عيدروس سالم الدياني - وجه آخر.. قصة قصيرة

أنتَ من أولئك الذين يقلقهم رنين الهاتف، تضطرب وتهرع لترى من الذي يطرق باب هاتفك، ولعلك قد بدّلت رنينه مرات عديدة، ظنا منك أن تلك النغمات هي سبب قلقك، وأنك لو غيرتها بأخرى هادئة فلن يكون الحال كذلك ، لكن لم يتغير شيء، بل كنت تشعر بقلق عند كل اتصال يأتيك، ومن يراك حينها سيلحظ الارتباك الذي يظهر عليك .
ومع ذلك فقد تعايشت مع هذا القلق الذي لا يدوم سوى ثوان معدودة، هي ما بين سماعك لرنين الهاتف، وإجابتك على المتصل، أو الضغط على زر السكون، لتنعم ببعض الهدوء بعدها .
على العكس تماما، فالرسائل التي تردك، بكل أنواعها، تشعر بشوق لفتحها، ومعرفة ممن تكون، وما تحويه،
تُسرع إلى هاتفك ، وتفتحه بشغف أراه بعينيك، وتقاسيم وجهك.
هذا الأمر لو تأملته وفكرت في أسبابه، لوجدت الكثير من الأسباب، بعضها صائب كثيرا، وبعضها فيه القليل من الصواب.
ولإنك تحبذ الرسائل، فأنت ترسل الكثير منها للأصدقاء والمعارف وتستقبل منهم كذلك، تحب أيضا أن تُسيّر بها أمور عملك، وتخاطب بها كل من تربطك به علاقة ود وصداقة أو عمل ومصلحة .
كنت قد وقفت بموقف عام على الطريق السريع، الذي يذهب شمالا ويتعدى الأحياء الشمالية للرياض، فيتجه إلى القصيم مباشرة ، إن مضيت فيه دون أن تحيد .
تقلب مفتاح الراديو، لتهرب من بعض المحطات التي تبث أغان سمجة، لينة بعضها حد الميوعة، صاخبة الأخرى وموجعة، تلوث سمعي ترسله بعض تلك المحطات، وكثيرا ما تبث دردشة لمذيعيها وكأنهم بقهوة شعبية، بضحكاتهم المتكلفة، الباعثة على الغثيان.
وجدت أخيرا محطة تبث برنامجا ثقافيا جيدا، كان يتحدث عن أديب وسياسي عظيم ، كان ذلك الرجل هو غازي القصيبي الذي رحل عن دنيانا، منذ سنين ليست ببعيدة.
كان المتحدث هادئا يبث الكلمات والعبارات بترتيب، وبمشاعر تأثرت بها ، وعشت تلك القصة بحذافيرها.
طرقت رسالة من برنامج مرسول جوالك، ورأيت طلبا جديدا ، كان من معرض هواتف نقالة، فوافقت عليه بعد قليل من التردد، فالهواتف والأجهزة الثمينة تقلقك خصوصا بعد حوادث احتيال تعرض لها البعض من زملائك .
لكن ذلك القلق زال حين عرفت ان ما طلبه العميل مجرد سماعة بلوتوث، لا يتجاوز سعرها المائة وخمسين ريالا .
مضيت نحو المحل الذي في شارع أنس بن مالك، وبالتحديد في صالة كبيرة بالجهة الشمالية للشارع، وبالقرب من تلك الصالة وُضع جهاز مراقبة للسرعة، كان قد رصدك بإحدى المرات ، وحين دفعت قيمة تلك المخالفة، تعديت ودعوت على من وضعها، هكذا دون أن تلوم نفسك، بل رأيت نفسك بريئا جدا، لكنك تملك حظا سيئا .
صوّرت بهاتفك السماعة، وانتظرت إجابة العميل، ليخبرك هل هي مايريد ؟ أم نوعية أخرى؟
وكنت ترى في صفحة المحادثة "العميل يكتب...
لكنه تأخر ، وتوقعت أن تصلك رسالة طويلة، وأنه يشرح لك صفات سماعة أخرى غير هذه، لكنه بالأخير أرسل: " نعم إنها هي "
غضبت، وقلت بصوت مرتفع قليلا:
" كل هذا الوقت ليقول، نعم إنها هي " .
خرجت من المحل وأنت موقن أن هذا العميل من طائفة العملاء اللا مبالين، والذين يأخذون من الوقت الكثير، وحين تتصل بهم لا يردون إلا بعد مضي الكثير من الوقت.
سرت على مهل، فلا شيء يجعلك أُسرع، فهذه العينة من العملاء تعودت أن تعاملهم بأسلوبهم، بمزيد من الثقل، والأناة، وأحيانا بتعمد التأخير، وكأنك تعاقب نفسك مثلهم بمزيد تأخير .
وصلت أمام فيللا صغيرة واجهتها من الحجر الأبيض، وقبل أن ترسل له رسالة تعلمه بوصولك، قبل ذلك وضعت سيجارة في فمك، دون أن تراعي أن يكون رجلا متدينا، يغضبه منظر المدخنين، أو تزعجه رائحة الدخان .
وحين أعلمته بوصولك، ظهرت تلك العلامة لوقت طويل أيضا:" العميل يكتب..."
انتظرت ان تصلك منه الرسالة التي تعلمك بقدومه، وبعد طول انتظار:" أنا في الطريق إليك"
يا لهذا الانسان الثقيل، الذي يتعمد تأخيري"
تكلم نفسك وأنت واقف عند الباب، قد أفنيت سيجارتك ورميتها، بل وذهب طعمها من فمك ، فلم يبق إلا الملل والضجر يغمرك .
أخيرا انفتح الباب بهدوء ودخل ضوء شمس العشية متلألئا على صفحات البلاط ذي اللون البني الداكن ، لكن لم يخرج أحد بعد .
- ما هذا؟ ألم يكفه طول مقامي، ويريد أن يجعل كل شيء يسير ببطء، حتى فتحه للباب وخروجه إلي
"لو سمحت ... أنا انتظر منذ ثلث ساعة تقريبا "
تكلمتَ بصوت مرتفع قليلا ،
و لم يجب، ولكن كرسيا من خلف الباب استدار نحوك، لتراه يحمل فتاة نحيفة تلبس بيجامة بلون التفاح الأخضر ، كانت يداها ترتعشان وبيدها الهاتف، ترفعه أمامك وهو يهتز بقوة ويكاد أن يسقط .
تحول ذلك الإحساس بالغضب إلى إحساس بالندم، ندم على ما أضمرت لها داخلك، وعلى تلك الصورة التي رسمتها لها .
وضعتْ الجوال بحجرها وأخرجت من حقيبتها ثمن السماعة وأجرتك، ولم تنس وهي تبتسم أن تقول لك "شكرا ، للطفك "
"تبتسم وتشكر ويديها ترتعش ولسانها يتكلم ببطء شديد ... إنها ليست منهم ، لكنني رجل أحمق"
حدثك ضميرك حينها بصوت لم يسمعه أحد إلا أنت .

عيدروس الدياني
٢٠ نوفمبر ٢٠١٩
  • Like
التفاعلات: حنان العادلي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى