل :
- ماذا حدث بعد ذلك اليوم؟ .
* *
بعدها أصبحتُ ألمحه بالجوار بين الفينة والأخرى، أتجاهله فيحدجني بنظرات عتب لم أفهم مغزاها !، كان من الطبيعي والمفروض في مواقف كتلك أن أخشاه وأتوجس منه خيفة، أن أعتبره طبقا لسوابقه خطرا يهدد سلامتي، لكني وعلى العكس تماما، صرت أجيل النظر من حولي كلما عبرت في الشارع لأرى إن كان موجودا كما هي العادة، لا أدري إن كانت جرأة مني أم حماقة.. لكن فضولاً لا يقاوم كان يدفعني لمعرفة ذلك الرجل الذي تذكرني باسمي رغم أن ما كان بيننا أيام كنا أطفالاً لم يتعد بضع تصديات مني لإزعاجاته المتكررة .
بعد حوالي الأسبوعين من ذاك الموقف، وجدته مجددا أمامي فور خروجي من المدرسة، تعجبت من نفسي وأنا أستشعر سعادة داخلية لرؤيته، كان قد استحوذ على تفكيري خلال تلك المدة، لكنني جاهدت أمامه كي لا أبدي أي اهتمام به، تنهدت بعصبية وأنا أشيح النظر عن وجهه كي لا ألتقي بعينيه اللتين كانتا تنضحان عتبا :
- أنت ثانية !، واضح أن لا عمل لديك سوى مراقبتي، أتظنني غافلة عنك؟، بالله عليك أخبرني ما الذي تريده مني يا سيد؟ .
ابتسم قائلا :
- آدم.. اسمي آدم .
- طيب.. يا سيد آدم لماذا تزعجني؟ .
- يوجد مقهى قريب من هنا .. هل بإمكاني دعوتك لاحتساء فنجان من القهوة؟، أود الحديث معك قليلا .
- وهل أبدو لك ممن تقبل دعوة الرجال إلى المقاهي؟ .
- لست مثل باقي الرجال، اطمئني فلن يكون أحد في العالم أحرص عليك مني .
نظرت إلى الساعة بتأفف ثم قلت :
- إنها الرابعة عصرا، لم يبق الكثير على وقت الغروب، أنت تعلم أن الفتيات المحترمات لا يمشين لوحدهن في الليل .
ضحك ضحكة صاخبة وقد فهم رميي، لا أعلم ما الذي اعتراني وقتها لكن شيئا عنيفا هزني من الداخل جعل قلبي يكاد يهوي من مكانه.. لملمت شتات نفسي وقلت بحزم :
- نصف ساعة لا أكثر، وأتمنى أن يكون ما ستقوله مهما يا سيد .. آدم .
بعد دقائق كان يجلس أمامي، طلب فنجانَي قهوة ثم قال مهمهما :
- خمس عشرة سنة.. وقت طويل أليس كذلك؟ .
- عفوا.. لكن لا أعرف عم تتحدث ؟! .
تجاهل سؤالي قائلا :
- أتذكرين وقت كنا صغارا، كان الماء وقتها شحيحا خاصة في فصل الصيف، فتضطر عوائلنا لإرسالنا لملء بعض الدلاء من حنفية الحي، كنت ألمحك بعودك النحيل، شعرك المشعث، تقفين تحت لهيب الشمس الحارقة بانتظار دورك .. فلا أطيق عذابك ذاك، أسعى لأخذ الدلاء من يدك لأملأها عنكِ فترفضين بتعنت .. تظنيني سأسرقها كما توهمت مرارا أني سأسرق مالك ولن أعطيك حاجتك من دكان أبي، كنت لا تتوقفين عن الترديد بعصبية لم تفارقكِ قط.. "أنت مزعج.. دعني وشأني "..
تقدم النادل ووضع القهوة وكوب ماء ومضى، تجرع من الماء نصفه ثم أكمل :
- لم أكن غريب أطوار كما أشاع عني صبية الحي، كنت نادر الحديث وقتها .. لا أستطيع التعبير عما أريده أو تبرير ما أفعله، كنت أظن أنه يجب أن يتفهمني الجميع دون حاجة للكلام ..
كالمخدرة أمامه لم أنبس ببنت شفة، رحت أتذكر تلك المواقف الطفولية التي ردمت تحت أنقاض ذكريات أخرى ..
سمعته يكمل :
- أتعلمين .. يقال أن مشاعر الأطفال هي أنبل المشاعر وأصدقها، كان الاهتمام هو ما تظنينه إزعاجا، رغم رحيلي وبعدي لم أعلم أن تلك المشاعر لن تفارقني و ......
داهمني شعور غريب فجأة فقاطعته قائلة بعد أن أخذت حقيبتي وقمت للمغادرة :
- يجب أن أذهب .. تأخر الوقت .
رد بلطف بالغ :
- هل تريدين مني أن أوصلك لمدخل الحي على الأقل؟ .
- المسافة ليست طويلة.. سأمشي لوحدي، شكرا لك .
- للحديث بقية يا سهام .
قالها بثقة تامة .. شيء ما في عينيه منعني من الرفض، ألقيتُ التحية عليه وغادرت، كانت الأفكار تتلاطم داخل عقلي، لم أشعر بأن آدم رجل سيء كما يشاع عنه، كنت قد لمحت داخل عينيه آثار وداعةٍ بدا وكأنه يجاهد حتى يخفيها، كان كبحر هائل من الخبايا والأسرار أردت أن أغوص فيه وأسبر أغواره .. خيوط مشاعر قوية كانت تشدني نحوه، وإلحاح داخلي كان يدفعني إلى ما سيغير حياتي إلى الأبد .
* * *
- 3 -
مستغرقا في تفكير طويل لم ينتبه جاد إلى صوت سهام وهي تدعوه للعشاء .
- جـاد.. لماذا لا ترد، أخبرتك أن العشاء جاهز .
استفاق على وقع صوتها العالي، فقام متجها نحو الطاولة التي توسطت غرفة المعيشة، سكبت سهام بعضا من الطعام في صحنه وهي تراقب تعابير وجهه، كان شاردا، واجما، فلم يلحظ حتى أن صحنه امتلأ .
- هل أنت بخير؟ .
- ها؟ .
قالت بارتياب :
- أنت لا تأكل .
مد يده وباشر بالأكل، بدا وكأنه يريد الحديث لكن هناك شيء ما يمنعه، لاحظت سهام ذلك من نظرته إليها بين الحين والآخر، بالعادة هو قليل الكلام، فالعلاقة بينهما كانت فاترة وهي تعرف أنها السبب، قررت أن تستغل الفرصة لتعرف فيما يفكر فقررت أن تسأل :
- هل تريد قول شيء ما؟ .
رفع رأسه ناحيتها ورمقها بنظرات حائرة .. رد عليها بعد أن أخفض بصره وراح يقلب الأكل في صحنه :
- أسئلة كثيرة تجول في خاطري، وددت لو وجدت لها جوابا .
ثم راح يستعيد كلام الاستشاري الزوجي حين نصحه بالحوار مع زوجته وسؤالها عما يدور في رأسه من شكوك، قال إنه ربما استشف السبب الحقيقي لعدم تقبلها له ..
أدركت مغزى حديثه، وضعت الملعقة من يدها، ارتشفت جرعات من كأس العصير ثم قالت بثبات :
- اسأل .
- أريدك أن تكوني صريحة معي .
أومأت برأسها موافقة.. فسأل :
- هل أُرغمت على الزواج مني؟ .
كان قد سألها نفس السؤال من قبل عدة مرات وقابلته بالصمت .. هكذا فكرت وهي تجيبه :
- ليس تماما، سكتت قليلاً ثم استرسلت : " وافقت بإرادتي ولكن ليس عن قناعة تامة " .
- ألأن الزواج كان تقليديا؟ .
- ما من فتاة لا تحلم بقصة حب أسطورية تكلّل بالزواج .
- تلك أوهام صدّرتها الأفلام والقصص والروايات، الحب بذرة تروى بالعِشرة والتفاهم، أبي وجدي وكل من سلفه تزوجوا بطريقةٍ عادية وماتوا شيوخ في أحضان زوجاتهم !.
هزت كتفيها على غير اقتناع، فاستكمل استجوابه :
- قصص الحب هذه.. هل عشتِ إحداها؟ .
مرة أخرى لم يكن السؤال صدمة لها، أي زوج في وضع جاد ستساوره الشكوك، كانت قد أعدت جوابا يمزج بين الكذب والحقيقة فقالت بابتسامة ساخرة :
- كان ذلك منذ زمن طويل، قصة طفولية خرقاء، أتعلم.. نسيت الأمر لولا أن سألتني الآن .
رفع حاجبيه وحدق إليها بتشكك، راوده شعور أنها ليست صريحة كفاية، أراد أن يحقق أكثر لكنها استوت واقفة وهي تلملم الصحون النصف ممتلئة حتى تقطع سيل أسئلته :
- يجب أن أغسلها سريعا، أوراق امتحانات كثيرة بحاجة للتصحيح هذه الليلة، أظن أن نفس العمل ينتظرك .
- بلى .
راقبها وهي تفر من أمامه مسرعة .. كانت لا تريد أن تجرحه، فإذا ما استمر بأسئلته، قد يزل لسانها دون أن تشعر .
أمسكت بإحدى الأوراق لتصححها، ألقت نظرة خاطفة على اسم صاحبها فتراقصت أمامها حروف اسمٍ من لم يفارق خيالها يوماً، أي مصادفات تلك التي تضع شبحه أمامها في كل مرة، تحسست السوار المحاط برسغها وكانت قد أصلحته يومها، ثم تنهدت بحرقة وهي تهمس :
- آدم .
* * *
- تفضلي ..
مد يده نحوي مقدما لي علبةً ملفوفةً بورقِ الهدايا .. سألته :
- لأي مناسبة؟ .
- التقدم لخطبتك .
أطلقتُ ضحكة جذلى قائلة :
- الهدايا تكون بعد الخطبة يا آدم .
هز كتفيه بغرور وهو يجيب :
- أنا مختلف يا عزيزتي، افتحيها الآن .
أزلت الورق برفق حرصا على سلامته .. ثم فتحت العلبة، أخذت الهدية وقلبتها بين يدي، سوار ذهبي تدلت منه أحرف اسمينا الأول بالإنجليزية، شعرت بسعادة عارمة تعتريني وهتفت بفرح :
- إنها رائعة حقاً .. شكرا لك، لكن كيف واتتك الفكرة ؟ .
أجاب ممتعضا من السؤال :
- لست جاهلاً لتلك الدرجة يا سهام، لم أكمل تعليمي ولكنني لست غبيا .
مددت يدي وربتت على يده معتذرة :
- لم أقصد .. صدقني، كل ما في الأمر أنني انبهرت به .. تفضل ألبسني إياه بنفسك .
ارتسم شبح ابتسامة على ثغره :
- لا عليكِ .. علّها تكون فأل خير قبل الموعد المنتظر .
ثم أردف متسائلاً :
- كلامه لن يغيّر شيئا.. أليس كذلك؟! .
ابتسمتُ له بقلق، فوضع السوار حول معصمي وهو يتابع :
- اطمئني.. سيكون كل شيء على ما يرام .
كانت آخر ذكرى جميلة تجمعني به، من جملةِ ذكرياتٍ أخرى لا تنسى عشتها معه بعد أن اقتنعتُ ذات يومٍ أنه لا رجل غيره يحق له أن يستوطن قلبي .
كان الجو يومها غائما، وينذر بعاصفة وشيكة، كنتُ عائدة إلى البيت بعد الظهر فوجدت سيارةً مألوفةً تقفُ أمامي، أُنزل زجاج مقعدها الأمامي ليطل من خلفه قائلاً بجدية :
- اركبي .
لم يكن هناك مجال للرفض أمام صرامته .. جلست على الكرسي الذي يحاذي كرسيه، أدار محرك السيارة وسار بها عكس الطريق الذي يؤدي للحي ..
تفاجأت بما فعل فصحت به :
- هاي.. إلى أين نحن ذاهبان؟، الطريق من هنا .
- أريد أن نتكلم قليلا .
قلتُ بعصبية :
- ألا تمل من الحديث؟، حسب علمي كنت قليل الكلام فما الذي تغير؟ .
- أريدكِ أن تعرفيني أكثر .
أجبته بلهجة مفعمة بالسخرية :
- أها.. صدقني لقد حفظت قصة حياتك، أعلم أنك عشت طفولة صعبة، لم تجد نفسك في الدراسة فقررت السفر، كان طموحك أن تصبح ثريا، اشتغلت بالكثير من الأعمال وكان آخرها التهريب و .....
رسم ابتسامة جانبية على فمه وهمّ أن يقاطعني لولا أن تداركت نفسي :
- أوه .. حقا نسيت، تهريب السلع الغذائية والملابس فقط.. ممّا يعني أنك لا تضر أحدا سوى اقتصاد البلاد وتخالف القوانين، ماذا أيضا؟.. تذكرت، دخلت السجن بعد أن ألقي القبض عليك، مكثت هناك عامين، ثم قررت العودة للمدينة ...
التقطت أنفاسي للحظات ثم استطردت وأنا أرفع ذراعيَّ باستسلام :
- وإلى الآن لا أعرف لماذا عليّ أن أعرف كل هذا، وما دوري فيه بالضبط؟ .
قال وهو يغمز ضاحكا :
- أنتِ المحور الرئيسي بالقصة كلها .
- عفوا !! .
ران إلى الصمت ولم يجبني، فدمدمتُ بصوتٍ مسموع :
- أنت حقا مزعج .
وصلنا إلى وسط المدينة، ركن السيارة أمام مطعمٍ بدا أنه شُيّد حديثا وقال :
- انزلي .
- ستهطل الأمطار في أي لحظة يا آدم، رجاء فلنعد الآن وسنحدد لحديثك المهم وقتا آخر .
نزل من السيارة ودار حولها ثم فتح الباب مما أدى بالريح التي تسللت للداخل إلى جعل جلدي يقشعر من البرد، قال بلهجة آمرة :
- انزلي الآن يا سهام .
كنت كمن يحرث في بحر، أو يكلم جدارا أصما، أطلقت زفرة عصبية وأنا أنصاع لأمره، كنت لا أعرف السبب الذي كان يمنعني من الصراخ في وجهه بالرفض، خاصةً في الوقتِ الذي كان يستفزني فيه بتلك الإبتسامة الماكرة .
جلسنا بجانب الواجهة الزجاجية الشفافة المطلة على الشارع، كان المطر يهطل رذاذا وسط هزيم الرعد الذي يدوي بين الفينة والأخرى، شعرت بموجة من الحرارة تجتاحني وتُشعرني بالاسترخاء، فجو المطعم كان دافئا، كما كان قمةً في الجمال والتنظيم، قطع سيل تأملاتي بسؤاله :
- هل أعجبكِ؟ .
هززت رأسي بالإيجاب حين قدِم نادل أبدى لنا احتراما مبالغا فيه ثم سأل عن طلبنا فأجابه :
- أحضر فنجاني قهوة وقائمتي طعام .
عقدت ذراعيّ ثم رحتُ أنظر إلى الشارع وأفكر، حسنا.. لم أكن مراهقة لا تعرف ما الذي تواجهه، عينا آدم وتصرفاته كانت تنطق بما يعتمل بداخله، بقي أن أقرر ما إذا كنت سأبادله إياه أم لا، قلبي كان يعرف الجواب لكن عقلي كان يدور في دوامة من الشك والخوف، كنت قد التقيته عدة مرات قبل ذلك، يتحدث فيها عن نفسه، وعن كل ما مر به وواجهه، كان يجلسُ أمامي رجلٌ خبِر الحياة، وإن اختار فيها طريقا معبدا بالأشواك .
- سافرتُ لأجلك، أردت أن أصنع لنا مستقبلاً لا يحمل فيه أطفالنا الدلاء لملء الماء وسط حرارة الصيف الخانقة، أردت أن أجعل عالمكِ أفضل، أن لا تحتاجي لشيء أبدا وأنا بجانبك، لقد أحببتك فعلاً يا سهام، ما كنت أتصور مستقبلاً لي دون أن تكوني معي، برفقتي ...
حانت مني التفاتة نحوه وقابلت عيناي عيناه، أجفلت للحظاتٍ من جرأةِ ما قاله، ثم استجمعت شتات نفسي، وفي الوقت الذي فتحت فاهي فيه أدركت أنني سأرتكب حماقة ربما أندم عليها .. لكنني قررت :
- مما يعني أنك قد اخترتني زوجة قبل أكثر من خمس عشرة سنة؟ .
رد بثقة :
- أجل .
- ثقتك مبالغ بها يا آدم .
سأل بثقة أكبر :
- وما الذي يمنع؟ .
حضر النادل ووضع كوبي القهوة وقائمتي الطعام ثم انسحب .. ارتشفت رشفة لتهدئة توتري ثم أجبته :
- ألم يخطر ببالك أني قد أكون مرتبطة مثلاً؟ .
هز كتفيه وقال :
- لن يأخذكِ مني أحد ما دمتُ على قيد الحياة ..
- هذا هوس !! .
- سمّه ما شئتِ .
- أنتَ تخيفني .
- أنا أحبكِ .
كادت بضع عبراتٍ أن تفر من عيني وأنا أستشعر الصدق في كل كلماته، كيف لي الهرب من حب رجل عشقني طفلاً وكان يرى فيَّ العالم بأسره؟، لكنني أردتُه أن يثوب إلى الواقع ولا يغرق بأحلامٍ ربما لن تتحقق فقلت له بجدية :
- آدم.. لا تتسرع، الأمر ليس بتلك السهولة .
- لا شيء قادر على اعتراض طريقي .
رددت بشيء من العصبية :
- أريد أن أفكر أولاً، كيف لي أقرر أن أربط حياتي برجلٍ لم أعرفه سوى منذ فترة قصيرة ! ..
أمسكني من يدي فجأةً ثم وقف وسحبني معه إلى باب المطعم، كان المطر قد اشتد هطوله، لكنّه لم يثنه عن فتحه، مشى بي عدة خطوات ثم توقف وهو يقول :
- انظري .
رفعت رأسي إلى حيث أشار، كانت الرؤية ضبابية بوجود المطر، لكنني عندما دققت النظر وجدت يافطة المطعم وقد كتب عليها "مطعم سِهام اللّيل" ..
- اسم غريب.. ألا تظن ذلك؟ .
قلت له ذلك بصوت عالٍ، رفع حاجبيه.. توسعت حدقتا عينيه .. ثم سحب يده من يدي بسرعة ورمقني بنظرات حادة وهو يقول قبل أن يسير باتجاه السيارة :
- أنتِ فتاةٌ بلهاء وغبية !!! .
- ماذا؟، آدم.. انتظر ..
تسمرت مكاني وأنا أحدق باليافطة محاولة أن أستوعب مقصده، بعد ثوانٍ من التفكير العميق أدركتُ أن المطعم يحمل اسمي، هذا يعني أنه ....
غمرتني فرحة لا توصف، انطلقتُ أركض ناحية السيارة وأصرخ باسمه، فوجدته ينتظرني واقفا أمامها وقد بللّه المطر من رأسهِ حتى أخمص قدميه، ولم يكن حالي أنا الأخرى بأفضل منه ..
- أنا بلهاءُ وأنت مجنون .
ابتسم :
- نليق ببعضنا أليس كذلك؟ .
أومأت برأسي موافقةً وقد تملكني مزيج من السعادةِ والخجل، لقد تبين لي أنني كنتُ أذوب عشقاً في ذلك الرجل، متى وكيف؟ لا أدري!، اتسعت ابتسامته أكثر، اقترب مني، ثم احتواني بعناقٍ لازلتُ أتحسّس دفئه إلى يومنا هذا .
* * *
- 4 -
كانت الشمس تميل إلى المغيب حين دخل جاد إلى المنزل، وجدها جالسة بأريحية على الأريكة داخل غرفة المعيشة .. تقدم نحوها وألقى التحية فردت باسمة واعتدلت :
- أهلاً.. هل أحضر لك العشاء؟ .
جلس إلى جوارها وألقى بمفاتيحه على الطاولة، ثم أسند ظهره للخلف، صمت للحظة بدا وكأنه يفكر فيها ثم أجاب بابتسامة متفائلة :
- لا داعي لذلك، فأنا أدعوكِ للعشاء بالخارج .
رفعت حاجبيها تعجبا وسألت :
- هل طرأ شيء ما ؟ .
- شيء مثل ماذا؟، كل ما في الأمر أنني أريد تغيير الروتين الذي يشل حياتنا، بعض الترويح عن النفس لا يضر .
نظرت إليه بحزن وهي تتمزق داخليا، كان يمكن أن تُغرم به لو كان قلبها ملكا لها، كانت تتمنى لو أن بإمكانها أن تلقي بكل الماضي وراءها، وتمنحه حياة زوجيّة مستقرة، في بداية زواجها رفضته كليا، لم تشأ أن تكون رفيقة فراش لرجل لا تعرفه، رجل اختاره الأهل، وأقرته التقاليد والأعراف، بعدها وشيئا فشيئا بدأت تُعجب به وتحترمه، كانت ستقر أن والدها حقا أجاد الاختيار لولاَ أنه كان على حساب سعادتها هي، فكرت كثيرا أن تتأقلم مع الأمر، وكأيّ امرأة شرقية في وضعها.. تُسلّم الجسد ويبقى الرفض محلّه القلب، لكنها رأت أن جاد يستأهلُ منها أكثر من ذلك، والآن هاهي تعيد تقليب الأمر داخل عقلها وتتساءل بجدية عما ستفعله .
قُطع حبل شرودها على صوته :
- ألن تجهزي نفسك؟ .
ردت بعد أن اعتدلت واقفة :
- أمهلني بعض الوقت .
بعد ساعةٍ مشت نحوه بخطوات مرتبكة، كان غارقا بمشاهدة أحد البرامج السياسية فلم ينتبه لحضورها، عضت شفتيها من التوتر ثم تكلمت بصوت خفيض :
- أنا جاهزة .
قال دون أن ينظر إليها :
- قليلاً فقط، سينتهي البرنامج الآن .
بعد دقائق أطفأ التلفاز وهو يغمغم بعبارات غاضبة حول الفساد، وسوء تسيير المسؤولين للبلاد، وضع جهاز التحكم من يده واستقام واقفاً وهو يهتف :
- أين أنتِ يا سهام؟، لقد تأخر الوقت .
- أنا هنا .
التفت وراءه.. وما إن لمحها حتى فغر فاهه ذهولاً، أمعن النظر في فستان السهرةِ الأسود الطويل الذي جسد قوامها الرشيق، ابتسامتها الخجولة، زينةُ وجهها وجمال عينيها الواسعتين، وشعرها الأسود الفاحم الذي انسدل شلالاً على كتفيها.. أبهره جمالها، فابتلع ريقه وهو يتقدم نحوها، أمسك بيدها فارتاحت داخل يده، طبع قبلة طويلة عليها ثم قال :
- تبدين رائعة .. لم أتوقع أبدا أن أراكِ بمثل هذا الجمال الفاتن .
ردت باستنكار :
- وهل كنت بشعةً من قبل؟ .
- كلا يا عزيزتي، أنتٌ جميلةٌ في جميع الأوقات .
شكرته ودقات قلبها تتسارع من التوتر، كانت قد اتخذت قرارها لدى انفرادها بنفسها، لن يستمر الوضع هكذا إلى الأبد، الحياة تمضي وهي مجبرةٌ على مسايرتها، رسمت ابتسامة خجولةً على تقاطيعها وهي تقول :
- ألن نمضي؟، لقد تأخر الوقت .
أسرع إلى مشجب المعاطف المعلّق بجانب الباب الخارجي، أمسك بمعطفها ثم ألبسها إياه قائلاً وعلامات الاهتمام تنطق من وجهه :
- ارتدِ هذا أولاً، فالجو في الخارج بارد للغاية .
وقتها أيقنت من أنها تعرف تماماً كيف ستنتهي تلك الليلة .
* *
رغم محاولاتي المستميتة أن أمحو ذكرى آدم من رأسي ولو لتلك الليلة على الأقل، إلا أن آخر ذكرياتي معه داهمتني على حين غرة .. جاءت معلّقة برائحة طبق اللّحم المشوي الذي كان يفضله، كنا جالسين يومها نتغدى بمطعمه وقت قال والفرحة تطل من عينيه :
- تحدثتُ مع والداي، والليلة سنأتي لخطبتك رسميا .
- مرت ثلاثة أشهر فقط يا آدم، دعنا ننتظر قليلاً .
تقلصت ابتسامته، وضع الشوكة والسكين من يده بعنف، ثم أغمض عينيه، حركة عرفت أنها تعني بأنه يحاول السيطرة على غضبه، ثم فتحها ونطق بانفعال :
- هل تحبينني حقا يا سهام؟، بصراحة.. بدأت أشك في ذلك ! .
- كيف تشكك بي بهذه الطريقة !، أنت تعلم جيدا أنني لا أرى لي سواك رجلاً ! .
- إذن ...؟! .
- أبي لن يوافق .. إنه لا يطيقك، ولا يذكر عنك إلا كل سوء .
- لا تقلقي ودعي الأمر لي، سأقنعه .
- إذا علم بعلاقتنا سيزداد الأمر تعقيدا، رجاء لا تخبره .
ربت على يدي مطمئنا بأنه لن يتركني مهما حدث .
لم تمضِ على مغادرة آدم ووالداه من بيتنا إلا نصف ساعة قُلب فيها المنزل رأساً على عقب .. فور رحيلهم ولج أبي إلى الغرفة التي كنت فيها، رأى انهمار دموعي فصرخ فيَّ بحدة :
- رأيتك منذ أيام معه، بسيارته.. لكنني كذبت عيناي، ابنتي لا تفعل ذلك، تربيتي لا ترافق رجلاً غريبا بسيارته، وأي رجل؟، خريج سجون !! ..
لم أرد عليه تحت تأثير الصدمة، زاد نحيبي فهمّ أن يهوي عليّ بعصا كان يحملها بيده لولا أن أمي استوقفته متوسلة :
- استهدِ بالله يا رجل، أنت لم تفعلها قط في حياتك ! .
صاح حانقا :
- لو فعلتها لكانت احترمت شيبة هذا العجوز الذي أفنى عمره من أجلها .
ثم رحل عن الغرفة وأغلقها عليّ من الخارج، تاركاً إياي سجينة وإحساس الظلم والقهر يخنقني، ولعدة أيام خرساء لم أنطق فيها بحرف ولم أذق فيها طعم الزاد كان تفكيري المتواصل بآدم وأملي أن ألتقيه مجددا هو ما يمنعني عن الغرق في لجة اليأس .
عاد بعدها ووقف على عتبة الباب، لمحت من خلفه إخوتي وأمي وقد احتلت ملامح الخوف تقاسيمهم، قال بنظرة ميتة ووجه خال من المشاعر :
- لقد عاد الوغد يبتغي جوابا مني .
تجرأت وسألته :
- وبماذا أجبته؟ .
كان رده كالصفعة :
- لا .
ثم تقدم نحوي بعينين تقدحان شررا :
- اسمعي يا ابنة سُعاد، ستنسين أمر الزواج منه وإلا طالكِ غضبي .
قلت من بين دموعي :
- لماذا يا أبي.. لماذا؟ .
- لم أفنِ حياتي في تربيتك وتعليمك حتى أزوجك لذلك الجاهل.. ابن الشوارع وخريج السجون .
- لقد تغير .. أصبح رجلاً محترما .
- الطبع يغلب التطبع .
- رجاء يا أبي .. أعطه فرصة .
- لا تحاولي .
ثم التفت إلى أمي وقال جملته التي قصمت ظهري :
- جهزي للرحيل من هذا البيت يا سُعاد .. لقد بِعته بأثاثه لجارنا إبراهيم ليوسع داره، ووجدت آخر في منطقة بعيدة وبثمنٍ مناسب .
رحلنا بعد أن جمعنا حاجياتنا تحت جنح الظلام، لم أجد أي وسيلة للاتصال بآدم، أخذ مني والدي هاتفي المحمول، ومنعني من الذهاب للعمل، أغلق كل الأبواب بوجهي وأقسم أنه لن يجعله يطال ظفري .
بعد شهور تقدم جاد لخطبتي، كان يمت لأبي بقرابة بعيدة، رآني في حفل زواج شقيقته الذي أُرغمت قسرا على حضوره مع عائلتي، كنت جالسةً ليلاً على السطح شاردة أستحضر ذكريات الأمس القريب، أراقب النجوم اللاّمعة في كبد السماء، وأرخي السمع لأصوات المارة والسيارات حين لحقت بي أمي وعرضت علي الأمر .
- أمي .. اسمعيني جيدا، رفضتم آدم فرضخت، أما أن تفرضوا عليّ زوجا لا أريده فذاك المحال بعينه .
- والدك يقول أنه كريم الأخلاق، إنه يرى فيه زوجاً مناسبا .
- ليس لي !، رجاء يا أمي أغلقي الموضوع، إما آدم أو لا أحد .
- سعاد.. اتركينا لوحدنا .
صدح بذلك صوت والدي من خلفنا، فأطاعته أمي وانسحبت بهدوء، لم أكن ألمحه إلا نادرا، فانغلاقي على نفسي والحزن الذي غلفت به عالمي جعلاني أنبذ كل من حولي، رأيته تحت ضوء السطح الخافت وقد وهن عوده وغزت التجاعيد محياه، ازداد بياض شعره واكتسى وجهه بمسحة من الحزن جعلت قلبي ينقبض ألما، كنت أحبه كثيرا وأحترمه، كان بمثابة الدرع الآمن الذي أحتمي به من شرور العالم، ليلتها وجدت أن الدرع صدأ، والرجل القوي أضحى شيخا هرما، انتابني شعور عارم بالذنب، وكل فكرة خطرت لي للتمرد عليه ذابت وتلاشت مع كل دمعةٍ ذرفتها لمرآه على ذلك الحال، تقدم نحوي وربت على كتفي .. قبّل جبهتي .. أحاطني بحنانه وهو يقول كلماته التي لم تمح يوما من ذاكرتي، وإن كانت لم تقنعني :
- لا تغرنكِ كلمات العشق ووعوده يا سهام، صدقيني يا عزيزتي إنها ليست أكثر من هشيم سرعان ماستذروه الرياح، قد تعطيك بعض السعادة لكنها مؤقتة، الحب الحقيقي والدائم هو لزوج قوي، موثوق ومخلص، مستعد لأن يقدم حياته فداء لكِ ولأولادك، قد لا تغرمين به كالعشاق، لكنك ستحبينه وتحترمينه وتشعرين معه بالأمان، ثقي بي يا ابنتي، فأنا قد عرِكت الحياة وخبرت أسرارها، وأرى أبعد مما ترين بكثير .
قبلت رأسه ويده، جففت دمعي ثم قلت له بنبرة متوسلة :
- سامحني يا والدي .
رد بابتسامة واهنة :
- خُلق الأبناء ليخطئوا وخُلق الآباء ليصفحوا .
أطلق تنهيدة عميقة واسترسل :
- لن أجبرك على الزواج ممن ترفضين، لكن صدقيني يا ابنتي سأكون سعيدا للغايةِ إذا ما اطمأن قلبي لوجودكِ مع رجل يستحقك وقادر على حمايتك .
لن أنسى في حياتي نظراته الممتنة بعد ذلك بأيام قلائل وهو يراني قد استسلمت لرغبته، وأعلنتُ موافقتي على الزواج من جاد والسفر معه بعيدا إلى مدينة أخرى .
* * *
الفصل الثاني
بعد عدة أشهر
- 1 -
فتحت سهام عينيها وهي مستلقية في فراشها على ضوء النهار الذي كان يتسلل من خلف ستائر النافذة، تمطت متكاسلة ثم قامت، نظرت إلى الجانب الآخر الخالي من السرير، ربتت على الوسادة وشعورا الوحدة والفراغ يملآن قلبها لغيابه، كان جاد قد سافر منذ أيام لزيارة والدته المريضة، لم تستطع الذهاب معه، تحججت بالعمل لكن سببا آخر ما جعلها تفعل ذلك، لا تريد رؤية مدينتها حتى لا تعود الذكريات لمطاردتها بعد أن ألقت بها في غياهب الذاكرة، كانت تسعى جاهدة لدفن الماضي، للنسيان، والغفران ..
لم تزر والديها منذ تزوجت، حاجز ما وقف بينها وبينهم، اغتصاب حقها في الإختيار واستدرار عواطفها لفعل ما لا تطيق جعلاها تبتعد عنهم، هي تحبهم، تسعى لبرهم .. لكنها لا تقوى على مسامحتهم، ما قاسته في تلك الفترة كانت صعبا وموجعا لها بدرجةٍ كبيرة، صحيح أنها تحاول تجاوزه وقد نجحت إلى حد ما، لكنه سيبقى جرحا غائرا لن يبرأ وإن طال عليه الزمن .
اتجهت ناحية الحمام وهي تفكر في كل الأيام التي تلت الليلة التي اختارت فيها أن تكون زوجة بحق، حاولت أن تقدم السعادة لجاد ما استطاعت، لم تكن تؤمن بأن فاقد الشيء لا يعطيه، بل هو القادر على العطاء أكثر.. لأنه يشعر تماما بألم الحرمان منه، كان يدللها، يلبي طلباتها ويتفهم تغييرات مزاجها بين الوقت والآخر، هي لم تؤسس حياة اجتماعية مع من حولها، آثرت العزلة واجتنبت كل زميلاتها اللاتي حاولن مصادقتها، كانت راضية به وحيدا كصديق ملأ عليها أيامها وخفف بحنانه الكثير من أوجاعها، كانت معه تقريبا طيلة الوقت.. ومع هذا لم تستشعر معه طعم السعادة الحقيقية .
أعدت كوب قهوة ثم تناولت هاتفها وكتبت له رسالة نصية تسأل فيها عن حاله، فمن حقه أن تشعره بالاهتمام به كما يفعل، بعد لحظات أتاها الرد .. غزل فصيح و أبيات شعر من العشق والغرام، ابتسمت لنفسها وهي تتساءل .. " ما الذي انتظرتِه من أستاذ مجازٍ في اللغة العربية؟ ".
ارتدت ثيابها وحملت حقيبتها، كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحا حين وقفت على ناصية الطريق بانتظار حافلةِ نقل الموظفين، مر بجانبها مجموعة من الأطفال الصغار المتجهين نحو المدرسة، امرأة عجوز تستند على عصا، و بائع جرائد راح يعرض عليها واحدة، ابتاعت أحدها وهمت بفتحها لولا أن اخترق أذناها صوت أتى من الماضي ....
- سهام ..
رفعت رأسها ببطء والارتباك يتملك كيانها لتبصر سيارة توقفت أمامها من نفس النوع، نفس اللون، ونفس الوجه الذي ترجل منها، حاولت أن تهدأ نفسها، أن تعتبر ما تراه محض أوهام وتخيلات، لكنه تقدم نحوها حتى وقف قبالتها، حدق فيها قائلاً بنفس الابتسامة الساخرة التي عهدتها :
- وأخيرا... ها نحن .
شهقت مشدوهة بعد أن تيقنت من حقيقة وجوده، وقعت الجريدة من يدها، اتسعت عيناها فزعاً وهي تهتف :
- آدم !!! .

* *
أبواب الماضي لا توصد، بل تبقى مواربةً بانتظار من يشرعها من جديد، اليوم تيقنت أن ما فات لن يطوى، وستظل أحداثه تلاحقني ما حييت، كانت رؤيته مجددا بعد أكثر من عام ونصف مزلزلة، كان آدم مثلما تركته في ذلك اليوم، وإن شاب ملامحه بعض الشحوب، تسمرت مكاني غير قادرة على الحراك، شعرت أن قدماي ستخذلانني ولن تقويا على حملي أكثر، تدفقت في ثوانٍ كل ذكرياتِ الأوقات التي قضيناها معا، تذكرت كل لحظة وتفصيلة، كل همسة وكل لمسة، كل حرف وكلمة، ولم يقطع لحظات ذهولي وشرودي ذاك إلا صوته الذي انبعث معاتبا :
- نعم آدم يا سهام ، آدم الذي تنازلتِ عنه ومضيتِ في حياتكِ وكأن شيئا لم يكن .
استجمعت ما بقي لي من عقلٍ ورددت مصطنعة الحزم :
- ماذا تريد الآن؟ .
- هل سنتحدث هنا في الشارع؟، لنجد مكانا أكثر خصوصية.....
قاطعته راجية من الله أن يلهمني القوة كي لا أنهار :
- لديّ عمل الآن، لا أستطيع التغيب عنه، نلتقي هناك، أرأيته؟، ذلك المقهى الذي يقع على الجانب الآخر من الطريق، الساعة الثانية زوالاً .
رد بلؤم :
- إن لم تحضري ستجدينني أمام باب شقتك، أظنها رقم خمسة في تلك العمارة هناك .
لم يكن ليدهشني أي شيء آخر لذا قلت له :
- اطمئن، سأكون هناك .
وهل كان لدي أي خيار آخر؟، فأنا أعرفه جيدا، لا شيء قادر على الوقوف في طريق ما يسعى إليه، والدليل أنه كان أمامي في تلك اللحظة .
- اركبي في السيارة، سأوصلك لمقر عملك .
رفضت :
- لا.. شكرا لك سأنتظر الحافلة .
- كفى عنادا، ألا ترين شحوبك واصفرار وجهك؟، لم أكن أعلم أن رؤيتي ستصدمك لهذه الدرجة ! .
- أنا بخير، اذهب أنت، نلتقي مساء .
- سهام !!، اركبي الآن .
لم أجد بدا من الإذعان له، وكأن الأيام تعيد نفسها من جديد، لأوقن من أن آدم لايزال يسيطر على حياتي ويتملك زمامها . أثناء الطريق لم ينطق بحرف سوى أثناء تأهبي للترجل من السيارة حيث قال بلهجة من لن يقبل أي نقاش :
- الساعة الثانية.. أنتظرك هناك .
استحوذ على كامل أفكاري لبقية اليوم، كنت أدعي بأني ألقي الدروس على الطلاب، أتظاهر بأنني طبيعية قدر الإمكان بيد أن ذهني كان غارقا في التفكير، تدور رحى التساؤلات فيه دون توقف، كيف عرف مكاني؟، وما الذي يريده؟، والأهم هو كيف سأواجهه؟، وأين سنصل في النهاية؟ . تلقيت بعد انتهاء دوامي مكالمة من جاد خفت أن يستشف التوتر بصوتي فلم أرد عليه وأرسلت له رسالة بأني سأتصل به فور العودة إلى الشقة .
الساعة الثانية وجدته بالمقهى ينتظرني، وقد حجز طاولة بعيدة في ركن منزو نوعا ما، كنت أخشى أن تفضح عيناي اضطرابي، فأنا قد عقدت العزم على التسلح بالصلابة والقوة أمامه، رحت أردد بيني وبين نفسي بأني امرأة متزوجة، زوجي يحبني، حياتي مستقرة، لن أدعه يؤثر بي مطلقا، عليه أن يؤمن بأن كل شيء قسمة ونصيب .. ولم يكتب لنا أن نكون معا .
جلست أمامه محاولة أن لا تلتقي عيناي بعينيه، قلت مبدية اللاّمبالاة وأنا أعبث بخاتم زواجي :
- كيف عرفت مكاني؟ .
- سنة ونصف وأنا أبحث بلا كلل ولا ملل، هل ظننتِ حقا أنني سأنسى !،كدت أجن حين علمت بزواجك، لم أتوقع أن تفعليها بهذه السرعة !.
- اعتقدت أنك استسلمت، ففي نهاية المطاف لم يكتب لنا أن نكون سويا، كان عليك حقا أن تنسى .
لوى فمه ساخرا :
- وهل نسيتِ أنتِ حتى أفعل أنا ذلك؟! .
أشرتُ للنادل بأن يحضر، طلبت كأس عصير فيما طلب هو فنجان قهوة، أجبته بثبات :
- أجل.. أنا الآن امرأة متزوجة، لقد مضيتُ قدما في حياتي، لن أقضيها باكيةً على الأطلال .
جز على أسنانه واشتعلت عيناه من الغضب، ثم مد يده ناحية معصمي وقبض عليه بقوة فوق السوار الذي نسيتُ أن أخلعه وقال :
- وهذا؟، ماذا يفعل هنا؟.
كدت أن أصيح من الألم، أطلقت أنة خافتة :
- أبعد يدك يا آدم !، أنت تؤلمني .
سحب يده بسرعةٍ ثم أشعل سيجارة راح يدخنها بقهر :
- هل تحبينه؟ .
أجبته بحدة :
- ليس من شأنك، أخبرني ما الذي تريده الآن؟، علي العودة للمنزل .
- أريدكِ أنتِ.. سبق وأخبرتك أنتِ لي أنا .
- فات الأوان.. أنا لست حرة، ضف إلى ذلك، لو أردت التمرد لفعلتها من قبل، فكيف بي أفعلها الآن ! .
لانت ملامحه وسأل بنبرة مفعمة بالألم :
- هل ستتخلين عني مرة ثانية؟! .
انفطر قلبي أسى لأجله، لم يكن بيدي أن أفعل شيئا، كيف سأخبره بأن السعادة أجهضت من حياتي لحظة افترقنا، كيف سأخبره بأني لم أذق طعم الحب إلا معه؟ . لم أستطع تحمل كلامه أكثر، خفت أن أضعف فقلت :
- لا تحاول معي رجاء ..
- لكنني لا أستطيع إكمال حياتي من دونك ! ..
لم أرد عليه فاستفزه صمتي، سحب نفسا قصيرا من سيجارته، نفث دخانها بقوةٍ وقال مهددا وقد تحول من الاستعطاف والرجاء إلى الغضب والقساوة :
- لن أتوانى فعل أي شيء في سبيل الظفر بك، أنت تعلمين هذا .
زفرت طويلاً ثم اعتدلت واقفة، حملت حقيبتي ثم أجبته محاولة أن تبدو ملامح وجهي هادئة :
- لن تستطيع فعل شيء يا آدم، انتهى كل شيء، لكل منا طريقه الآن .
نكس رأسه نحو الأسفل، بدا وكأنه يفكر، لم يرد فانسحبت بهدوء بعد أن حررت دموعي علها تطفئ الحريق المستعر داخل قلبي .
* * *
- 2 -
تركته وغادرت المقهى، اندفعت نحو منزلها بخطوات مسرعة كي لا تضعف أمامه، كانت قدماها لا تقويان على حملها، تمسكت بقضبان السور الحديدي للمجمع السكني، كابحة الرغبة في الصراخ، في عودة أدراجها نحوه، في الارتماء بين أحضانه وتلبية رجاءه، كانت لا تفصلها سوى بضع أمتار عن العمارة، لم تستطع قطعها، تهاوت على الأرض، أمسكت رأسها بين يديها والدموع تكاد تخنقها، تحاول استيعاب أنه كان أمامها حقا وأنها فرطت فيه مرة ثانية .
شعرت لوهلة أن يدا ما تمسح على شعرها، كانت لا تزال ترجف، رفعت رأسها لترى خياله يبتسم في وجهها، ظنت أنها قد جنت، لكن راحة يده نزلت لتمسح وجنتاها وتجفف دمعها، كانت دافئة، عرفت أنه حقيقي، مدت يدها نحوه فتلقفها، رفعها من على الأرض وعدل شعرها المبعثر.. ثم تقدم نحوها أكثر، لفحت أنفاسه وجهها، أطبق شفتيه على شفتيها، مررت يديها لتتخلل خصلات شعره، طوقته ثم استسلمت له وتجاوبت معه.. تناست أنها متزوجة، رمت بكل ما تعلمته وعلّمته من قيم وفضائل، لم تأبه لأي شيء على الإطلاق سوى أنها معه أخيرا ...
طاوعته وهو يصر عليها لمرافقتها بالسيارة، كانت تشعر بنشوة عارمةٍ تتملكها، لاشيء كان سيحول بينها وبينه من جديد، لا شيء قادر على إيقاف فيضان المشاعر الذي كان يجتاحها تجاهه، استسلمت أمام سطوة العشق ونيران الشوق، فرافقته حتى غرفة نوم شقته، لم تعاند، لم تتمنع، اختارت بكل وعيها وإرادتها ورغبتها أن ترضخ له .. أن تكون له ولو لمرة في هذا العمر .
* *
الحب قدر .. أشبه بالموت، لا فرار منه ولا إرادة لنا فيه.. كانت كلماته الأخيرة تلك ترن في أذني وأنا واقفة بالحمام تحت المرش، أستسلم للَذعات الماء البارد التي كانت تنزل على جلدي كالسياط، كان آخر مشهد بيني وبينه قبل أن نفترق لا ينفك يبرح مخيلتي، كنت أعدّل شعري أمام المرآة استعدادا للرحيل حين أتى من خلفي واحتضنني قائلاً بأسف :
- أنا آسف .
قلت مغيرة مجرى الحديث :
- شقة جميلة .
- أيام البحث عنك كانت طويلة، كان لابد من استئجارها، سهام .. أنا آسف حقا .
سحبت جسدي بهدوء من بين يده، جلست على كرسي لأنتعل حذائي قائلة :
- علامَ تعتذر؟، لست طفلة جررتها بالغصب، فعلت ما فعلت وأنا بكامل وعيي، لا تحمل نفسك الذنب ..
قمت وحملت حقيبتي :
- سأغادر الآن .
- سأوصلك .
- لا ...
قلتها بحدة جعلته يجفل :
- أقصد.. أود أن أتمشى قليلاً .
لم يعارض .. وقبل أن أخطو للخارج ألقى بجملته تلك مما جعلني أتساءل .. الحب قدر لا مفر منه، أيكون أيضا شفيعاً للخطايا؟! .
أفقت على صوت صفق الباب الخارجي، تذكرت جاد.. وأنني لم أتصل به أو أرسل له رسالة حتى، تركت هاتفي على الوضع الصامت ولم أتفقده، صدح صوته مناديا إياي فارتديتُ منشفةَ الحمام على عجل والرعشة تدب بأطرافي، لم أعلم ما سببها.. أهو الخوف والتوتر أم أنه الماء البارد؟، فتحت الباب واندفعت خارجه لأجده منتصبا أمامي، قال والقلق ينضح من ملامح وجهه :
- هل أنت بخير يا عزيزتي، لماذا لا تردين على اتصالاتي؟ .
ابتلعت ريقي وأجبته بتلقائية :
- الهاتف كان على الوضع الصامت، نمت لفترة ولم أنتبه ....
دهشت لقدرتي على الكذب دون تخطيط، اقترب مني وطبع قبلة على وجنتي ثم تراجع وقد قطب حاجبيه :
- أنتِ ترتعشين، ووجهك بارد كالثلج، هل أنت على مايرام حقا؟! .
أجبته بسرعة وأنا أهرب من عينيه وأتحرك ناحية دولاب الملابس :
- لا أعرف، ربما هي بوادر الزكام، سأرتدي ثيابي وأشرب شيئا ساخنا.. وسأعد العشاء أيضا، ماذا تود أن تأكل؟ .
- لا داعي لذلك، مررت على المطعم وأحضرت عشاء جاهزا، فأنا أعلم أنك لا تطبخين في غيابي .
هززت برأسي كإشارة امتنان له، كنت لا أقو على الحديث معه، صورته كزوج مخدوع ومني أنا جعلت قلبي ينزف ألما لأجله، هو لا يستحق ذلك، أي فداحة ارتكبت بحقه!، كان الإحساس بالذنب يعتصر فؤادي، ينهشني من الداخل، يطبق بفكيه علي، كان الموت بمثابة طوق النجاة الوحيد القادر على انتشالي من دوامة الندم المريرة تلك .
* * *
- 3 -
ألفت نفسها وحيدة على الشاطئ، تقف بمواجهة رياح يناير الباردة، لم تشعر بالصقيع الذي جمد يديها العاريتين، وكأنها كانت فاقدة للإحساس، راحت تتأمل لون البحر الرمادي الذي عكس لون السماء الملبدة بالغيوم، وتفكر بكل الأيام التي تلت ذلك اليوم.. منذ شهر، علاقتها مع جاد تراجعت حتى عادت لنقطة الصفر، أقامت سدا عاليا ليفصل بينها وبينه، كانت تتعامل معه بجفاء رغما عنها، ليس من أجل آدم، بل لأنها رفضت أن تخونه مرتين، كيف لها أن تعامله وكأن شيئا لم يكن؟!، فكرت أن تعترف له بما حصل لتلقي عنها العبء الذي يثقل كاهلها وليفعل ساعتها ما شاء، لكن الأمر لم يكن هينا على الإطلاق، هذا غير آدم الذي كان لا يتوقف عن محاصرتها بمكالماته، طلبت منه مهلة حتى تقرر ما ستفعل، وهاهي الآن مستعدة للقاءه هنا، أمام البحر الهائج كهيجان روحها المعذبة ..
جاء راجلاً على غير عادته، راقبته وهو يتقدم نحوها بابتسامة جذلى، عانقها طويلاً وهو يقول :
- اشتقت لكِ كثيرا يا حبيبتي .
قابلت عواطفه الجياشة بشيء من البرود مما جعل الشك يتسرب إليه :
- هل هناك خطب ما؟، مابكِ يا سهام؟، أشعر بأنك غير سعيدة لرؤيتي .
وقعت عيناها على صخرة ضخمة فمضت نحوها وجلست عليها تتأمل بصمت منظر الأمواج المتلاطمة، تبعها وجلس بمحاذاتها قائلاً وهو يفرك يديه من البرد :
- ألم تجدي مكانا غير هذا؟!، إن البرد شديد، لو اقتنعت بكلامي وتقابلنا بمقهى ما أو بشقتي لكان أفضل .
نظرت إليه بزاوية عينيها :
- لماذا؟، حتى نكرر نفس الخطأ السابق؟ .
أحس بالمرارة في صوتها فتدارك نفسه :
- لم أقصد ذلك .
- ألازلت تريدني يا آدم؟! ، أقصد أتريد الارتباط بي مستقبلاً؟ .
رد مصدوما :
- هل تعتقدين أنكِ كنت لي مجرد نزوة عابرة يا سهام !!! .
أشاحت ببصرها عنه والدموع تلتمع في عينيها، قبض على ذراعها وجذبها نحوه ليرتاح رأسها على صدره قائلاً :
- ما حدث قد حدث، ولن يغير الندم شيئا .
- الشعور بالذنب يسحقني، لقد ظلمته، هو لا يستحق ...
- كلنا ظُلمنا بطريقة أو بأخرى .. اطلبي الانفصال عنه، وسنتزوج بعدها، سنسافر إلى مكان لن يعرفنا فيه أحد، سنبدأ حياة جديدة .
- عد من حيث أتيت يا آدم .
- ماذا تعنين؟! .
- دعني أرتب حياتي على مهل، الانفصال ليس بتلك السهولة، يلزمني وقتٌ وذهن صافٍ، لا توقف حياتك لأجلي، ارجع إلى أعمالك وسنبقى على اتصال .
لم تبدُ عليه أي علامة على أنه راضٍ عن حديثها، كانت تعلم أنه صعب المراس ولن يقتنع بسهولة ومع هذا استرسلت :
- أعدك أنني سأتخذ القرار المناسب لكلينا .
- كلامكِ لا يريحني يا سهام .
مسحت دمعها بطرف كمها وقال بصوت خافت كمن تناجي نفسها :
- اطمئن يا آدم.. اطمئن .
* *
- يبدو الأمر وكأن طفلاً منعه والداه من قطعة حلوى أرادها بشدة، فعل المستحيل لينالها، ولما أصبحت بين يديه أبى أن يأكلها .
قالها الدكتور سامح بعد أن قصصتُ عليه كل ما حدث، كنت بطريقي نحو الانفجار، كان يجب أن أبوح بما ينغص عيشي إلى شخص ما، وهو الوحيد القادر على مساعدتي .
ليستطرد :
- ليس لأن الحلوى لم تعد تعجبه، بل السبب أنه يشعر بالذنب لأنه نالها بطريقةٍ غير شريفة .
- كلامك قاسٍ يا دكتور .
- الحقيقة دائما مرّة، ثم سأل من دون مقدمات :
- أحببتِ زوجك أليس كذلك؟! .
شخصتُ ببصري نحو السقف وأجبته بطريقة آلية :
- لكنني أحب آدم أيضا .
- تعلمين أنه من المستحيل الحصول عليهما معا .
- والحل؟! .
- الحل بيدك، قيّمي وضعك، حكمي عقلكِ وقلبكِ، واختاري الأنسب لحياتك .
- جاد لن يسامحني، وآدم لن يتركني ...
قلتها ثم أكملتُ بخفوتٍ وأنا أضع يدي على بطني :
- أنا حامل يا دكتور !.
عدت إلى الشقة لأجد جاد في انتظاري، كان يقف أمام النافذة عاقدا ذراعيه أمامه، وضعيته لم تبشر بخير، التفت نحوي قائلا :
- أين كنتِ؟ .
- كنت أتمشى، أخبرتك على الهاتف، ما الأمر؟ .
- اجلسي يا سهام.. أود الحديث معك .
ارتبت من نبرة صوته الهادئة بطريقة غريبة، جلست على أقرب كرسي، فيما اتخذ هو مكانا على الأريكة وجلس على طرفها متأهبا ثم قال :
- أخبريني ما الذي يحدث؟، منذ عودتي من السفر آخر مرة وأنت لستِ على مايرام، بعيدة عني، أكثر من الوقت الذي تلا زواجنا، هل فعلت ما يضايقك؟ .
أدركت أنه وقتُ الحساب، فلابد له أن يعلم .
- أبدا.. الأمر لا علاقة له بك، بالعكس..... أنا.. أنا...
لاحت على وجهه أمارات من يعرف الجواب مسبقا، ومع هذا أمل أن يكون مخطئا، نظر في عيني وسأل بهدوء :
- هل يوجد في حياتك رجل آخر؟ .
أطلقت شهقة عالية، وضعت كفي على فمي، تجمعت الدموع في عيني، ومع هذا قلتُ بانهيار :
- أرجوك.. سامحني يا جاد .
* *
- 4 -
ملامح الصدمة بدأت تتشكل ببطء على وجه جاد، وليس الغضب ما كان يسيطر عليه في تلك اللحظة بل الإحساس المقيت بالخيبة والخذلان، كان يشعر بنزيف في داخله، بعذاب يمزق فؤاده، وبغصة تقبض على روحه، سأل بصوت متحشرج وهو يشيح بعينيه عنها :
- إلى أي حد وصلتِ العلاقة؟ .
كانت أسئلته مثل طعنات الخناجر ومع ذلك استمر بها، جاء جوابها مغلفا بالصمت ففهم وقال بانكسار :
- أظن أنه من حقي أن أستمع للقصة .
راحت الدموع تسيل حارقة على وجنتيها، كانت لا تقوَ على رفعِ عينيها عن الأرض، شعورها بالخزي والعار أطبقا على أنفاسها مما جعل الكلمات تنفلت بصعوبة، وفي النهاية استطاعت أن تروي له كامل القصة منذ تعرفها إلى آدم وحتى يوم عودته إلى حياتها، اجتاحه غمّ عظيم وهو يحاول التماسك، قال بأسى ومرارة :
- بذلت ما في وسعي لأسعدك يا سهام، أعطيتك الحب والاهتمام والاحترام، كنت متفهما وصبورا إلى أبعد الحدود، كان يجب أن تكوني عرفتني إلى حد يجعلك تقولين لي الحقيقة منذ البداية، لست الرجل الذي يرغم امرأة لا تحبه على العيش معه، لقد ألحقت بي ألما كبيرا، آذيتني وكسرتِ شيئا في داخلي محالٌ أن يرمم .
- جاد... أنا ..
قاطعها لما استوى واقفا قائلاً بيأس :
- المنزل لكلينا، بإمكانكِ البقاء فيه أوالرحيل، أنت حرة ولكِ الخيار، سننفصل بهدوء وسينتهي كل شيء .
أجهشت ببكاء مرير ولم ترد، فبأي حق ستطلب الصفح والغفران؟، بحق العِشرة التي خانتها، أم أهوائها التي تركتها تسيرها كما تشاء .
استطرد بصوت غزاه الألم :
- اطمئني، لن يعرف والدك شيئا، جِدي حجة ما، أخبريه أننا لم نتفق، ليس مهما ..
لم تجد كلمات تعزي قلبه الجريح على يدها، كان أنبل مما تصورت، لم تكن الدموع الذي انسكبت معلنة ندمها لتغير في الأمر شيئا، فالرصاصة التي تنطلق لا تعود، كانت تدرك أنها خسرته إلى الأبد .

* *
بعد أقل من شهر تم الطلاق بكل هدوء، حتى أن أحدا لم يسمع به من عائلتينا، لملمتُ حقائبي وكل متعلقاتي وطلبت سيارة أجرة لتقلني، كنتُ واقفةً بمنتصف الصالة متهيئة للرحيل، أستعيد ذكريات كل لحظة جميلة قضيتها في المكان، حين دلف إليها بوجه شاحب، عينان صغيرتان ضائعتين ظلّلهما السواد، شعر قصير مبعثر، وسيجارة ترسل دخانها من بين أصابعه ! .
قلتُ بحزن شديد :
- التدخين ليس من عادتك .
- إحدى بضعِ عادات اكتسبتها مؤخرا .
قالها بسخرية، رمى بالسيجارة أرضا ودهسها، ثم اتجه نحو الأريكة وغاص جالساً فيها :
- أبلغي تحياتي إلى والدك، سيصدم عندما يعلم أن خياره لم يكن في المستوى ..
كنت أعلم أنه يهزأ بي، ومع ذلك أجبته :
- لستُ عائدة إلى هناك .
- ألن تسافري لأهلك؟! .
أجبته بغير اكتراث :
- كلاّ ..
انتفض واقفا وقد تلاشت سيماء السخرية من وجهه :
- أجننتِ يا امرأة !، هل تنوين الفرار معه؟! .
قلت بمرارة :
- إنه لن يعلم بمكاني حتى .
- إذن إلى أين؟، اسمعي يا سهام .. أنتِ أمانة عندي، سأعيدك من حيث أتيتُ بك، وبعدها افعلي ما تشائين .
- لا تهتم لأمري يا جاد، ابدأ حياتك من جديد، انس أنك عرفتني يوما، أعلم أن ألمك لن يمحى بتلك السهولة، لكن حاول، أشياء كثيرة تستحق أن يُعاش لأجلها .
جررت حقائبي ناحية الباب عندما هتف بلهجة يشوبها أسى :
- سهام، انتظري .
أردفت :
- أتعلم .. عزائي بعد كل ما حصل أني لن أكون وحيدة، ستظل روحك الطيبة معي، ترافقني أينما كنت، مثل قطعة مني، تساندني، تحتوي ضعفي وآنس بها مهما اشتدت بي نوازل الحياة ..
لحق بي نحو الأسفل، راقب السائق وهو يضع الحقائب بصندوق السيارة، استوقفني ماسكاً يدي قبل أن أركبها :
- لا ترحلي .
- أنت لن تغفر، الرجال لا ينسون .
قال مصمما :
- أعدك بأنني سأحاول .
أفلتُّ يدي برفق من يده، ثم ولجت إلى الداخل، أغلقتُ الباب وأنزلتُ زجاج نافذتِه قائلةً بابتسامة رسمتها غصبا :
- لا تكابر، سيظل جرحك طريا إذا ما بقيتُ معك، ثم من يدري؟، ربما نلتقي يوماً، الوداع يا جاد .
- انتظـ ...
انطلقت السيارة واندفعت معها دموعي تهطل بغزارة، رحت أغمغم بحرقة " أيا ليتني سمعتُ كلامك يا جدتي.. أيا ليتني رضيتُ بقدري "، أدرتُ رأسي للخلف لأختلس نظرة أخيرة إليه، كان متسمرا بمكانه، تحيط به هالة من الحزن والانكسار، زادت حدة نشيجي، شيء ملّح كان يشدني للعودة إليه لكنني قاومته، كنت قد قررت أن أتحمل تبعاتِ أوزاري، لن أستغل تسامحه أكثر، كما لن أعود لآدم، لا شيء عندي لأقدمه له، هو لن يُسعد معي، فما أنا اليوم إلا شبح امرأة يتقلب داخل رحمها وليد.. لا من الخطيئةِ خلق ولا إلى الشرعيةِ انتمى .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى