عامر القيسي - دوائر حلم مبتكر.. قصة قصيرة

لكنه كان يلتجىء الى مصيره هو ، ذلك الالتجاء الذي كان يحوّل جميع ضروب الصراعات أمامه والتناقضات الى معايير للنطق والحكم على مرحلة استلهام القتل وخيالاته . كان يتخلص من خوفه الداخلي في النظر الى هذه القوى باعتبارها قوى زائلة .. طارئة ، ستلملم ذات يوم رصاصاتها وتحرق أوراقها وتختفي خلف ألوان وجدران أخرى .صعدت الخمرة الى مكامن اسرار راسه الصغير ، تلاعبت بخيالاته التي كانت تمزق تجلياتها تلك الومضات النارية التي تمرق من أمام نافذته كشريط من نور ينبثق على حين غرة من وسط الظلام والضوضاء والخوف والافكار المشوشة . عبودية المنظر سمّرته في مكانه ، كان يتوقع أحيانا اعداد الضحايا ويتوهم في خيالاته المنفلتة من ظلام روحه اصوات صراخ قادم من البعيد ، صراخ متوسل . . ناطق .. لكنه هناك في المجهول . يضرب كفا بكف ويصرخ في داخلة- اولاد الكلب !!
وحشة الحبطرقت باب غرفته بخفة كعادتها ودخلت . عادة تعارفا عليها من زمن الوحشة والوحدة والحرمان ، تنبأه بطرقاتها الخفيفة دائما ، وتدخل مثل .. هواء .. حلم .. خيال .. وهم .. او كذبة كبيرة في حياته المتخمة بالاكاذيب والاحلام المجهولة . رائحتها مثل غيوم شباطية تملأ غرفته العفنة بالرطوبة . تدخل بجسدها البض المعذب الممتلىء وروحها المنفلتة في سماوات الله . \"لاشيء غيره \" كانت تقول لنفسها وتلقي بركام عالمها الملوث خلف ظهرها .- ماذا يحدث في الخارج ؟- كما يحدث في الداخل . اجابته ونفثت دخان سيجارتها ، واضافت :- الناس تتقافز بين الرصاص وقذائف الموت العمياء .. لااحد يعرف من يقتل من ؟ انهم يطلقون الرصاص على كل اتجاه ، وينطلق الرصاص من كل اتجاه . لقد رأيت دما وسمعت صراخا . ثم نهضت بعد أن رمت ببقايا سيجارتها من خلال النافذة المفتوحة . مرّت نسمة محملة برائحة البارود . استلقت على السرير الوحيد في حياته الوحيدة في غرفة مشبعة باحلامه واشعاره الناقصة.قال لها مدمدما: - النغل سقط ولم يسقط. نهض هو الآخر ، بعد ان دفع ببقية كأسه الحار الى جوفه كعادته دفعة واحدة ، وتمدد الى جانبها ، دس رأسه بين نهديها وبكى بصمت ، هي الاخرى دسّت اصابعها النحيلة بين طيات شعره المبعثر وغفوا معا على اصوات اغانيهما واحلامهما واصوات القذائف التي كان يقترب دويها وضجيجها من حياتهما الخاصة وحبهما المبعثر منذ سنوات.عندما يأتي الحلم ذات لحظة من حبهما وهيامهما معا ، كانا يبنيان حلمهما المشترك ، وسط عالم من الممنوعات ، عندما كان الحلم جريمة ، كانت تنبثق امامهما عوالم للفرجة الخاصة ، يتبادلان الاسئلة والحيرة والقبلات واللذّة والخصام . كانت تأتيه دائما على حين غرّة ، في لحظات تأزمه ، عندما يتلبسه احساس بأن حلمه يتطاير مثل الرماد .. مثل بريق من نور يومض ويختفي بين اذرع الظلام والليل والنجوم البعيدة الحياة الملتبسة .كان الخارج بالنسبة لهما ، مأزقهما الخاص ، عالمان لايجمعهما غير الخوف ، عالم خارج غرفته البائسة واحلامه المبتكرة ووجودها الابدي في حياته ، وعالم داخل غرفته يحاول فيه اعادة بناء توازن الحياة داخل روحيهما ، يتلويان معا ويبكيان بصمت ، يعتصران نفسيهما حتى تفوح رائحة جسديهما، كما لو انهما سيتبرآن من عالمهما في لحظة خارج تاريخهما الشخصي ، ثم يفترقان فيلتحم الخارج بالداخل وتعشش المخاوف المتوالدة في داخليهما لينطلقا الى المجهول .اين هو . اين هي ؟ فتضا حبهما معا وغادرا زمنا من رعب وخواء ، حتى مواعيدهما كانت تحدث في لحظتها . نداء من السماء أو هكذا يخيل اليها . ان اذهبي ، الحلم في غرفته ، فتطلق عالمها كلّه دون استثناء ، وتطرق الباب بخفة ودراية ، في اللحظة التي يكون هو قد بدأ بنسيج حلم جديد من عالم الرعب الذي يتكدس في رأسه دون رحمة .رصاصة واحدة امامه وقفت ، غرست أصابعها النحيلة المرتجفة بين طيات شعره الدبقة . انكتم الصراخ في داخلها ، وتفجرت فيها احلام حياتها البائدة . كانت اصابعها تجس حرارة جسده وهي تدبي بين طيات خصلات شعره التي اعتادتها . على كرسيّه امام النافذة كان يدور في فلك خيالاته . كل شيء ساخن في جسد بلا حراك . سائل ساخن كان لا يزال يتدفق ويلون اصابعها مدّت اصابعها وراحت تعبث بتلافيف الجسد الصامت ، المشبع بالاوهام . رصاصة واحدة اخترقت وسط جبهته سمّرته في مكانه على كرسيّه الوحيد أمام نافذته الوحيدة ، مبتسما للعالم من حوله ، كان يضحك حقيقة ، وكاد ينطق ، الاّ انها أغلقت فمه المصبوغ بالدم ودفنت رأسها في حضنه وراحت في اغفاءة هادئة حين كان صوت الرصاص يلعلع من بعيد .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى