فتحي مهذب - الثعابين

قررت بعد تفكير طويل أن أرسل جسدي مفصولا عن رأسي بسبب إقتضاءات وإكراهات شتى .
أطلقت جسدي المفصول صباحا ليفاوض العالم بدلا مني ويصنع معجزاته بعرقه ويحتك بالأضداد.
عاتبني رأسي طويلا مدويا.
- لماذا تركته وحده يجابه العالم
الخارجي؟.
- أشفقت عليك من الطعنات المكرورة التي تلقيتها من نظرات المومياء المليئة بقش العتمة واللامبالاة والسدود الغزيرة التي تفصل بين الحقيقة ونقيضها.
-إذن أنا غير موافق تماما على هذا
التصرف الأرعن.
- لا أشاطرك الرأي من الحكمة بمكان أن تنال قسطا من الراحة وتعيد ترتيب أوراقك جيدا. وتشحذ عالمك الداخلي بعيدا عن السوقة والرعاع والجثث المتعطنة.
- أنا إلى حد هذه البرهة العصيبة لن أجاريك فيما ذهبت إليه.
- إنتظر .
- ستبدي لك الأيام.
- هذه مغامرة لم يجترحها إنسان يستميز بآلية تفكير مستقيم راجح.
-أنت الآن قطعة مسحورة من العظام المدورة مستطاعة بغيرها .
- سأضعك على منضدتي وأدخل عليك بعض التعديلات الجذرية حتى تتحول إلى شيء مهم ونفيس.
وبينما كنا منهمكين في حوار ساخن.
سمعنا إصطفاق الباب وقرقعة صغيرة أدركنا للتو خروج الجسد وحده لمجابهة ثيران الحتميات البائسة.
إنه الجسد يصطدم بالباب الخارجي ويتلقى صفعة أولى ولكن واصل طريقه غير آبه بشيء.
المهم أن يستعين بذاته وقدراته وقوته الفيزيقية.
قطع شوطا لا بأس به لم يمسسه أي مكروه أو أذى.
صاح منتشيا أنا لست في حاجة إلى رأس يدلني . أنا سعيد ببوصلة القلب المدهشة. إندفع في غناء فريد دافىء عذب كما لو أن العالم خير محض .
بيد أن ما نحس به لا يتوافق أحيانا مع قوانين العالم الخارجي.
وعلى غرة أبصره لفيف من الأناسي وعدوا إثره إشباعا لنزوتهم الحارقة في معرفة الحقيقة.
الناس عادة لا يرغبون إلا في إصطياد الحقيقة المتبدية للعيان
أما الباطن فمهمل ومتروك ومهجور ولا يعني شيئا لهم.
كان هذا الجسد السيء الحظ يركض في كل الإتجاهات بينما يلاحقه الآخرون لأسره واستغوار أمره الغريب .
رشقوه بالحجارة لإسقاطه. ما إن يسقط حتى يستجمع أشتات قواه ويواصل الركض مكتظا بكدمات زرقاء .
لم يرضخ. ولما كان سريعا في عدوه إستطاع أن يختفي عن الأنظار في غابة كثيفة معتمة حزينا يائسا . حاول أن يفكر ولكن لم يفلح في ذلك. لأن رأسه مختبئة في شقة بعيدة عن أعين الشياطين.
ظل هنا ساعات طوالا مصغيا إلى قيثارة الينابيع العذبة وحفيف الأشجار وترانيم الطيور على تمايز أشكالها وألوانها وعواء الذئاب الآتي من الأقاصي .
فجأة تناهى إلى سمعه الداخلي صوت نابع من الأعماق الكثيفة.
يا جزءا من سنخي . لقد خمشت بصري هذه الكدمات الزرقاء التي يعج بها جسدك.
- قال الجسد بلهجة خافتة :
لمن هذا الصوت؟.
- صوت الأرض التي أجبروك على التحرر الخاطىء من جنتها الأبدية. ولكن طب خاطرا. إنها لا تعدو أن تكون مجردة طفرة.
ستعود إلى بيتك الحقيقي وتحظى بمنزلة عظمى في النسيج العميق لجذوري.
- شكرا أيتها الأرض على هذا الإحتفاء والترحيب.
تحامل على نفسه وأم من جديد سمت الواقع ليجابه هذه المخلوقات الكابوسية الجامحة المفطورة على الشر وحبك المؤامرات وشن الحروب الضارية وعقد الصفقات الخاسرة.
وما إن وطئت قدماه باب المدينة حتى نشب خلاف حاد بينه وبين لص متهور كان يرغب في اختلاسه وفجأة سقط صريعا ملطخا بدمه إثر طعنة غائرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى