محمد خضير - الطــوفان

محمد خضيــــــــــــــر.jpg

1-
حلّق إيكاروس فوق السهل المغمور بمياه السيول والأمطار، ليحقق مهمتين جاء من أجلهما: إكمال أرشيف أبيه ديدالوس، واللقاء بصديق قديم يسكن أرض الطوفان البابلي.
(منظر مدهش يا أبي، غمرٌ عظيم غطى المزارع والبيوت والحظائر، سدود مكسورة وقنوات مطمورة، لجّة تحفها أجنحة أنكي السريعة ببقايا غضبه المكتوم، مقاطع ملحمية تتردد فوق سطح المياه اللامع حتى حدود جبال عيلام الشرقية. عائلات وغلال وأغنام مكومة على بقع جافة وتلال. وأرى الآن خيمة صديقي إمرانو الميساني على تلّة تبرز وسط الطوفان. أبحث عن مسطح جاف يصلح مهبطاً لطائرتي. أتسمعني يا أبي؟ لن أعود إلى قاعدتي قبل إتمام مهمتي).
كان هذا البلاغ المتقطع، واحداً من البلاغات التي بثها إيكاروس، المحلّق على مستوى منخفض فوق أرض شنعار، مع طاقم تصوير مختص بريادة المجاهل البابلية وقراءة الرقم الطينية. كان يطير على درب السرطان (درب إنليل) حين لمح قبضة يد هائلة، تمتد عبر الغبش المائي، وتنتزع كتلة طين حمراء، ثم تفرشها على الأفق المشحون بإشارات الغضب المكتوم، وتحفرها بأزميل الكاتب الأول:
( من العجيب يا أبي إن كلمة "ضجيج" تحتل مكاناً بارزاً في رقيم الطوفان البابلي إلى جانب كلمة "أوبوبو" التي تعني الغضب واللعنة والانتقام من البشر الذين اقترفوا الآثام. كانت كلمتا الغضب هاتان سبباً في هبوط الآلهة السومرية إلى الأرض، لكي يُسكتوا الضجيج الذي لا أسمع منه الآن إلا صيحات استغاثة تلوح لطائرتي المنخفضة. كم هو رائع الصمت الذي أعقب الطوفان. يا للمعاني الكثيرة المتفرعة من كلمة "أوبوبو"، الضجيج والطوفان ثم الصمت والقربان، تتلوها الكتابة على ألواح الطين. إن حوادث ما قبل الطوفان تنقطع نهائياً عن حوادث ما بعد الطوفان، ويبدأ زمن جديد. تلك الغاية من تدوين قصة الطوفان. أنت تدرك، ديدالوس، ضجيج الوحش الذي قهرته بحكمتك وفطنتك ومهارتك في بناء المتاهات. لكن هذه المتاهة بلا بوابة ولا ممرات، يكورها الصمت كقبضة طين انتزعتها قبضة الطائر الناري (زو) ورفعتها فوق السيول.. الصمت بحروف بابلية تميمة فكّت اللعنة عن رعايا الإله أنكي، إله المياه العميقة والحكمة).
بعد أن أنهى إيكاروس القادم من أرض القنطروس إلى أرض الناسخين الصامتين، بلاغه، لمح بعين الطائر المنقبة، ثوباً أخضر يلوّح له على قمة مرتفع وسط المياه، فدار دورة كبيرة وزاد من انخفاضه. كان يسمع همسات المياه تسحبه إليها:
( ومزّق الإله الطائر زو بمخالبه السماء
وحطم ضجيجها مثل الإناء
وبدأ الطوفان
وكان في شدته على الناس كالحرب الضروس
فلم يعد بإمكان الأخ أن يرى أخاه
ولم يعد بالإمكان التمييز لهول الدمار
وكان الطوفان يخور كالثور
وكانت الأعاصير تعصف مثل نهيق حمار الوحش
وكان الظلام حالكاً بعد أن اختفت الشمس).

2
وردت قصة الطوفان في المراجع المسمارية، باللغات السومرية والأكدية والآشورية، موزعة على عدد من الألواح والأعمدة والسطور، عثر عليها المنقبون في مدن نفر وسبار ونينوى، وعُرفت برقم (زيوسدرا وأتراحاسيس وأوتنابشتم) أبطال القصة السابقين على نوح السامي.
أقدم هذه الألواح رقيم زيوسدرا المدوّن بلغة سومرية، فيما عُثر على عدة نسخ من رقيم أتراحاسيس ترجع إلى العصر البابلي القديم والوسيط والعصر الآشوري الحديث. وتحتل قصة أوتنابشتم الرقيم الحادي عشر من ملحمة كلكامش. ومن المعلوم لدى الآثاريين اليوم أن الألواح المكتوبة في فجر السلالات التي حكمت بعد الطوفان تنسخ جميعها خبر الطوفان الأصلي نفسه الذي حدث في حدود 3500 ق.م، مع تبديل في أسماء الآلهة والمدن التي ترعاها.
لكن رواية أتراحاسيس للطوفان السومري أوضح الروايات وأطولها، وتتكون من ثلاثة رقم كتبها ناسخ اسمه (كو ـ إيا) ومعناه (فضة الإله إيا) في زمن الملك آمي صدوقا (1646 ـ 1626 ق.م). وملخص الرواية: إنه حين كان (الآلهة مثل البشر، تنوء بمشقة العمل وتعاني التعب)، وزّع مجلس الآلهة (أنانوكي) ملكوت السماء والأرض، واختص كل إله بعمل يوكله إلى شبيه له على ألأرض. بدأت النزاعات تذر قرونها بين أخوة السماء، ففرضوا على جنس الإنسان أعمالاً شاقة، ضجّت لها أسباب السماء، وقضّت مضاجع الإله الجبار (إنليل) فطلب من المجلس السماوي معاقبة البشر على ضجيجهم وصخبهم. عارض (انكي ـ إيا) إله المياه العميقة والحكمة قرار الآلهة بكسر مزاليج البحر (كناية عن الطوفان) وإغراق البشر، ووشى بالسر إلى الملك أتراحاسيس وأمره ببناء سفينة يحمل عليها أهله وأنواع من الحيوان والطير، وكانت وشايته بصيغة حلم أسرّه إليه من وراء جدار قصب: (يا جدار استمع إلي. يا جدار القصب انتبه لكلماتي. هدّم بيتك وابن سفينة. انبذ المال وأنقذ النفس. واجعل لها سقفاً مثل أبسو. واختمها بإحكام في أعلاها وأسفلها. واجعل الحبال متينة جداً. واجعل القير كثيفاً).
تلقى أتراحاسيس الأوامر، وجمع مشاوريه، ودعا النجارين والقيارين، ثم اصطاد طيور السماء ووحوش البر وحشرها في السفينة. تغيرت الأجواء، وأرعد الإله (أدد) في الغيوم، فجيء بالقير وسدّت أبواب السفينة، وأصبحت الرياح عاتية، فأرخيت الحبال وجرت السفينة مع التيار.
وبعد سبعة أيام وسبع ليال من الطوفان، اعترت الآلهة الندامة على فعلها بالبشر، وكان أنكي أشدهم حزناً (وهو يرى أبناءه يتساقطون أمامه). أما (ننتو) السيدة المعظمة (فقد غطت شفتيها آثار الحمى). وكان بقية الآلهة (قابعين عطشى جوعى) يلوم بعضهم بعضاً ويتهمه بالدمار. لكنهم حين شمّوا رائحة القربان الذي قدّمه أتراحاسيس في نهاية الطوفان، تهافتوا وتدافعوا على الطعام كالذباب.
قال إيكاروس خاتماً تقريره: (سأعود يا أبي من فم الأنهار، حيث يخلد أوتنابشتم مع زوجه، برؤيا مماثلة لجلسة النقاش السماوية ووليمة القربان البابلية، أختم بهما مهمتي. إني أحتاج إلى بلاغة الخطاب الطوفاني ورؤيا السينمائيين وإخوانهم الميكروسوفتيين لتنضيد تقريري. هذه خاتمة طلعاتي على أرض الأعمال الشاقة. عذراً على هذا البلاغ المشؤوم، فقد كان ضجيج السماء أعلى من ضجيج الأرض. سلاماً أبي).

3
راقب رجل ميسان الحوامة الطائرة، تلقي ظلالها على المرتفع الذي تجمعت فوقه عائلته الناجية، وشاهد الطيار يرد على تلويحته بغصن شجرة أو قبضة سنابل. تمتم عمران الميساني ساهياً عن استفسار عائلته: (السلام بعد الطوفان، علامة النجاة التي عادت بها الحمامة). ثم التفت إلى زوجته قائلاً: (هذا يعني أن الطائرة تحمل رسالة قادمة من اليابسة، وستأخذنا بعيداً عن فم الأنهار، كما حدث من قبل يا رسالة). وكان هذا اسم زوجته.
فك رجل ميسان حبل قاربه المقيّر، ذي المقدمة الطويلة المعقوفة، ودفعه باتجاه البقعة الجافة التي حطت عليها الحوامة، إلى جانب كومة الغلال المحصودة قبل انحدار السيول: (سأعود يا رسالة. اطبخي لضيفنا الطيار طعاماً يشبعه وجماعته)).
استقبل إيكاروس رجل ميسان، وقد عصفت المروحة الدائرة بالقارب، وعانقه في تيار الهواء تحت ظل الحوامة الجاثمة. صرخ في أذنه: ((إمرانو، يا صديقي، بأية لغة ستحدثني اليوم؟). وكان المزارع الميساني المعمر قد تعلّم لغات الساميين إضافة إلى لغة أجداده البابليين، خلال مكوثه الطويل في منطقة الأهوار. قال إمرانو الخالد: ((يا صديقي الطائر، لولا حدوث الطوفان ما احتملت بقاءنا بعد فناء سلالتنا الخرافية. دعني أطلعك على هذه القطعة)).
أزاح إمرانو أطراف خرقة ثوب أخضر، وأخرج رقيماً طينياً ملفوفاً: (أترى ما خلّف لنا جدّنا أوتنابشتم؟ أنقذت هذا اللوح من مجرى السيل الذي جرف التل القريب من مزرعتي. أهذا ما جئت تطلبه؟). ابتسم إيكاروس : (أجل. سيفرح أبي ديدالوس بهذه اللقية).
كان الرقيم مثلوم الحواف، سطّرت على أحد وجهيه قطعة من رؤيا الطوفان، فيما حمل وجهه الآخر مخططاً غائراً لسفينة الإنقاذ التي حملت أزواجاً من البشر والحيوان. تأمل إيكاروس اللوح الطيني مبهوراً بشكل السفينة المكعب وطوابقها السبعة الشبيهة بزقورة: (احمل يا إمرانو اللوح بين يديك لأصور هذه اللحظة النابعة من متاهتك البابلية. إنها صورة لا تقارن بمتاهتنا).
عاد الرجل الميساني بضيفه واثنين من طاقمه إلى مرتفع العائلة، كي يعرفه إلى زوجته ويطعمه من طبخ البشر. وفيما كان القارب يرسو، ويشم رائحة الطعام، تذكر إيكاروس قربان أوتنابشتم للآلهة، احتفالا بنهاية الطوفان وانحسار المياه. قرر في سرّه أن يهدي الزوجة الطيبة ما أهداه المجلس السماوي للمنقذ العظيم:
( ما كان أوتنابشتم قبل الآن إلا بشراً
ولكن الآن سيكون أوتنابشتم وزوجته مثلنا نحن الآلهة
وسيقيم أوتنابشتم بعيداً عن فم الأنهار).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى