فؤاد التكرلي - عن (جيف معطرة) وشؤون أخرى

نشر جيمس جويس روايته الرائدة يولسس في باريس سنة 1922 في طبعة محدودة خاصة ولم تفهم الرواية كما يجب او تدرك ـ في الحال ـ طريقة المؤلف لتركيبها كانت جدتها سابقة لزمانها بسنوات عديدة ولم يكن من المؤمل ان تنتقل محاولة جويس هذه غير المالوفة بسرعة الى بلدان اخرى وبالاحرى الى العراق لكن شاباً عراقياً مجهولاً في السابعة والعشرين من عمره كتب ونشر اقصوصة بعنوان جيف معطرة في سنة 1948 ولم تمض على وفاة جويس غير سبع سنوات مستعملاً تقنية مجرى الشعور لتركيب بناء اقصوصته تلك كان يدعى عبد الملك نوري : ولم يلتفت احد الى دلالة الاقصوصة وعنصر التجديد المحض الذي يتالق منها كانت اول اقصوصة عربية تكتب بهذا الشكل يومذاك على طول الساحة الادبية العربية العريضة المليئة بالاسماء اللامعة صدقاً وكذباً وكانت ـ في اعتقادي ـ انصع واثبت دليل على الرغبة المحرقة التي كانت تعتمل في نفس عبد الملك نوري طوال سنوات شبابه الاولى لانتاج اقصوصة جديدة كل الجدة لم يكتب مثلها من قبل وبعد ان توطدت صداقتنا بعد ذلك بوقت قصير ادركت ان هذه الرغبة المحرقة للتجديد كانت ـ في الواقع ـ تحرق جسور عبد الملك من خلفه وتحرمه من استقرار منطقي واصيل لابد منه كان ماخوذاً خلال سنوات الاربعين بتلك الفكرة التي اشرت اليها انفاً عن الاقصوصة التي لم يستطع احد ان يكتبها فكتب اقاصيص جميلة ـ بمقاييس معينة ـ لم يكن يعرف حقاً كيف كتبها ولا ان كان من الممكن ان يكتب مثيلات لها وكانت جيف معطرة احدى تلك اللاليء الصغيرة التي لاتتكرر مثل تمثال شمع رائع تحت شمس آب.
لقد كتبها عبد الملك نوري لا تقليداً لجويس بل اغناء لفنه هو وكتبها لايقصد تغريباً وانما استجابة لظما التجديد الذي لا يرتوي.
جيف معطرة اقصوصة عراقية صميمة تقدم ـ في فترة زمنية قصيرة ـ شخصيات من عائلة غنية منخورة داخلياً بالتفاهة والعقم الانساني تتبادل خلال التقائها في جلسة عادية مجاري الشعور تلك التي امسك بها عبد الملك وشيد منها الاقصوصة بشكل غير منظور تماماً يثير الاعجاب.
ولم يكتب عبد الملك نوري اقصوصة اخرى على نفس منهج جيف معطرة ولاجرب ذلك فالقضية بالنسبة اليه قد انتهت مع انجاز الاقصوصة ونشرها: وكان هذا الامر يلائمه اكثر من محاولة الاعادة والتجويد والترصين.
وهذا في الحقيقة هو ما يجب ان يؤاخذ عليه اديبنا الشاب اللامع الذي كان في طموحه الفني يتهور اكثر مما يجب غير ان الامر بالنسبة لشخصية عبد الملك الادبية القلقة لم يكن الاختيار والتاني والاستمرار والمثابرة بل كان الاندفاع والتجديد اللامتناهي والجنون الفني والانبهار بكل ثمن كان شعلة من نار لاتحتمل برودة المواضعات والتفكير المستديم ولم يخطر له ان يضع اسساً ثابتة لاي شيء رغم ان ذلك لم يكن يتجاوز طاقاته الفنية.
عبد الملك نوري في تاريخ القصة العراقية هو الوعي الحاد بفنية العمل الادبي وهو التطلع الملهب لابداع جديد يوازي ان يفوق ما يبدع في العالم كان عبد الملك نوري ضمير القصة العراقية المعذب وهو ـ لاسباب كثيرة ـ ضرورة لازمة في تاريخ هذه القصة ومن الانصاف علينا لا ان نضعه في مكانه من تاريخنا الادبي بل ان نضعه في مكانه الحقيقي كمبدع مهضوم الحق في تاريخ الادب القصصي العربي.



* هذا المقال نشره الروائي الراحل فؤاد التكرلي في العدد الثامن من مجلة الاقلام الصادر عام 1989



أعلى