هدية حسين - رجلُ حياتي

في الغرفة العلوية، الغرفة الواسعة ذات الأثاث الفخم، أجلس أمام زجاج نافذتها الممتدة على طول الجدار، تنزل من أعلاها ستائر من الدانتيلا العسلية المخرمة، مُزاحة نحو الجانبين بشريط أبيض لمّاع.. أمامي شارع طويل عريض، تصطف على جانبيه أشجار نخيل تتدلى من قلوبها عذوق الرطب المضيئة بفعل انعكاس آخر خيوط الشمس عليها.
قلبي يخبرني أن شيئاً ما سيحدث... ما الذي سيحدث؟
عيناي تتابعان حركة سعف النخيل وهي تتمايل بفعل الرياح، لا أحد يمر، ولا أحد يخرج من البيوت ليسير في الشارع أو في الشوارع الفرعية المجاورة، كأن الناس هجروا البيوت والشوارع... إلى أين ذهبوا؟
فجأة أراه، رجل حياتي، يهم مسرعاً كأنه على موعد تأخر عليه، لا يرفع رأسه ناحيتي لكي يراني، كما لو أنه لا يعرف أنني أعيش في هذا البيت الفخم.. فكرتُ أن أناديه.. في اللحظة التالية هربت الفكرة من رأسي، خيل لي بأنه يسرع ليلتقيني في زاوية ما من الشارع كما كنّا أيام كان الحب ثالثنا.
الوقت قبيل الغروب بقليل.. أسرعتُ للنزول على السلالم لكي ألحق به، ثوبي الحريري الطويل يتجاوز أصابع القدمين، رفعت ذياله لكي لا أتعثر وأنا أهبط السلالم، قلبي يضرب صدري بشدة، السلالم لا تنتهي كأنها ممتدة بين السماء والأرض، أسمع أصواتاً لا أدري من أين تأتي، أفرزن صوتاً ينادي باسمي من داخل البيت يأمرني بالرجوع، لا أتراجع، ولا ألتفت، أعرف أنني أعيش وحدي في البيت منذ أمد بعيد.
أخيراً تحط قدماي على الأرض، وأهرع نحو الباب الخارجي لأصل الى الشارع بأنفاس لاهثة... لا أحد في الشارع حتى نهايته، لم أرَ سوى ظلال النخيل تمتد وتُخرّم إسفلت الشارع.
ركضت.. لابد أن يكون رجل حياتي قد وصل الى نهاية الشارع واختفى في منعطفٍ ما وعليّ اللحاق به لكي لا أخذله.. منذ زمن طويل لم أره، زمن يمتد على طول السنين الفارطات من عمري.
عند منتصف الشارع خرج رجل طويل ضخم بطريقة ملفتة، أضخم رجل يمكن أن تقع عليه عين، بيده سوط يحركه في الهواء كأنه يضرب شيئاً ما.. دوّم صوته في فضاء الشارع صارخاً بي:
ـ الى أين؟
اختض بدني وارتجفت كلماتي:
ـ أريد أن أمضي الى نهاية الشارع.
اقترب مني وهز سوطه بعنف، وبدا لي أشبه بحيوان خرافي:
ـ ممنوع السير في هذا الشارع.
ـ لكنني رأيت من يسير فيه.
ـ ربما خُيل لكِ.
ـ أنا متأكدة.
ـ لا شيء مؤكداً في هذا العالم.
ـ دعني أرجوك، رجل حياتي ينتظرني في نهاية الشارع.
ازورّت عيناه وأبرقت بألوان الغضب، ثم رفع سبابته الى الجهة الأخرى من الشارع وهدر صوته:
ـ انظري.
نظرت حيث أشار:
ـ أترين ذلك الدرب؟ سيقودك الى بستان، ادخليه واخرجي من الجهة المقابلة وستكونين في نهاية الشارع.
الجدل لا ينفع مع هذا المخلوق، فالليل قد هبط وليس لدي متسع من الوقت.. عبرت مسرعة، دخلت الدرب، درب متعرّج ضيق، أركض على ترابه فتثير قدماي خلفي غباراً كثيفاً، أسمع عواء ذئاب بعيدة وضجيجاً لا أعرف مصدره.. ينتهي الدرب بانفتاحه على بستانٍ مزدانٍ بالشجر، شجر نخيل ورارنج وتين وبرتقال وليمون وكروم عنب، مضاء بمئات المصابيح، المماشي بين صفوف الأشجار مكسوة بالثيّل، وهمس طيور يتسلل من بين الأغصان، وأنا أركض لألحق برجل حياتي.
ينتهي البستان عند شريط من شجيرات الآس، يضوع عطرها في الأرجاء، أجتازها الى ساحة عريضة مُسفلتة، وأرى نهاية الشارع، أتلفت في الاتجاهات جميعها قبل أن أصل الى تلك النهاية، فلعل رجل حياتي يكون واقفاً في زاوية ما.
لا أحد يسير، ولا ظل يلوح، ولا يمكنني أن أعود الى الشارع، فالظلمة امتدت إليه وغطس كل شيء في سواد دامس، وعواء الذئاب يلاحقني، وليس أمامي الا العودة من حيث أتيت، ممسكةً بآخر أمل خطر ببالي للتو: ربما يكون رجل حياتي قد اكتشف أنه أخطأ الطريق بالوصول الى بيتي فعاد أدراجه، وقد أجده حين أعود واقفاً عند باب البيت.
أركض متراجعة الى البستان المضيء، متسائلة: أين الناس؟ لقد كانوا يموجون في آخر الليالي، ويقيمون الأفراح حتى الصباح، أين تراهم هاجروا؟، ولماذا أنا وحدي في هذه العتمة؟
ألهث، يكاد قلبي يتوقف.. وحين أصل البستان لا أرى له مدخلاً، أرى سياجاً عالياً من الكونكريت مدعوماً بشبكة من القضبان الحديدية الصدئة، متى سيّجوه، ألم أخرج منه قبل قليل؟ ماذا يحدث لي؟ أتلفت لعلَّ أحداً يخرج من جهة ما... لا أحد.
الذئاب تدنو، عيونها تقذف خيوط ضوء تتقاطع في الظلمة، أشعر بفزع يشل أقدامي، لكنني أنتزعها بقوة من بين الشلل، وأدور حول السياج فلربما أجد باباً أو نافذة أو ثغرة يمكنني المرور منها... لم أجد.
امرأة ما خرجت من بين هلام الليل، هرعتُ نحوها:
ـ بربك، هل يوجد مدخل لهذا البستان؟
صوتها الجاف الذي يشبه قصبة تصفر فيها الريح قال:
ـ كلا.
ـ لكنني خرجت قبل قليل منه ولم يكن مسيجاً.
حدجتني بعينين متشككتين، وقالت:
ـ هذا السور موجود قبل ولادتي.
ثم تلاشت في العتمة الكثيفة..درت حول السور، وصلت الى باب حديدي، هممت بطرقه، إلا أنني تراجعت لكي لا تستدل عليّ الذئاب، سرتُ بمحاذاته لوقت طويل، حتى عثرت على الطريق المتعرج الضيق الذي جئت منه، بينما هاجت أصوات الذئاب بشراسة واقتربت أكثر فأكثر، وبنصف ظلمة ونصف ضوء شحيح من قمر معلّق في المدى البعيد، وجدتني أمام البيت، لا أحد ينتظرني.. دخلته، وصعدت السلالم التي لم تعد بين السماء والأرض، وإنما بين طابقين فقط، صعدتها وأنا أنهت... أنهت... أنهت.
واستيقظت متعرّقة، تكاد أنفاسي تتوقف، كمن كان في ماراثون لا ينتهي عند نقطة محددة، وبغرفة متواضعة، لها نافذة صغيرة لا تطل على نخيل ولا على شارع بل على أطلال بيوت هجرها أصحابها ذات حرب، أحاول استعادة أنفاسي وأنا على السرير الذي أنام عليه كل ليلة، وأحلم برجل حياتي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى