زكية الضيفاوي - المُتشردة والنّمل

زكية الضيفاوي.jpg

داهمها الجوع ولم يكن لديها غير رغيف خبز لا تذكر كم مر عليه من الزمن.. فكرت فيه بشهيّة، منّت النفس به كثيرا، ولما أقدمت على التهامه اكتشفت أن النمل قد أحاط به من كل جانب حتى أصبح منظره مقرفا جدا، ترددت كثيرا قبل تناوله لكن الجوع استبد بها فبدأت تتصيد الحيل لإقناع نفسها بصلاحيته، تاهت بعض الوقت وتذكرت نصيحة الجدة "النمل لا يقترب أبدا من الأشياء التي قد تكون مسمومة".
لم تكن تصدق مثل هذه الخرافات، بل كانت تنتقدها دائما وتستهزئ من الجدة وسذاجة أفكارها: كيف تستطيع التمييز بين الحشرات؟ لماذا تريد أن تقنعها أن العقرب وحدها حشرة مفعمة بالسم؟ وكيف تكون النملة التي تزحف معها على نفس التربة وتسكن معها نفس المغارات وتتغذى مثلها بما تختزنه التربة من غذاء غير مسمومة؟ .. كيفيّات كثيرة لم تعد تهمها والجوع ينخر أمعاءها ولا بد من طرده، وفي لحظة من لحظات شرودها انقضّت على رغيف الخبز تنفضه والنمل يتساقط منه كما تسّاقط أوراق الخريف أمام هبة نسيم تلامس الغصن اليابس. و دون تفكير التهمت الرغيف وأعقبته بكأس ماء دون التأكد من نظافة الكأس، لعلها لم تعد تعرف أنها قد سكبت الماء لحظتها أم أنه هو الآخر قد التقط بعض الجراثيم لأنه قد يكون سكب في الكأس منذ أيام.. لم يعد مجديا الآن أن تفكر في مثل هذه المواضيع فقد بدأ الليل ينسحب وعليها أن تنام قليلا علها تستطيع في الغد القيام بجولتها العادية في شوارع المدينة البائسة تتدبر بعض المليمات.
عادت إلى فراشها الرث مستسلمة لشبه إغفاءة لم تعرفها من قبل قط، تمددت مكرهة، وبدأت الكوابيس، ربما تكون أضغاث أحلام، أو نوبة هذيان تملكتها من طول ما طافت بأفكارها في ضيق دنياها المغلقة الأبواب وما طغى عليها من لون رمادي كانت تنبذه إلى حد الحقد.
رأت أول ما رأت صراعا مريرا بين سرب من النمل وعقرب ضخم بين الأسود والأصفر لا يضاهي سرب النمل بكامله شوكتها المُعقّفة المحشوة سما، بقيت ترقب المشهد في غبطة متلهفة لمعرفة من سينتصر في النهاية.
بدأ النمل يقترب من العقرب من كل صوب يتحين الفرص للالتصاق بها، كل واحدة من جهة، وأخذت العقرب تضرب بشوكتها كالمجنون يمينا وشمالا على أمل أن تصيب في كل مرة أكثر من نملة دون جدوى إذ كانت الشوكة تنغمس في كل مرة في التراب فيذهب سمها هدرا، وتكاثف زحف النمل على جسمها الذي بدأ ينهار، وشيئا فشيئا استسلم الجسد الضخم حتى غطاه النمل بلونه الأحمر فلم يعد يبرز منه شيء، تمددت العقرب مستسلمة وبدأ النمل ينهشها كذئب مفترس تحصل على فريسته بعد أيام من الجوع، وانسابت مياه صفراء لزجة أخذ النمل يلعقها ويتضخم ولم ينتهي الكابوس إلا وقد اندثر جسم العقرب تماما ورقص النمل متباهيا بالانتصار.
أفاقت المتشردة وقد انتشت هي الأخرى بالفرجة، واكتملت نشوتها إذ رأت نفسها تنتصر على النمل وتفتك منه الرغيف اليابس تسكت به الجوع، لكن سرعان ما تملكها الرعب، وأحست بشيء من الألم يسري في أمعائها ثم في كامل جسمها.. وعادت إلى غفوتها، فإذا النمل يهاجمها يلتصق بكل نقطة من جسدها حتى غطّاها تماما، أرادت أن تقاوم فلم تجد لها شوكة كما العقرب، حاولت أن تنتفض فلم تفلح، وإذا بقواها تخونها فتعجز عن الحراك، ولم تجد نفسها قادرة إلا على الأنين بصوت عال.. ثم أختلط صوتها بأصوات أخرى لم تعد تفهمها وضاع في الضجيج..ولم تستفق ثانية إلا على صوت الطبيب يهنئها "مبروك لقد نجوت بأعجوبة من حالة تسمم حادة".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى