محمد العرادي - الحدث التافه الذي تسبب بوقائع رهيبة في حياة السيد ع . م

الحدث الرهيب

– 1 –
كان الأب العفن، المتصلب، الخراء، الرجعي، الذي يعتقد أنه يمتلكنا، ابن الكلب، الشكاك، الحقير، الذي لا يفهم الحياة، ابن الـ*** الوضيع، الذي يشبه البصاق، المتوجس … إلخ إلخ، كان جالساً على طاولة الطعام عندما انفجرت الأمور. بالنسبة لابن السيد ع . م كل هذه الشتائم مجرد أوصاف ولا يمكن وضعها في قائمة الشتائم. إلا أنني لا أقبلها بحق السيد ع . م والذي يتمتع بمكانه معقولة في المجال العام، وإن كنت أقر ببعض هذه الشتائم ويمكن أن نختصر الموضوع ونقول أن السيد ع شخص بغيض، لكنه ليس بهذا السوء الظاهر في شتائم الابن. ولا أجد مبررا لهذه الشتائم إلا في سياق العلاقة التعيسة بين السيد ع وابنه، فلا يوجد على أي حال شخص يشبه البصاق، أو ابن كلب أو خراء ولا يمكن أن تكون هذه الألفاظ أوصاف متعلقة بشخص وإن كان الموضوع لا يتجاوز التعبير اللغوي. إنما هي أحكام لها دوافع نفسية لا واعية يؤكدها تنبه معين تجاه القضايا. عندما تكره شخصا يكون لديك تنبه تجاه أخطائه وتجاه أفعاله التي تبرر لك هذا الكره: أها أنظري يا نفسي كيف يشير بيده اليسرى بسرعة وهو يحادثني؟ أوه لماذا يضخم حرف الراء إلى هذا الحد وهو ينادي اسمي؟ وهذا التنبه هو من يهمل كل فعل خيّر في علاقتك مع الشخص المكروه.

– 2 –
إنه لجنون خالص أن أصرح باسم السيد ع . م وربما لو جننت وفعلت ذلك لوجدت نفسي مهددا بالقتل، لأن هذه القضايا متعلقة بأمور عالية الحساسية، وانكشاف مثل هذه القضايا يحمل الأسرة لعنة لا تنتهي. وتعرفون كيف تسير الأمور في مجتمعنا حيال المواضيع التي تميل لكونها مواضيع فضائحية. والأمر الأهم والذي فكرت به كثيراً موقف السيد ع . م أمام المجال العام، وهو الذي يهتم أن يظهر بصورة منضبطة تجسد الإنسان الذي لم يجرب السوء في حياته كلها. لقد أقام حياته كلها على الإخلاص لهذه الصورة بشكل وسواسي. ويمكن أن نختصر الموضوع ونقول أنه كان عبداً للمجال العام، يفني حياته في الإلتزام بما ينتظره المجال العام من شخص لم يجرب السوء أبداً. متدين، موظف مخلص ونزيه، أب مهتم بتربيته أبنائه، كريم بطبيعة الحال، إذا ما صفعه أحدهم أدار له الخد الآخر، لا يعرف التحايل أو المخادعة، في بعض المواقف يكون وطنيا، ومن هذه الأمور المزيفة. ورجل بهذا الجنون ربما يقتلني إن عرف أنني كتبت عنه بهذا السوء الذي يسحق كل خيالاته المرضية. ولا شك أن المجال العام يشكل ضغطاً رهيباً على الأفراد، فلا يعترف بهم إلا بعد أن يتشكلوا بالطريقة التي ينتظرها منهم، وهذا -بزعمي- ما كان يبقي الابن – سوف أرمز له بالحرف E – غير قادر على مواجهة الأب، أو التفوه بهذه الشتائم أو الأوصاف أمام أي أحد حتى أمام نفسه، فهو لا يقولها إلا في خياله الذي طالما استخدمه في الأوقات المريرة لينتقم من الأب. وهو الذي يعرف أنه يقوم بفعل مشين بالنسبة للمجال العام، الأقارب الأصدقاء الجيران المحرر الصحفي سائق التكسي …الخ لن يتفهمه أحد مهما حاول توضيح مقدار البؤس الذي يسببه له هذا الأب بشكل يومي. والأكيد أنهم سيحتقرونه ويعتقدون أنه ابن سيئ، ولسوف يعاملونه معاملة لا يصبر عليها، وربما تطور الأمر واقتادوه للمحكمة لمحاكمته بتهمة العقوق. كما أن تدينه البسيط والذي يصبره على هذا الوضع يمنعه من أن يظهر أي عقوق للأب، وقد كان يقول لنفسه أنه إذا ما كان يعامل الأب بطريقة حسنه وإن كان بأقل درجات المعاملة الحسنة، فإن الله لن يحاسبه على ما في نفسه من كره لهذا الأب إذا لم يظهره أو ينعكس على سلوكه. وبهذا الحل الذي تبناه كان يستطيع أن ينسجم مع تدينه وفي ذات الوقت لا يجبر نفسه على حب الأب.

– 1 أو 2 أو 3 أو 4 –
– إني أصرخ الآن، الآن وعليك أن تسمعني. لست أعاتبك بشكل أساسي، ولا يهمني أن أعاتبك. أعرف أنك فعلت كل ذلك بنية طيبة، بإخلاص حقيقي وطيبة متناهية. لذلك لست أعاتبك لكن ما أريده .. ما أريده، علي أن أقول لك ما أريد. أريد أن أجعل الأمر واضحاً بيننا، هذا كل ما أحاول أن أفعله، أن يبقى الأمر واضحاً بالقدر الذي يجعلنا نتعامل فيما بيننا بلا أي ضغينة. لم يكن لي ضمير يقول لي عن الخطأ والصواب، كنت كلما فعلت ما هو خطأ أراك بداخلي ترمقني بنظرة حادة بذيئة، أستطيع أن أرى وجهك وجواربك الحمراء، أما باقي جسدك فيأخذ شكلاً ضبابياً. تقول .. في الغالب تكتفي بنظرتك العفنة، لا تقول شيئاً. صرت أعرف من نظرتك وملامح وجهك إذا ماكنت غاضباً مني، في مرات قليلة، أسمع صوتك توبخني على أمر لا أدري ما هو أشعر بانقباض وتوتر، ثم أفكر أن ما أقوم به الآن أمر سيئ. لم أكن ولو لمرة واحدة قادرا على التقييم، كل ما علي فعله عرض الأمر عليك، ليس عليك شخصيا بل على الأب الذي يجلس بداخلي ويرتدي جوارب حمراء. لقد راقبتك أكثر من مراقبة أي مؤمن لإلهه. لقد جعلت مني وصاياك التي تلقيها علي بخصوص أتفه الأمور وأعظمها، جعلت مني شخصاً مهزوزا. أشعر بالقرف. لم تكن حياتي طبيعية أبداً، كانت تافهة فارغة من أي إرادة. هل تفهم كيف يعيش الإنسان بلا إرادة؟ إنك لا تفهم إلا الإلتزام، حياتي معك هي التزام بما تريد مني أن أكون، لقد مسختني وهذا مقرف. لم أكن قادر حتى على اختيار مكان جلوسي في الحفلات الثقيلة التي تأخذني إليها. هل كان يبدو شكلي بالنسبة لك شكل طفل طبيعي؟ أجلس بصمت صنمي، إذا نطقت يد الكرسي يمكن أن أنطق، هل تعرف ما الذي يشغلني حينها؟ أنت لا تعرف .. أنت تعرف أن علي أن ألتزم، وتسمي هذا الالتزام البغيض أدب. عندما أكون جالسا بصمت صنمي، أراقبك هذا ما أفعل. هل يبدو في نظرتك ما يدل على الغضب، ومنها أعرف إذا كانت جلستي ممتازة أم أنها جلسة خاطئة. هذا، هذا الإلتزام الذي تسميه أدباً، لا تدفعني إليه لأجل مصلحتي. دعني أقول لك بوضوح أنت تحقق ذاتك من خلال كل الأشياء حولك. وأنا الابن أحد هذه الأشياء، تريد أن أكون مؤدباً لأنك أنت المربي، لا يهمك أن يقول شخص يعرفني أنني ولد مؤدب، تريد – ويمكنك ألا تعترف بذلك – بالدرجة الأولى أن يقال: لقد رباه الأب على الأدب. لا يهمك في حقيقتك أن أكون منحرفاً بقدر ما يجعلك مجنونا أن يقول أي شخص تافه أن ابنك منحرف. أنت تمجد ذاتك بي، هل تسمح لي أن أقول هذا!؟ فكر في كلماتك عندما تصرخ بي، تقول جملاً مثل ماذا يقول عني الناس؟ كم مرة قلت هذه اللعنة؟ كم مرة قلت مهدداً أنك سوف تتبرأ مني؟ ها .. أعرف أنك لن تتذكر. الذي لا أفهمه لماذا علي أن ألتزم بكل هذه اللعنات، لطالما أردت أن أقولك لك ‘‘ لن أطيع ‘‘ أفكر في ذلك كثيراً لكن لم أقدر. بمجرد أن أسمع صوتك يرتفع أشعر بتوتر، وأخاف أن توجه صراخك لي، أو أن تبدأ معي أسئلتك عن أصدقائي أو عن مكان جلوسنا بالأمس .. إلخ إلخ. لم أقدر على مقاومة سلطتك وضغط رهبتك على نفسي، لكن بطريقة بائسة كنت أنتقم منك. عندما أمرض وأجدك قلقا تقف فوق رأسي تعيد علي أسئلتك الحقيرة ‘‘ مما تتألم؟ هل تشعر بألم؟ ما الذي حدث لك ؟ هل شربت شيئا؟ إلخ إلخ. لأعترف أني أشعر بلذة الانتصار، هذا القلق الذي يطرأ عليك خوفاً على الابن يجعلني سعيداً. إن الإنتقام الوحيد الذي بيدي هو المرض. أتمارض ثم أستمتع وأنا أراك فزعاً، لقد ضحكت من كل قلبي عندما مثلت عليك أن قلبي يؤلمني. ولأن أمراض القلب خطيرة كنت تدور حولي مثل مجنون خائف. كنت أشعر بالقرف والحقارة من هذا السلوك ولكن رغبتي بإيذائك تغلبني. أعرف ما الذي يمكن أن تقوله الآن، آه سوف تقول بصوتك الواثق ‘‘ لطالما كنت أباً رائعاً، وفرت لهم كل شيء ولم أضربهم أبداً ‘‘ لقد كان كلامك أقسى من أي ضرب. أنت لا تنتبه لما تقول. كانت تعليقاتك مؤذية، كما لو كنت تمسك المنجل وتسدد لي الضربات، خذ هذه، أها لم تصبك، خذ هذه، ثم تضحك لأن رأسي سقط بين قدميك. هل رأيت وجهك وأنت تعيد علي أسئلتك حول أي موضوع تافه؟ يالك من مبالغٍ قذر، تجعل الأمر كما لو كانت نهاية العالم تعتمد على إجاباتي، تقلب عينيك بطريقة مرعبة، وأنا أقف مثل صنم تعيس لا أستطيع أن أنطق بشيء، أنظر لموضع قدمي وأحرك رأسي بالموافقة على كل خراء تقوله، ثم تصرخ بي ‘‘ أنظر إلي وأنا أتكلم ‘‘ أنظر لوجهك المرعب وعينيك المتقلبتين للحظة وأعيد النظر في الرسومات على السجاد. لماذا كنت تصر على أن تجعلني مذنبا، وإن كان أمراً تافها. لم يكن الأمر يستحق، صدقني. لقد سحقتني لأجل أكثر الأمور تفاهتاً، مما كنت تخاف أرجوك لنجعل الأمر أكثر وضوحا، هل كنت تخاف أن أفعل أموراً قبيحة تحرجك؟ كيف وقد كنت أضعف من أن أرد لكمات الصبية، جعلت مني صبياً جبانا، كنت أخاف إذا ما تشاجرت مع أي صبي لعين أن تهجم علي بمنجلك. لماذا تتسبب بالمتاعب؟ ثم تجعلني أعتذر أمام الجميع من الصبي اللعين الذي بدأ بضربي، أشعر بالقرف منك الآن. كان يمكنك أن تغير كل شيء، كان يمكنك أن تكون أباً رائعاً، أو على الأقل أبا طبيعيا لا يتصرف كمجنون متوجس. لماذا فعلت ذلك؟ و لست أعاتبك لكن ربما يكون الأمر واضحا. عندما كنت أنفعل فكرت كثيراً برفسك، أدفع قدمي بقوة في وجهك وأراك تنقلب، هل تتخيل كيف سيكون هذا مضحكاً. وربما حينها أفعل أشياء أخرى ليست أكثر عنف ولكن أكثر إضحاك. في المرات الكثيرة والمتكررة بشكل يومي حينما تسألني إذا ما تأخرت ‘‘ أين كنت ؟ لماذا لم تمكث في البيت؟ كيف أعرف إلى أين تذهب عندما تخرج؟ .. إلخ إلخ إلخ أشعر بالقرف والاختناق بالمعنى المجازي بالطبع، لا أحملك المسؤولية عن شعوري بالقرف ولكنك تتحمل كامل المسؤولية عن شعوري بالاختناق. إن ما تقوم به تمرين قاسي على الشنق، هيا انظر إلي الآن، لا أمانع أن أستبدل هذه اللعنات بحبل المشنقة، بل ربما دفعت بعض النقود ليتم هذا التبديل بكل سهولة. آسف لأني أجعل الأمور بهذه الصراحة، لكن أرجوك أن تتفهمني وتسمح لي ولو لمرة واحدة أن أفعل شيئا ضدك.
– 4 –
كان السيد ع . م الذي مسح حاجبه للتو جالساً في غرفة الطعام، التي تنفتح على غرفة المعيشة. ورغم صغرها النسبي إلا أنها غرفة مهيبة من تلك الغرف التي حالما تدخلها تشعر أنك في حفلة أرستقراطية. جدرانها مبطنة بالخشب الأبيض حتى ارتفاع متر ونصف تقريبا، ويعلوه إطار ورقي مذهب. وباقي الجدران مطلية باللون الأحمر القاتم مع نقوش ذهبية خفيفة متكررة في كل الجدران. ومن السقف تتدلى ثريا يبدو من مظهرها أنها تعود لعصور قديمة، تحمل في تفرعاتها المتداخلة مصابيح صغيرة لا تعمل. وفي الجدران الذي يقع خلف السيد ع ثُبتت مرآة دائرية كبيرة بإطار ذهبي يتوسع حولها على شكل معين. رائحة الغرفة غريبة ولا أعرف كيف أصفها إلا أنها شيء من رائحة الخبز ورائحة الصوف المبلل. وفي يسار السيد ع قرب الجدار يمكنك أن ترى عربة صغيرة من تلك التي تستخدم في التقديم وضع عليها إبريق الشاي الخزفي ومعه أربعة أكواب أو خمسة وصحون صغيرة وعلبة للسكر وعلبة لنبات مجفف لم أعرفه وعلبة فارغة وملاعق صغيرة للتقليب ومنفضة للسجائر لم تستخدم. أما طاولة الطعام فلا أعرف من أي أنواع الخشب إلا أنها كانت طاولة من النوع العتيق، وقد امتلأت بالتشققات الصغيرة وتقشر الطلاء في بعض الأجزاء. فُرش عليها مفرش حريري بأطراف زرقاء تتدلى حتى حافة الكراسي، وكانت به بقعة واحدة حمراء غير واضحة تحت سلة الخبز الذي قطع على شكل مثلثات متناسقة. كان هنالك أيضاً ستة كراسي من خشب الزان القوي، وظهورها محفورة بأشكال هندسية أخاذة لا تملك إلا أن تقدر عالياً موهبة النجار الذي عملها. كان الأب ع والذي مسح حاجبه للتور ونظر إلى حبات البازلاء الطازجة جالساً في المنتصف، ظهره للمرآة ووجه لغرفة المعيشة. وعن يمينه الأم التي انشغلت بملء أطباق الأبناء بالأرز الساخن، وإضافة البازلاء الخضراء والبصل المقلي على كل صحن. أما الأخت فكانت تدور على الطاولة توزع المعالق والسكاكين والمناديل بعددهم، الأخت الأصغر تناولت طبق الأرز الخاص بالأب: تفضل أبي، بلا أي ملح كما تحب. الأخ الأصغر راح يحرك السكينة خاصته على الطبق الذي أمامه. الأبن E جلس عن يسار الأب كما يفعل دائما. نظر السيد ع . م لابنه الذي كان يتأمل انحناء الملعقة، محاولاً صرف انزعاجه من أصوات المضغ. قرب صحن الأرز من الابن وقال له بصوت بطيء: كل. توجه الابن ببصره إلى الزخارف في طرف صحن الأرز، ثم نظر إلى يد الأب. شعر بانفعال لا يمكن السيطرة عليه. نظر السيد ع . م لابنه الذي كان يتأمل حبات الأرز وقرب منه صح الأرز مرة أخرى وقال له: لماذا لا تأكل سوف تموت. وقف الابن وتحرك الكرسي مصدراً صوتا حاداً دون أن يبعد نظره عن حبات الأرز. لو رأيته لتنبأت أنه يودع شيئا ما، كان واضحاً عليه ذلك بلا أي شك. وكان يظهر عليه الانفعال وارتعاش يديه، كان ذلك واضحا. مد يده بسرعة في طبق الأرز وجمع في قبضته ما استطاع من الأرز، كان ساخناً لكنه لم ينتبه. سكتت الأم حتى عن الكلمات التي كانت ترددها في نفسها، كانت مذهولة تماماً. قال له الأب بحزم وهو يضرب على الطاولة بملعقته: أجلس. لكنه بسرعة دفع قبضته كما لو كان في تمرين للملاكمة نحو فم أبيه وهو يصرخ: قلت لك كل أنت يا ابن الكلب، كل. وأمسك بطرف المفرش وجره بقوه وأسقطه بما عليه على الأرضية، ارتفع صوت تكسر الأطباق وأصوات الملاعق والسكاكين. كان الجميع مصعوقين حتى الابن نفسه. في المساء بعد أن انتهى كل شيء كانت الأم حزينة بل أستطيع أن أقول أنها كانت بائسة وتمر بنوبة اكتئاب. أما الأبن الأصغر فكان منزعجاً، والأخت الأكبر كانت متوترة للغاية، و كانت لا تزال هناك حبة رز عالقة في شارب الأب.

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى