د. محمد حسن النحات - الضفة التي عانقت السحاب.. قصة قصيرة

أغلق الباب برفق يجافي إرتعاشة يده والأمواج المتلاطمة داخله، منح السكرتير ابتسامة مضطربة فيما بدا له وجهه بارداً كالقبضة التي تخنقه، شد ربطة عنقه، افتعل سعالاً، وقذ الخطى كمن يهرب من الجحيم، خلفت خطواته المسرعة عاصفةً، تولدت فقط في صدره.
جلس خلف مقود سيارته الجديدة التي تسلمها منذ شهور قليلة بعد التحاقه بذاك الجهاز السيادي، أرخى حزام بنطاله المشدود على قياس لا يناسب كرشه المتزايدة في اضطراد، أسند ظهره على المقعد وأغمض عينيه، وترك المجال لحبات العرق للتلاعب على فسحة جبهته، وأستجدى ذاكرته للبوح بسر ما حدث.
الفيديو الذي أشعله مديره لا يدع مجالاً للكذب أو الاستجداء، كان هو بقميصه الداكن ذي الأزرار اللامعة، بنطاله السماوي، حذاء الجلد الأسود الفاخر، ونظارته السوداء بدت له مضحكة عندما شاهدها على هاتف المدير، لابد أن يستبدلها، أصداء الحفل كانت تغمر المشهد بالضوضاء، صرخات الجمهور المُستثار، الموسيقى العالية، وهو في وسط المشهد يقف كعلامة استفهام، واضعاً ساعديه أمام صدره، مستنداً على الحائط الجانبي لساحة الحفل، لا أحد خلفه إلا بياض الحائط، بدا كصيد سهل بقميصه الداكن، لا مجال هنا للتمويه، عن يمينه ويساره وأمامه العشرات من الشباب يرقص، يصرخ، يتقافز، وهو ساكن كضفة لا تجاوب هدير البحر، ثم تأتي خاتمة الأغنية ( تبا للحرابة .. تبا للحرابة .. مجداً للسلام) وهنا كأحمق لا يدرى أنه مراقب، يبدأ في هزهزة رأسه، وتحريك قدميه في رقص بطئ لا يتناسب مع سرعة الايقاع، لكنه رقص في النهاية، باغته الفيديو فلم يستطع التفوه بحرف، واكتفى بغرز نظره أسفل حذائه ومديره يعنفه كتلميذ بليد أخطأ في الحساب، حاول أن يتذاكى على الرجل الصارم بأنه إنما تحرك مع كلمة الحرب، أخرسه بقوله : “ومن أمرك بالتحرك أصلاً، نفذ التعليمات فقط، أم تود اللحاق بسلفك، وهذا أول وأخر انذار”.
زفر الحيرة التي تغمره، لكم مقود سيارته مراراً دون أن يجيبه، لماذا يراقبونه؟ مهمته كانت مراقبة الأخرين، وفجأة يكتشف أنه أيضاً مُراقَب. من تراه سجل الفيديو، يتذكر تماماً ما حدث قبل يوم، أولاً راجع تصريح اقامة الحفل، ثانياً نشر رجاله الثلاثة، اثنان أمام المسرح، وثالث في المؤخرة تماماً، ثالثاً أشعل سيجاراً، رابعاً أجرى مكالمة مع خطيبته، خامساً زجَر شابة كانت تتقافز دون حجاب وصدرها يرتج في نداءٍ كارثي، سادساً ظل متسمراً متحاوماً بعينيه، سابعاً ارتفع الغناء بأغنية ( وأنا ما بجيب سيرة الجنوب *)، وعندها اهتاج الجمهور واحتضن شاب شمالي فتاة جنوبية كانت بقربه وسحت دموعهما، فرقهما مع أحد رجاله واقتادهما خارجاً وأطلق سراحهما بعد تحذيرهما، سابعاً عاد واتكأ على الحائط وحدث ما حدث.
خرج بسيارته وعقله يتجول في أحداث الحفل، أي جنون هذا، زاوية تصوير الفيديو يستحيل معها أن يلتقطها أحد رجاله، يستحيل، هل تكون الفتاة الجنوبية، أم الشاب الأقرع الذي كان يتحاوم أمامه، هذا حفله الثاني الذي يقوم بتغطيته وها هو يتراقص في بلاهة، يقال أن سلفه صمد لعامين ثم ضبط بالفعل المشين والله وحده يعلم ماذا فعلوا به. عليه مراقبة الحفل الذي مجمل أغانيه مناوئة للحكم بصورة أو بأخرى، وكتابة تقرير مفصل عن الحضور والشعارات التي ترفع، والشباب الناشط الذي يحضر، ويمكنه إيقاف الحفل متى ما استدعى الأمر، لسبب لا يعلمه كانت هذه الحفلات جاذبة للشباب، يتزايدون كالنمل ولا ينقصون أبداً، عندما أخبر بمهمته الجديدة حرص على سماع الأغاني، ومراجعة كلماتها، ومعرفة تاريخ كل أغنية، المخيف له أنه بدأ يميل إلى سماعها كثيراً، وأحياناً يرددها أثناء استحمامه، بل ضبط نفسه يغازل حبيبته بكلماتهم. يفلسفون الحياة والمواطنة والحب بطرق تستثير حفيظة رؤسائه، ولديهم كل الحق، فطالما انتهت الحفلات بمغادرة الفرقة بهدوء مخلفة وراءها صدوراً ملتهبة تظل تهتف بزوال النظام. فكر لماذا لا يغنون للحب وللجمال فقط، ويتركون أمر الوطن لمن لا تنام أعينهم ولا تؤمن بطشتهم
بعد شهر وحفلين أضيفا لآخرين غطاهما، كانت هذه الخامسة، المحفل السابق لم يتمالك نفسه وأختلس صورة في الكواليس مع أحد أعضاء الفرقة وأرسلها لخطيبته متباهياً، طوال هذا الشهر حفظ الأشعار عن ظهر قلب، وأخذت تصدح الأغاني في قلبه دون مراعاة لوضعه الوظيفي. بل تمادت وصاتت داخله في المباني الرهيبة التي يتهيب الناس المرور من أمامها. لو كان مجازاً هو طروادة فهذه الألحان هي الحصان الخشبي إلا أنه أدخلها عن رضا ولم يخدع. لكنه بالأمس استفاق، في جلسة تطبير للنفس مسح من هاتفه جميع ألحانهم، أحرق جزأه الوضيع الذي يعارك رجل الأمن داخله، عاد طاهراً من الدنس، صلداً وأصماً. وراهن نفسه على إيقاف الحفل غداً ولتعم الفوضى.
وكما قلت كان هذا حفله الخامس، ظل يتلفت كحمامة تتوق لذارّ الحَبِّ. برزوا على المسرح، فصفق الجمهور بينما تخشبت جوانحه، غنوا كأنهم يتغنون له فقط، فتضعضعت صلابته رويداً رويداً مثل سطح جليد أصابه شرخ صغير ما فتئ يكبر، ثم سكرت روحه وتأرجح عقله بين الوعي واللاوعي.
أقول دون رهبة
أقول دون زيف
أموت لا أخاف
أين متى أو كيف
مستمتعا بأنجم السماء
ليل صيف
رصاصة في القلب
أو طعنة سيف
أموت لا أخاف**
دارت به الألحان وحلقت به بعيداً، بدت له الأرض خضراء بكراً، الشمس قاربه والنيل دمه، الناس طيبون مسالمون، الحرب ترفع راية بيضاء، والفقر يتلاشى مخلفاً أطفالاً سمراً ببطون شبعى وعيون ذكية، الخير سحابة وديعة تظلل البلاد بطولها وعرضها، والملك لله الرحيم وحده، لابد أنه ثمل، لابد أن صوابه قد طاش، عدا أو عدت به قدماه فهو لم يكن هنا، اعتلى المسرح، خلع قميصه القاتم ورقص، رقص كمن يعوض ما فاته من بهجة، كمن أخبر أنها رقصته الأخيرة، رقص كدرويش مجذوب بخيط رفيع لا يرى إلى السماء السابعة.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مقطع من قصيدة ( طواقي الخوف) للشاعر السوداني محمد طه القدال
**مقطع من قصيدة للشاعر السوداني محجوب شريف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى