نزار حسين راشد - الوطن حكاية.. قصة قصيرة

الشوارع تموج بالمتظاهرين، كانت هذه لازمة إيقاعية في شوارع الضفة الغربية للأردن قبل عام ١٩٦٧، فالناس دائماً متحفزون وعلى حافة التمرد، كان يكفي أن تطلق الأحزاب أبواقها، حتى تفيض الشوارع بالناس وتضج بالهتافات.

كنت أجاهد لحشر قامتي الصغيرة في زحام الأجساد مدافعاً بأقدامي الصغيرة، التي تقف في مكان ما بين الصبا والشباب.

في أعلى الشرفة المطلة على الشارع، تقف بشعرها الطويل المنسدل وثوبها الأرجواني، وتكافؤني بابتسامة على هذه الشقاوة التي أمارسها بمتعة كبيرة، وتشفعها بتلويحة قصيرة مموهة بمسحة شعر، والدها وعائلتها على الطرف الآخر من المشهد، نحن عائلة الحزبيين المعارضين، وهم عائلة الوجهاء الموالين، والدها المُحنّك برّر ذلك لعمي الذي قرّعه بشدة، قال:

- أنا صلة الوصل بينكم وبين الدولة، الشحمة،الملطّف، زيت التليين إذا شئت، فالدولة ملجأنا الأخير وأنا واسطة الخير، مصلح ذات البين، فحتى لو طلقتموها فهو طلاق رجعي وليس بائناً، ومن المستحيل أن يكون كذلك، افهموها بقى.

مرّة أصرّ عليه عمي أن يخرج مع المتظاهرين، وفعلها لإثبات حسن النية تجاه الجماهير... أياماً وكان في بيته مسؤول كبير، وقال له بلا مواربة:

نحن على أبواب انتخابات نيابية يا أبا العبد، وإن كنا قصّرنا معك بشيء فالخطأ مردود ونحن آسفون، فهم أبو العبد تعريضه ولم يندهش أنّ الأخبار تصل بسرعة للمرجعيات وطمأنهم أنه واقف بثبات في الصف الذي اختاره ولم يغير موقع قدميه، وأوضح:

- ولكنهم ربعي وجماعتي، ولا فائدة من أن يعاملوني كعدو، ولكن الحكومة حساسة أكثر من اللازم!

-الوضع كله حساس يا أبا العبد، وأنت تعرف نوايا ناصر نحونا، وإذاعته التي لا تكف عن اتهامنا ليل نهار.

المهم أنه أصبح نائباً، يبدي الولاء للدولةٌ من جهة، ويقضي مصالح الناس عندها من ناحية أخرى!

ووقعت هزيمة ١٩٦٧، وترنحت الناصرية تحت ثقل الهزيمة، أو على الأقل خرجت عرجاء تنوء بثقلها، وبقي أبو العبد على كرسيه.

ان نلتقي أنا ولمياء بعد كل تلك السنوات على صفحات الفيس بوك وتويتر كان من لطائف القدر، منشوراتها التي تطفح وطنية، وتغريداتها اللاذعة عن التخاذل العربي تجاه القضية والشعب الفلسطيني بصموده الأسطوري، تبعث في نفسي الغبطة، فالمختار لم يقصّر في إرضاعها الوطنية على الرغم من موقفه السياسي، وهي أيضاً ضحكت على مقالي اللاذع عن الناصرية وعبادة الأصنام التي قد أوصلتنا إلى هذه الهزيمة المنكرة، وأرسلت إلي:

- يبدو أنّك تنكّرت لماضيك أيها الكاتب الكبير، أما نقمتك على حسنين هيكل، فيبدو أن لها دوافع شخصية، كالغيرة مثلاً من أن صوته لا يزال مسموعاً، في حين أن صوتك العالي لا تسمعه إلا أذني العاشقة، والأذن تعشق قبل العين أحيانا....ها ها ها.

الود القديم أو الحب الطفولي لم يمت إذن وعيناها العسليتان الذكيتان تثير في اللواعج الكامنة، منذ عهد مضى،ولم يخنُ عليها الزمن.

المهم أنها انتهت إلى التوقيف وأفرج عنها لمكانة والدها، لا بل عرضت عليها إحدى الصحف المتمسكة بأهداب الوطنية منصباً محترماً وبقيتُ أنا مكانك سر لا يعزيني إلا حبها لي وتقديرها الصادق لما أكتب وأنشر.

زوجها هاجر إلى كندا وهي رفضت أن تغادر أرض الوطن وانتهى الأمر بينهما بالطلاق، ولم أتردد ثانية واحدة لأعرض عليها الزواج كزوجة ثانية بالطبع، وجاء ردها حاسماً:

-لن أبني سعادتي على شقاء الآخرين!

-ولكنني سأكون في غاية السعادة إلى جانبك!

- اعرف ذلك،انا أقصد زوجتك لا أنت، وأنت تعرف ما أقصد أيها الماكر!

وأردفت: في الحقيقة أصابتني تجربة الزواج بعقدة، وعلى كل حال الأيام بيننا، لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا!

- صدق الله العظيم.

الماضي بكل شجونه يعشش في صدرينا كحمامة عجوز متشبثة بعشها القديم، والشيء الوحيد الذي اختلف، أننا نقف الآن في الجانب نفسه،المعارضة، فالواقع الرديء لم يترك هامشا للتسويات والمصالحات، لعبة والدها المفضلة، ولم يترك هامشاً حتى للتظاهر أو المداهنة!

نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى