زهور كرام - المُرسل إليه مُكون نصي في خطاب نساء النهضة

كلما تطور الفكر النقدي، بتطور مناهجه وتصوراته ومفاهيمه، انفتح أكثر على الإمكانيات المتعددة للنص والخطاب. كل نص/ خطاب هو عبارة عن طبقات من القول، متداخلة في ما بينها، تتأسس على منطق الظاهر والغياب. نظام هذا المنطق هو التي يُميَز النص/الخطاب، ويمنحه خصوصيته الذاتية، كما يُعبَر عن مستوى التشخيص، ودرجة التبليغ، وشكل صوغ القول. هذه التركيبة المتداخلة هي التي تجعل من كل نص/خطاب تعبيرا منفتحا على تجدد القراءة، والدلالة.
ولهذا، قد نعتبر من بين أهم مظاهر استمرارية أي تعبير نصي، بدون تأثره بالانحرافات التاريخية، هو قدرته على الولادة الجديدة مع كل مرحلة جديدة. لكن ذلك، يبقى مشروطا بتجديد القراءة، وتطويرها، واعتماد سبل جديدة لقراءة تركيبة منطقه. لهذا، فعلاقتنا بالتاريخ ومراحله ومحطاته تتحقق أيضا، من خلال اعتماد ملفوظ وخطاب المنتمين إليه. إذ، تسمح إعادة قراءة خطابات سابقة، بإنتاج وعي مختلف عن تلك الخطابات، بفعل تغيير منهجية التناول. الفكر يتطور بتطور مناهجه، وبهذا التطور يُنجز حوارا ثقافيا مع تلك الخطابات.
تُهيمن على الدراسات النسائية بعض التصورات التي باتت جاهزة ومُستهلكة. كلما تم الحديث عن المرأة في المشهد العربي قديما أو زمن النهضة، تم استحضار صورتها باعتبارها موضوعا، في سبيل منح العصر الحديث مكتسب انتقال المرأة من الموضوع إلى الذات الفاعلة. غير أننا عندما نعتمد الاشتغال بخطابات المرأة في زمن النهضة، ونعيد قراءة قولها الفكري والأدبي، منطلقين من تحليل الخطاب، ومستفيدين من المناهج الحديثة، فإننا نلمس صورا مختلفة عن وعيها، ورؤيتها للأشياء، مما يعكس حضورها ذات فاعلة، وذلك بتحليل قولها، وتفكيك نظام خطابها. وعليه، وجب منهجيا، إعادة النظر في مجموعة من التصورات والمفاهيم التي نظل نجتر مضامينها، بدون العمل على إعادة تفكيكها، والنظر في وضعيتها. نلتقي في هذا الصدد بعينة من النصوص، والتعبيرات والخطابات التي أنتجتها المرأة زمن النهضة، والتي تثير الاهتمام بطبيعة صوت المرأة/الكاتبة، أكثر من طبيعة الموضوع. من بين التعبيرات، نستحضر مقالة الكاتبة مريم خالد الواردة في مدخل انطولوجيا «الدر المنثور في طبقات ربات الخدور» (1895)، للمؤلفة زينب فوَاز العاملي، حول «وجوب تعليم البنات ردا على معترض هذا المقصد». وعلى الرغم من كون موضوع تعليم البنات، يعد موضوعا مهما زمن النهضة، وقد يمنح للمقالة جرأة صاحبتها، غير أن المثير في هذه المقالة، ليس هو الموضوع في حد ذاته، وإنما طريقة بناء الحكي عن الموضوع، وطبيعة ترتيب نظام الخطاب، ويتجلى ذلك من خلال قوة حضور المُرسل إليه (وهو رافض تعليم البنات)، باعتباره عنصرا بنائيا في المقالة، وقدرة المؤلفة على استثمار لغة الآخر/ المُرسل إليه، وجعلها لغة الكتابة، والتعليل، والتفسير، والحوار. مما سمح بوجود تعدد وجهات النظر حول موضوع «تعليم البنات»، وفسح هذا التركيب اللغوي المجال أمام القارئ ليُكوَن رأيه، ويتحول من مجرد مستهلك لموقف، إلى صاحب وجهة نظر.
هكذا، تتعرض الكاتبة مريم خالد في مقالة «وجوب تعليم البنات ردا على معترض هذا المقصد» إلى أحقية البنت في التعليم، انطلاقا من بناء خطاب تحليلي وتبريري توجهه إلى من يعترض هذا الحق. ولهذا تبدأ مقالتها بالافتتاح التالي: «لا أدري ما الذي دفع بالمعترض إلى هذا القول ولا أعلم ما هذا الغشاء الذي قام أمام عينيه فلم يعد ينظر من ورائه الفوائد الحاصلة التي لا ينكرها إلا من أعماه الجهل وخيم فوق رأسه الغرور» (ص 11). تبدأ مقالتها بالرد على أولئك الذين ما تزال أعينهم عاجزة عن النظر في فوائد التعليم، ويتم ردها بأسلوب التعجب، لتحسم في الأمر من البداية، معتبرة بذلك أن اعتراض حق التعليم للبنت يثير التعجب. ومن أجل أن تدحض رأي المعترض، تأتي بكلامه، لترد عليه في حضرة المتلقي:
«كقوله هل تقصد أن ترسل ابنتك للمكتب… أراد أن يتكلم فبحث في زوايا دماغه وفتش مخبآت قريحته فلم ير إلا أن تعلمنا صورة خارجية وضرر عظيم فهل يظن أن العلم خلق للرجل لعمري أنه في ضلال مبين وخطأ عظيم» (ص 11).
لا تلغي الكاتبة الآخر/ المعترض، ولا تقصي موقفه، وإنما تستحضره من خلال استحضار كلامه، لتؤسس خطابها على معارضته. إنها تأتي بأقوال المعترض على تعليم البنات لترد عليها. فإذا رأى هذا المعترض أن البنت إذا ذهبت إلى المدرسة، فإنما قد تتأثر بطريقة لباس الأخريات، مما يدفعها إلى مطالبة أهلها بالملابس والزينة نفسها، ويبعدها ذلك عن ممارسة الأشغال البيتية. فإن الكاتبة تجيبه قائلة: «وأسفاه على المعترض لا يعلم أن هذا الغلط غير لاحق بالبنات فقط بل بالشبان أيضا، فإني أقر بهذا الغلط ولكنه ليس عموميا، ألا يعلم أن للناس طبائع وميولا مختلفة فالبعض يميلون إلى الإسراف والتبذير والبعض إلى العلم والتهذيب والبعض لغرور العالم وشهواته فلا خوف على ابنة واقعة تحت ظروف كهذه فمهما كانت طائشة وميالة للإسراف لا بد من أن يعلق في ذهنها أثر التهذيب، والتي لا يفعل منها التهذيب المدرسي لا يفعل فيها ولو لزمت البيت» (ص 11 و12). بعد مواجهة الكاتبة لخطاب الرفـض، تواجه المعترض نفسه وتدعوه إلى التحلي بالشجاعة: «فعليك أيها المعارض أن تتشجع ولا تخف من هذه المضار، بل أن تصوب آمالك للفوائد الجمة التي تنتج من تعليم البنات ولا تحتقر علمهن فإنك بذلك تحتقرهن ولا تنس أن المرأة هي المحور الذي تدور عليه أسباب النجاح وهي سبب التقدم والفلاح وهي حافظة للهيئة الاجتماعية ومرآة الآداب العمومية» (ص 12).
تُذكر مريم خالد المعارض هنا، بدور المرأة المحوري في عملية التغيير الاجتماعي، وتعلن أن صوت المرأة سينطلق، وسيدوي في أرجاء سورية، تؤكد ذلك بثقة ضميرها الحاضر بشكل ملموس: «أما أنا فعندي أن صرير أقلامنا الحاضرة سيدوي في وديان سوريا ويؤثر في آذان الهيئة الاجتماعية» (ص 12). تدفعها هذه الثقة إلى توجيه الدعوة إلى النساء قائلة: «فعلينا أيتها السيدات بالتحفظ من كل أمر يحط شأننا وملازمة الخطة التي ترفع قدرنا ومقامنا، واعلمن أن الأنظار تراقبنا والإصلاحات تنتظرنا والمرأة مرآة الوطن، فيها يظهر هيكله ومنها يعرف كيف هو ورجاؤنا أن نكون نحن الرابحات والمعترضون الخاسرين» (ص 12).
تنجز مقالة مريم خالد أفقها في الدفاع عن أحقية تعليم البنات زمن النهضة، من خلال بناء تركيبي، يعتمد تعددية اللغات والأصوات، وينبني على حوارية حول الموضوع تتأسس بين صوتين، ونمطين من الوعي، ولغتين متناقضتين، فلم نعد نوجد مباشرة أمام لغة الكاتبة، ووجهة نظرها، بقدر ما أصبحنا أمام وجهتي نظر مختلفتين، تطلبتا منا كقراء اتخاذ موقف منهما. إنها كتابة لا تقف عند وصف الموضوع، ولا تتبنى أسلوب تجاهل رأي الآخر، كما لا تعتمد طريقة الإلزام في تبني الموقف، يحدث ذلك، من خلال اعتماد رأي المُعارض، وجعله عنصرا أساسيا لإنجاز المقالة، كما لا تلغي إمكانية بروز موقف جديد، لأنها تُشرك القارئ في صياغة الموقف، وتستحضر مختلف الضمائر، لتدخل في نقاش في ما بينها، لتنتصر الكتابة في النهاية لطريقة التفكير في الموضوع، وليس للموضوع وحده.

كاتبة مغربية

زهور كرام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى