د. مصطفى احمد علي - مدائن الرمل..

لم يُمض حيث يألف سوى بعض ساعة من الزمان.. رغب أن يمضي الوقت في الحديث ومتعة الحديث فلم يظفر من نفسه إلا بخيال شارد وذهن غائب وشعور خامد. حملته قدماه إلى حيث يألف، فوجد المكان موحشاً مقفراً كأن لم يعمّر أمس وأول أمس! رغب في الجلوس في عين المقعد فلم يطاوعه جَلَده، فآثر ألا يفعل خشية أن يتداعى. صلى ركعات المغرب ثم أغمض عينيه وخطا خطواته، والأطياف لا تفتأ تلمّ به. سبح خياله عبر الحقب والآفاق إلى أطياف المعري التي كانت تؤانسه في اليقظة و المنام، وتعبر الوهاد والقفار، وتجتاز البحار والأنهار:
عجبت وقد جُزتِ الصراة رفلّة
وما خضلت مما تسربلت أذيال
أعُمت إلينا أم فعال ابن مريم
فعلت، وهل تعطى النبوة مكسال
لم تكن أطيافه كأطياف المعري، ولم تكن سعيدة باسمة كما كان يألف، بل كانت رقيقة حزينة تمتلئ حدقاتها بالدموع من فرط الرقة والتأثر. هاله الأمر، ثم ما لبث خاطره أن قاده عبر الزمان والمكان إلى وجه طفلة فرنسية كانت تخشى من فرط رقتها أن تمسّ أصابعها ثمار الخوخ..ظلّ طيف هذه الطفلة عالقاً بذاكرته، يرمز لرقة الملائكة، حتى رأى أطياف الأمس تطفر من مآقيها الدموع!
بات ساهراً، يرقب وجوهاً إلى البشاعة أقرب...وجوهاً تعجّ بها المطارات. ينتظر الطائرة الألمانية تقتلعه اقتلاعاً بعد حين من الخرطوم. رائحة الدخان، دخان السجاير، تؤذي أنفه وعينيه، وبحسّ لها، كما يهيأ له، مذاقاً لزجاً في لسانه ! شقراء وأشقر يحملان طفلاً أسود. مشاهد من حصاد الحرب المستعرة في الجنوب..حرائق ودمارٌ و قتلٌ و تشريدٌ و لجوءٌ و نزوحٌ، وفراقٌ لا عودة ولا أوبة بعده لدفء الأسرة ومتعة الانتماء! ما أتعس الإنسان وما أشقاه ! فكر في مصير الطفل الأسود ..يريدان لا شكّ، أن ينشّآه في الحضارة والمسيحية.. ما من إنسان إلا وفيه بذرة اعتداد واعتزاز بما هو فيه وما هو عليه، و شيء من عداء وجفاء لكل من يخالفه! يمتزج ماهو فيه من خواطر فكر وطوارق همّ، مع رغبة في النوم .يرغب في النوم...أن ينام كهذه الطفلة ...ترسل من رأسها ضفيرة جميلة وتحلّي معصمها بأساور من ذهب، ويحوم النعاس حول وجهها الجميل غلالة من أشعّة أو خيطاً من نور.
الطائرة معلقة بين السماء والأرض شمال أثينا.
أسى على نفسه وعلى وطنه وعلى الأيام حين تناهى إلى سمعه لحنٌ شجيّ قديمٌ كان به ولهاً قبل سنوات.
قرأ قصة (الرجل القبرصي ) للطيّب صالح. قرأ فيها قصيدة رثاء، ثمّ تذكّر ما كتب إرهاصاً، قبيل وفاة جدته قبل سنين حينما كان بباريس. مال إلى الشعر في أيامه هذه، فلم يجد فيه عزاءً. وصلته رسالة من أخته بمصر فرح بها وارتاح إلى قراءتها...ما يزال يحسّ أنه في مهبّ الريح..أمره كله موكول إلى القدر...ودّ لو أنه استسلم لغفوة طويلة، أطول ممّا هو فيها....ما أورثته الأيام إلا حسرات...يغفو خاطره ثم يفيق على ذكريات قديمة طال بها الزمان وبعد المكان...لا يفتأ يذكر...يذكر غابات الدوم ومراتع الإبل والضأن، ومسارح الطفولة، ومدائن الرمل، ومذاق ثمار تلك النبتة التي تزهر كأزهار البنفسج في وادي عريجو ..يذكر لهو رفاقه من أبناء الماهرية ..يذكر خفقات قلبه و الحياء الذي كان يملك أمره كله،...يذكر ذلك القلب المقرّح، وخفقات الشعر والأدب والفن..لا شكّ أن المكان لم يكن يتسع له ولا لذهنه، لكنه كان حييّاً، جمّ الحياء، متواضعاً! كان قلباًمعذباً رقيقاً! هلا التفتت إليه يدٌ تنتشله؟
قالت له في رسالتها: " إنت ...ال لفيت الدنيا!"...نعم هو الآن في أقصى محطات العالم...في حافّة من حوافّه القصية! ربما حواف الدنيا إن وافاه الأجل!...من يدري؟

لطالما بدت له مأساته مع الزمان في أمرين: التعلق و التحسّر؛ تعلقٌ بيوم آت وتحسّرٌ على يوم ماضٍ . حالان ، كلاهما يشدّه شدّاً ويحول بينه و بين هناءة اليوم الذي هو فيه..على أن التعلّق انطواءٌ على الأمل، والتحسّر مدعاةٌ للشجن. وهل كانت الحياة إلا مأساة تعين على وطأتها الآمال، وتأسو جراحها الأشجان؟

د. مصطفى احمد علي
فرانكفورت-بيرغن،أبريل 1989

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى