صابر رشدي - غرفة أعلى البناية.. قصة قصيرة

زحام وصخب وتفاهات يومية تمتصّ من العمر، وتجعل مرور الزمن أمراً مقضيًّاً، تتشابه فيها الساعات وهي تتضافر بكل ما هو سخيف وسطحي، هي أشياء كابية، إحباطات لا حصر لها، جعلته يبحث عن ركن يأوي إليه، يعيش داخله لحظات من التأمُّل والنظر إلى الداخل، إلى الجوهر المطمور تحت ركام من التفاصيل، يريد أن ينجو من هذا الجو الذي لا يدع له فرصة لالتقاط أنفاسه، الهروب من الضجيج المحبَّب للأبناء، وثرثرات الأصدقاء عبر الهاتف والعمل والمقاهي.
لا غرابة -إذاً- في رغبته الملحّة في الانفراد بالشخص الوحيد الذي يعرفه جيداً، ويقاسمه أفكاره، يعيش معه لحظات مسكونة بالهدوء والظل، الرغبة الملحّة في نسيان العالم قليلاً.
من أجل ذلك قرَّر اللجوء إلى صاحب البناية التي يقطنها؛ طالباً تأجيره الغرفة الصغيرة التي تعلوها، حَدَّثه عن رغبته في تحويلها إلى مكتب صغير يتيح له العمل في جوّ هادىء.
بعد الاسترسال في حديث طويل، شابَهُ القلق على مجريات الأمور والاشتراك في الهموم نفسها تقريباً. وافق المالك على الفور مؤيِّداً فكرته ومثنياً عليها؛ فهو مثقَّف قديم شغلته الظروف والأعمال التجارية عن مواصلة قراءاته.
- معك حق، الحياة أصبحت حادّة وعنيفة، وتشابكت فيها الأمور، وصارت أكثر تعقيداً.
قال الرجل. ثم أضاف بنبرة متحسِّرة تشي بحنين عميق إلى الماضي:
- هي لك.
عند هذه اللحظة صار الساكنَ الوحيدَ الذي لديه مفتاحان إضافيان: الأول لباب سطح البناية، والثاني للغرفة الوحيدة فيه.
قام في الحال بتنظيف الغرفة وطلائها وتأثيثها ببعض الأشياء البسيطة: مكتب صغير، وكرسي وحيد، وسرير يسع شخصاً واحداً، ومكتبة لا تحتوي إلا بعض الكتب المهمّة، ولا شيء آخر من الأجهزة الحديثة. كان يريدها خلوة صغيرة، صومعة في أعلى نقطة ممكنة، تبتعد به عن الاهتمام الكثيف بالآني وطابعه الذي لم يعد يُحتَمَل، كان يتطلعَّ إلى انطلاق الروح في الملكوت وانفصال العقلي عن الواقعي قليلاً؛ حتى يستردّ ما تبقّى من إنسانيته قبل انطفاء هذه الروح إلى الأبد.
انخرط سريعاً في استكمال مشروعاته المؤجَّلة التي توشك على النسيان، نافضاً الغبار عن كثير من أحلامه القديمة ومستعيداً بعض الموضوعات المُحَبَّبة إلى قلبه.
كان يشعر بالخفّة وسعة الصدر كلما استغرق في العمل بعد أن قام بتخصيص ساعات كاملة للصعود، كانت تزداد يوماً بعد يوم.
كانت مساحة الفراغ أمام الغرفة هائلة وكبيرة الاتّساع، فهي بحجم البناية، فراغ كان يقوم بتشكيله بمزاج رائق، تارة يتخيّله حديقة وارفة، تترامى أمام عينيه وهي تغصّ بالزهر والياسمين والورد الملوَّن، أو سجّادة خضراء تغطّي السطح بأكمله، يتأمَّل نقوشها، وهو يكاد يسمع هسيس المصلّين فوقها وصدى الترتيل، أحياناً يرى صفحة مياه صافية تعكس لون السماء، وتنبسط أمامه من غير أمواج هادرة، لها وشوشة خفيضة، ويعلوها زبد أبيض، بحيرة صغيرة لا ينقصها غير زورق جميل يحمل قلبين مفعمين بالسعادة والحبّ الجارف.
كان يشعر عند هبوطه عائداً إلى الفوضى والضجيج أن ما يجب عمله حقاً هو مكوثه في الغرفة، والاندماج في هذا العالم الفريد، كبديل نوراني يمنحه لحظات موسومة بالرضا والسكون، لقد أمضى شهوراً طويلة مستغرقاً في أفكار جديدة مستمتعاً وراضياً عن أحلامه؛ حتى انقطع فجأة وبلا مقدِّمات، متكاسلاً عن الصعود يوماً بعد يوم، مهملاً الأمر برمَّته إلى أن جاء يوم قام ابنه الصغير بتذكيره بهذا الانقطاع:
بابا لماذا توقَّفت عن الصعود؟
لم يحر جواباً أمام هذا السؤال، ظل ساكناً يفتِّش عن الأسباب.
- بابا أريد رؤية الغرفة.
ردّ ضاحكاً:
لماذا؟
- لأرى أصدقائي.
قال متعجّباً:
لا يوجد أحد في هذا المكان.
قال الصبي بلهجة جادة :
إنهم في الغرفة ينتظرون صعودي.
أمام هذا الإصرار الطفولي والنبرة الواثقة؛ اضطر إلى الاستجابة والصعود معه.
للوهلة الأولى، أذهلته نظافة الغرفة وهواؤها النقي، أذهله بريق أشيائها البسيطة، فهي لم تكن بهذا الألق الرائع من قبل، كان يتوقَّع ركاماً من الغبار يغطّي معالمها، ويفترش أرضيَّتها المهملة؛ لكنه وجد شيئاً آخر خارج توقُّعاته؛ غرفة أخرى تتلألأ جدرانها ويضوّي كل شيء فيها، تطلَّع إلى الصبي؛ وجده سعيداً ومبتهجاً.
- إنهم يقومون بتنظيفها كل يوم تقريباً.
كان يخاطب أباه دون أن ينظر إليه.
تابع الرجل نظرات السعادة في عينيه، ثم قال مازحاً:
هل لدى أصدقائك عطر جميل؟
- أكيد.
في ثوانٍ قليلة تناثر عطره المفضل في جوّ الغرفة، ولكن بلمسة ملائكية هذه المرة.
- هل تريد المزيد؟.
قالها الصبي وهو يفتح حقيبة صغيرة محمَّلة بالبسكويت والشوكولاتة والمياه المثلَّجة كان قد أحضرها معه، ثم واصل كلامه:
أريد إطعامهم.
قال الأب في دهشة:
أين هم؟
استغرق الولد في ضحك بريء.
- إنهم يطلبون منك الخروج والمكوث قليلاً في الحديقة.
- أي حديقة؟
- حديقتك.
كانت لحظات عصيبة جعلته يشعر بالرهبة، ويحدِّق في ابنه طويلاً، كأنه يراه للمرة الأولى، كان الولد يزداد بهاءً وهو مستغرق في شؤونه.
- لحظات قليلة، ثم عُدْ.
بالكاد استمع إليه وهو يأمره بابتسامة وضيئة؛ فانسحب في الحال مأخوذاً بصمت لا إرادي ومشاعر مبهمة، داهمته الخضرة عند الخروج، لم يكن هناك سطوح؛ بل حديقة يانعة ومُنَدّاة؛ تحمل العبير نفسه الذي خَلَّفه وراءه منذ ثوانٍ قليلة.
تقدَّم بضع خطوات؛ فوجد أريكة خشبية تتوسَّط حوضاً من الورد، اتَّجه إليها قاصداً الجلوس برأسٍ تمورُ بالتفكير، كان رهين التردُّد، تتملَّكه رغبة جارفة في العودة، ولكنه يخشى خطورة الانسياق وراء الفضول ووراء هذه الإرادة الميتافيزيقية لاكتشاف المجهول واللامرئي، كان قلقاً على الولد، ولكنه في النهاية ترك الأمور تمضي، وبحث عن أفضل صيغة للاستكانة والهدوء حتى تمرّ هذه اللحظات بلا قلق.
- بابا.
انتبه على الصوت، كان الصغير ينتظره أمام الغرفة، فنهض إليه مسرعاً، تناول الصبي يده وأشار إلى المكتب.
- ما رأيك؟
كانت هناك يمامتان بيضاوان تضوّيان على نحو غير مألوف، تتطلَّعان إليه قليلاً بجانبي رأسيهما، ثم أخذتا تستكملان التقاط طعامهما في هدوء وتناغم مذهلين.
- ما أجملهما!
قالها في نفسه، ثم خاطب ابنه بعدها:
من أين جئت بهذه الطيور التي تأكل الشوكولاتة والبسكويت، وتشرب ماءً مثلَّجاً؟
ردَّ الصبي متعجِّباً:
بابا.. أين هذه الطيور؟
ثم أردف بنبرة صادقة:
- إنهما صديقاي، وهما يحبّان الملابس البيضاء.
ثم ذكر له أجمل اسمين يمكن إطلاقهما على ولد وبنت.
في هذه اللحظة، بدأ الرجل يربط بين كثير من الأفكار الشاردة وبين ما يراه الآن بعين الحقيقة؛ فلم يحاول استدراج ولده إلى اختبار شفاهي ليستطلع من خلاله أي درجة وصل إليها في هذه المعارف البعيدة، والأشياء غير المدركة، بل دارت في ذهنه عوالم أخرى وقليل من التفاصيل الشبيهة التي سمع بها، فلم يجد أمامه غير الاحتفاظ بما يجري سرًّاً، وكتمانه عن البشر؛ حتى لا يخبو هذا النور الساطع، وتختفي من حياتهم الإشراقات البهيّة إلى الأبد.
------‐----------------------------

2- شهادة أدبية
"لكي تكون كاتبا"

لكي تكون كاتبا، في الزمن الحالي، لابد أن تتريث قليلا، وتبحث لنفسك عن وسيلة ناجعة – لا تتوافر بسهولة -إنها الإجادة، الشيء الوحيد، الذى يسعفك، ويمنحك جواز المرور فى هذا الزحام، مبتعدا بك عن مخاطر الفشل،
يحدث ذلك-غالبا- في لحظة استبصار، في أثناء ترددك حيال هذا العالم المدهش الذي تريد طرق أبوابه .
النشر، لم يكن بتلك السهولة التى يتصورها الآخرون، استمر هاجسه معي فترة طويلة، كنت لا أكف خلالها عن جلب الكتب إلى بيتي، والكتابة الكسولة أحيانًا، لكن تحرّجي وخجلي أمام أبنائي، وهم يرون مكتبتي تتضخم يوما بعد يوم، وليس لي كتاب واحد على أحد الرفوف، شعور جعلني أفكر في إنهاء تلك المسألة، أو التوقف عن القراءة واقتناء الكتب. نشرت قصصاً ومقالات متفرقة، على مدى سنوات، لكنى كنت أتهيب إصدار كتاب، فالأمر أكثر قداسة من وجهة نظري، وما أفعله قد يكون اقتحاما لا مبرر له، لكنني أصررت أنه لا راحة لي قبل إصدار مجموعة قصصية أو رواية، من تلك الأعمال الحبيسة، كانت رغبة ذات طبيعة مزدوجة ولا مبالية أحيانا.
أكتب وفي يقيني بأن لا شيء ينبغي تركه خارج الأدب، وأن المرء في كل ما يكتب، لا يكتب سوى عن ذاته، حتى وهو يتأمل الاخرين، ويرصد تصرفاتهم تجاه الحياة والوجود، يفعل ذلك على نحو براغماتي، ثم يلجأ إلى تكنيكات فنية بعدها متحدياً قدراته. يأخذني التحليل المركب للعالم الداخلي لأبطالي، تسليط الضوء على نقاط التحول عند البشر، وربط ذلك بالواقع الجماعي، فثمة التباسات في هذا العالم، معظمها غرائبي، ويحتاج الى إماطة اللثام عن أحاجيه وألغازه، حتى لو تم ذلك عبر التلصص على أفكار البشر والسطو على أسرار السحر والكيمياء والتعاويذ الجالبة للدهشة والسعادة، كي يسعفني الوقت لتلبية طموحاتي.
ربما وجد الآخرون ملامح سرد روائي في قصصي القصيرة، وهذا حقيقي، ولكني تضامنا مع كل القضايا الخاسرة، والأنواع الأدبية المظلومة، بدأت بمجموعة قصصية تكريما لهذا الفن الجميل، الذي أحببته، متحديا محاولات إقصائه لصالح الرواية، وحالة الهوس الصارخ بها، التي ضربت الثقافة العربية في العمق .
أخيرا، السرد لا يحل مشكلة، ولكنه يفعل ما هو أكثر، إنه يحقق إنسانيتنا ويؤكد انتماءنا إلى هذه الأرض.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى