ياسين طه حافظ - العراقي بحاجة إلى ألف ليلة وليلة..

ليس المثقف في العراق استثناء ممن في شرق اسيا الصفراء أو افريقيا «السوداء». هو مثلهم في الخوف واللارضا وترقب المداهمة أو الخبر السيئ نصف الليل أو في رابعة النهار. فإذا هدأت أياما وقال الحمد لله، اعتكر الجو ثانية. وبدلا من الحلول، لا يجدون الا هذا المثقف، فتبدأ: يجب ان يدافع عن الحرية، يجب ان يسهم في الدفاع عن حقوق الانسان ويجب ان يكون في أول الصفوف في المقاومة والرفض ويجب ان يشارك بقلمه وفكره بتوعية الناس بالاخطار.. واخيرا يجب ان يقدر ظروف الدولة ولا يطالب الان بشيء!.فاذا منَّ الله عليه وأراد السفر، بدأت كراهات العالم له. دول العالم لا تريده فقد يكون ارهابيا وقد يكون مطلوبا للعدالة وقد يفر لاجئا! واذا قيل ثمة امل في السفارة الفلانية، فهذه الفلانية في الخضراء، واين هي الخضراء ونحن نعيش في الرقطاء؟ حسنا، وفّرْ عليك المراجعات وعدم الاحترام والانتظارات و»اقعد مكانك انت الطاعم الكاسي..».هكذا واكملت احتياجات مكتبتي فحسّنت تبريدها بجهاز جديد وجعلتها غرفة مريحة و»مخدومة» فلا حر ولا ظمأ. ازحت كتباً عن مكتبي وسحبت من الرف مجلدات الف ليلة وليلة باغلفتها أو بثيباها الوردية.. وفي ظل بارد مبرد وصلت الليلة 495 من الليالي الالف وليلة .. إليك ما قرأت (بلغة الكتاب) في طبعته الشعبية التي افضلها:
«.. دخل القصر وطلع على التخت المنصوب على الليوان بجانب الفسقية ودخل الخيمة المنصوبة فوقه ونام في تلك الخيمة الحريرية.
ثم افاق وقام يتمشى حتى خرج من باب القصر وجلس على كرسي قدام باب القصر وهو يتعجب من حسن ما يرى ومن جمال ذلك المكان. وبينما هو جالس «اقبل» عليه من الجو ثلاثة طيور في صفة الحمائم و»حطوا» بجانب البحيرة ولعبوا ساعة وبعد ذلك نزعوا ما عليهم من ريش «فصاروا» ثلاث بنات كانهن الاقمار ثم نزلن إلى البحيرة وسبحن فيها ولعبن وضحكن. و»جاتشاه» (الذي هو انا ياسين..) ينظر لهن. فلما طلعن إلى البر في غاية الحسن والجمال وقد واعتدال، كاد عقله يذهب واذا هممن، هم عقله معهن بالارتحال، وقام على قدميه وتمشى حتى وصل اليهن. سلم عليهن فرددن السلام ثم سألهن: من انتن ايتها السيدات «الفاخرات» ومن اين اقبلتن؟ فقالت الصغيرة نحن اتينا من ملكوت الله لنتفرج في هذا المكان. فتعجب من حسنهن وما عاد يقوى. وقال للصغيرة ارحميني وراح مغرما ينشد الاشعار (حاله حالنا حين نرى جميلة، تلعب بطروگنا، ونبقى نهرف شعرا).فلما سمع البنات هذا الشعر ضحكن ولعبن وغنين وجاء لهن جانشاه بشيء من الفواكه فاكلن وشربن ونمن مع جانشاه تلك الليلة حتى الصباح. فلما اصبح الصباح لبسن ثيابهن الريش وصرن في هيأة الحمام وطرن ذاهبات..» وطبعا ذهبت معهن خالبةُ اللب وضاعت اللهفة والخدمات والاشعار …والان اقول: قرون مضت، ما استطاعت حسم منغصاتنا ولا وجدنا حلولا لحرماناتنا. فنحن نفكر بالاسفار لنجد بلادا اخرى ولنرى جمالا وعيشا ولا نزال نقرأ روايات أو نشاهد افلاما لنعيش حياة غير حياتنا ولنصحب البطل وهو ينتصر او هو يعانق حبيبته ويرقص ويشرب حرا والعالم بين يديه.. فلا تقل الان ما لهذا الرجل يترك ثقافة العصر وكتبه العظيمة ليعود مثل صبي إلى الف ليلة وليلة.. اقول لك. بعد قرن سنظل بحاجة إلى مثل الف ليلة وليلة نجد فيها ما يحررنا من عوزنا ويحمينا وينقذنا ساعة من الموت ومن الطاحونة الرثة التي تأكل حياتنا وتظل الكتب والأحلام والأفلام بدائل حياة.وهذا ياسيدي ليس عوزا طارئا. هو بعيد الجذور ألفناه فصرنا مهرة في رسم ما نتمنى وما نشتهي وما نريد الوصول اليه.الف ليلة وليلة ذخيرة عون وكنز معوزين قبل ان يكون كتاب لطف عابر وحكايات. هو بديل احتاجت له اجيال وما نزال نحن نلوذ به ونشحذ منه ساعات فرح أو فرصة لهو في بستان أو حظوة بحسناء تتعرى ونحن من وراء الاشجار مختبئين نرى حتى تكتمل السعادة أو تكتمل الاقاصيص…السؤال الان: لماذا لا يعترف مثقفنا ببؤسه وبيننا الكاتب الذي يسترضي ليعيش ويدّعي ليزهو وهاوي الفنون الذي لا يستطيع شراء لوحة والعاشق بائسا يتضوّر؟ حسنا، انتم خَجِلون من واقعكم وتمشون احيانا طواويس. انزعوا ريشكم ولتكن العطلة القادمة مع ألف ليلة وليلة، لتمسح متعتُها، مرارةَ العمل والسياسة والحسرة على ما نفتقده اليوم وما نتحسر عليه غدا…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى