أحمد بوزفور - الضمائر تلعب

يدخل الضميرُ المنفصل (هم) إلى ملعب الشعر وَسْطَ جماهير الكلمات الأخرى، فلا يكاد يَتَـبَـيَّنُه، أو يهتم به، أحدٌ من القراء، ومع أنه ليس الضميرَ المنفصلَ (أنا)، الذي يدور حوله الشعراءُ كالمجوس حول النار، وليس الضميرَ المنفصلَ (هو) الذي يدور حوله الصُّوفيةُ كالحُجَّاج حول الكعبة، وليس ضميرَ المخاطبة المنفصل (أنتِ)، الذي يدور حوله العشاقُ مثل: (عَذَارَى دُوَارٍ في خشوعٍ مُبَتَّلِ )، بل هو فقط (هم)، مجرد ضمير، وهو تحت ذلك ضمير جمع لا إفراد، وهو تُحَيْتَ التَّحْتِ ضميرُ غيبة لا شهادة.
مع ذلك كله، فإنَّ الضمير (هم)، حين يلتقطه، كاللُّقطة، مَهَرَةُ المدرِّبين من الشعراء، ويُدخلونه، فوق ذلك، إلى الملعب مع اللاعبين لا مع المتفرجين، ويُلبسونه، فوق الفوق، قميصَ الرقم 10، فإنه يفعل الأفاعيلَ في التركيب والدلالة والأثر.
وتذوَّقوا معي (والشعرُ لا يُبطل الصيام)، هذه المراوغات الجميلة التي لعبها هذا الضمير (الشُّويْطِنُ) في نصوص خاصة:

1- في معرض الحب.
يقول المَرَّارُ العَدَويّ، وهو شاعر إسلامي من معاصري الفرزدق وجرير:
لَمْ أَلْقَ بعدهُمُ حَيّاً، فأَخْبُرَهُمْ * إلَّا يزيدُهُمُ حُبا إليَّ (هُمُ)
في الشطر الأخير من البيت يَرِدُ الضمير (هم) مرتين: في المرة الأولى مفعولا للفعل: (يزيد)، وفي المرة الثانية فاعلا للفعل نفسه، فاعجبوا معي لهذا الفاعل المفعول، وهو، في قلب ذلك، لا يفعل (ولا يتلقَّى) إلا الحبَّ، أو الزيادةَ في الحب، ألا ترون معي كف أصبح هذا الضميرُ المغمورُ (هم)، يوسُفيَّ الصورة في البيت، تكاد الكلماتُ، من حوله، يُقَطِّعْنَ أيديَهنَّ، ويقلن: حاشَ لله، ما هذا ضميرا، إِنْ هذا إلا نبعُ جمال.
وقد أُعجب بهذا البيت -على انتقاد النحاة له- شعراءُ كثيرون، أفلم يكن صريعُ الغواني مسلمُ بن الوليد ينظر إلى بيت المرَّار حين قال:
ويَرجعني إليك، إذا نأتْ بي * دياري عنك، تجربةُ الرجالِ

أولم يكن أبو العتاهية ينظر إليه حين قال:
بلوتُ رجالا بعده في إخائهمْ * فما ازددتُ إلا رغبةً في إخائهِ

2- في معرض العَداء.
يقول أبو خراش الهذلي:
رَفَوْني وقالوا: يا خُوَيْلِد، لا تُرَعْ * فقلت، وأنكرتُ الوجوهَ: هُمُ.. هُمُ
كان أبو خراش شاعرا صعلوكا وكان كأغلب الصعاليك عَدَّاءً، ولم يكن، إذا عَدَا، لتدركَه الخيلُ، أو تلحقَهُ السهام، ولو كان فيها سهمُ أبي حية النميري الذي قال عنه صاحبه، وأَطْرَف: (عَنَّ لي ظبيٌ يوما، فرميتُه، فراغ عن سهمي، فراغ السهمُ وراءه، وما زال، والله، الظبيُ يروغُ والسهمُ يعارضُه، حتى أصابه)، وقد اشتهر سهمُ النميري حتى قال عنه ابنُ نباتة، وأظرف:
وبديعِ الجمالِ لم ير طَرْفي * مثلَ أعطافه، ولا طَرْفُ غيري
كلما حِدْتُ عن هواهُ أتاني * سهمُ ألحاظه كسهم النُّمَيْري
يروي السكري في شرح أشعار الهذليين: أن أبا خراش الهذلي مرَّ في طريقه برجال من أعدائه، فسلم، فردوا عليه السلام، فقال: ممن أنتم؟ قالوا: إخوتُك وبنو عمك، فتباعد منهم، فهمُّوا به، فعدا، وعدوا وراءه، فأعجزهم، وقال في ذلك قصيدة منها هذا البيت: (رَفوني وقالوا يا خويلد...).
وروى العسكري في كتاب التصحيف والتحريف: أن رجلا سأل الأصمعي عن بيت أبي خراش هذا، وقرأه على الأصمعي: (رقوني) بالقاف، فقال له الأصمعي: ما معنى رقوني؟ قال الرجل: رقوه بالكلام، فقال الأصمعي (متعجبا أو ساخرا): يُصَحِّفُ ويُفسر التصحيف، إنما هو: رفوني بالفاء، من: رفأتُ الثوب إذا ضممته، ورفأت الخائف إذا سكَّنته، وأزال الشاعرُ الهمزة.
وخويلد اسم الشاعر أبي خراش، و( لا تُرَعْ ) أي لا يحصل لك روع أو خوف، وجملة (أنكرتُ الوجوه) حالية، وقد حذف الشاعر الأداة (قد)، مع أنها لازمة لكي يدل الماضي في الجملة على الحال، ولم يحذفها لضرورة الشعر، ولكنه تركها لتقدير القارئ، وأحسبه حذفها لأنه لم يتحقق من وجوه أعدائه، فلم يعرفهم حق المعرفة ولا أنكرهم حق الإنكار (وقد مع الماضي تفيد التحقيق) والشاعر متردد في أول البيت، ولكنه يحاول أن يُقنع نفسَه في آخر البيت بترديد هذا الضمير (الشقي): هُمُ هُمُ.
وهذه الطريقة في الخطاب الشعري: (أن يُطلعنا الشاعر على مطبخه الداخلي قبل أن يُنضج الوجبة) طريقة حديثة، فقد كان الشعراء قديما لا يقولون الشعر حتى يعرفوا ما يقولون ويتحققوا منه، بينما يُدخلنا أبو خراش من النافذة إلى ذهنه المتردد وهو يتهيأ ليقول الشعر، إنه يفكر شعرا ويتردد شعرا ثم يقول شعرا، وكل ذلك أسهم فيه حذفُ (قد)، وأسهم فيه، بالقْدْحِ المُعَلَّى، هذا الضميرُ الشويطن: (هُم)، وهو يتقافز في آخر البيت.

3- في معرض العتاب.
وقال المتنبي يعاتب سيف الدولة:
إذا ترحَّلتَ عن قومٍ، وقد قَدَرُوا * أنْ لا تفارقَهُمْ، فالراحلون (هُمُ)
يفسر شراح المتنبي هذا البيت ببيت قبله، (والضَّمِير، في قوله: تركن، يعود على الإبل التي يفكر الشاعر في الرحيل عليها):
لئنْ تركن (ضُمَيراً) عن ميامننا** ليحدُثَــنَّ لمن ودعتُــهُمْ نـدمُ
و(ضُمَير) جبل قرب دمشق على طريق الراحل من الشام إلى مصر، فيرى الشراحُ أن الشاعر يهدد بعزمه على الفراق ويُقيم العذرَ فيه، وهو شرح يليق ب (فهم الراحلون)، وليس ب (فالراحلون هُمُ)، أما أنا فأزعم أن تفسير البيت يمكن أن يعين عليه بيتٌ آخر بعده، وهو قوله:
هذا عتابك إلا أنه مِـقَةٌ** قد ضُمِّنَ الدُّرَّ إلا أنه كَلِمُ
وأحس في بيت (إذا ترحلت...) بهذه المِقة، أو الحب، وأحس فيها بكثير من مرارة الحب من طرف واحد:
فلو كان ما بي من حبيب مقنَّعٍ * عذرتُ، ولكن من حبيب مُعَمَّمِ
رمى واتقى رميي، ومِنْ دون ما اتقى * هوىً كاسرٌ كفي وقوسي وأسهُمي
وحب الشعراء للملوك دائما من طرف واحد، كحب أبي نواس للأمين، وقد رفعه الأمينُ إلى مستوى النديم، ولكن، كما يقول أبو نواس: (مَنْ يشربُ الرَّاحَ مع التِّنِّينِ في الصَّيفِ؟)، وكحب ابن عمار للمعتمد، فأي حب؟ وأي مصير؟. نعم. لا يرحل الشعراء عن الملوك، بل الملوك هم الذين يرحلون. قد يرحل الشعراءُ بالنوق أو بالسيارات، أما الملوك فيرحلون بقلوبهم، و( صدُّ المَلول خلافُ صدِّ العاتبِ) كما يقول الجميل العباس بن الأحنف.
أحس أن ذلك هو ما يقصده المتنبي بقوله: (فالراحلون هُمُ)، وكم في هذه ال(هُمُ)، (الصغيرة حجما، والكبيرة شحنةً، كأنها قلبُ عاشق مرفوض)، من المرارة والحب المستحيل.
ولكن البيتَ ارتفع فوق المتنبي وسيف الدولة الآن، وأصبح مثلا للعشاق الخائبين الذين رحلوا بأجسامهم، وبقيت قلوبُهم مع (ظالمِ الحسن شهيِّ الكبرياء)، مع الذين رحلوا قلوبَهم، فبَقُوا جوفاً بدون قلوب.
أعلى