محمد عبد الله الهادي - جولـدن فنجــرز

نظرتُ ، بريبة التـائه ، اللوحة الزرقاء المعلقة بأول الشارع ، مرَّتْ عيناي ببطء علي
الحروف البيضاء المتشابكة عليها ، لأتأكد أن قدميَّ لم تخطئا الطريق إليه ، إنه نفس
الشارع القديم ، " شارع الشاكوشي " الذي كانت قدماي الطفلتان تدبان علي أرضه منذ سنوات
بعيدة ، لقد تغـيَّر كما تغـيَّر كل شيء ، لم يعـد هو نفس الشارع القـديم ..

كانت هنا علي قمته " سرايا الشاكوشي " ، والحديقة التي طالما تسلقتُ سورها العالي ،
لأقطف ثمر أشجارها في غفلةٍ من حارسها ، وعلي الجانب الآخر ، كانت عربات الحناطير
بخيولها النافرة واقفة بالقرب من الأكشاك المتجاورة : " طُرشجي الأمانة" و "شاكر
الكُونترجي " و " بقالة العربي " و " بسيوني الفاكهي " .. كان هنا " مقهى الطويل " ،
الذي كانت تتناثر كراسيه الخيزرانية وطاولاته النحاسية الصغيرة في الفراغ المتسع أمامه
.. كان أبي هناك جالساً مع أصدقائه عندما مررتْ عليه وناداني ، ووضع ساعـده علي كتفيَّ
، وشعرتُ ـ أنا الصغير آنئذ ـ بوطـأة ثقلـها وهـو يهـزُّني :
ـ " تشرب عنَّـاب يا ميمو ؟ " .
هززتُ رأسي موافقاً ، وجاء الرجل الطويل جـداً علي عجل ، وسحب كرسياً لي ، وقـدَّم لي
كوب المشروب البـارد ، الذي يتـألق احمراره في ضوء النهـار :
ـ " تفضل يا أستـاذ أيمـن " ..
أمضي بقدميَّ علي بلاطات الرصيف ، أمام المحلاَّت الجـديدة ، الملونة واللامعة ، الضاجة
بالزبائن .. محلات السوبر تكييف ، مكاتب تسفير العمالة .. مطاعم " التيك آواي " الحديثة
.. ، تخاطبها عيناي برجاء مؤمل ، أن تخرج من جوفها الأكشاك القديمة والرجل الطويل من
مقهاه .. بلا جـدوى ، كانت تخرج لسانها لي من أبوابها وتقـول ساخـرةً :
ـ " ما فـات قـد فـات .. نحن أبنـاء اليـوم " .
مضى علي استلامي العمل بمـدينتي القديمة عدَّة أيَّام ، واليوم أبحـث عمَّا فـات ..
أين البيت ذو الطابق الواحـد الذي كنَّا نسكنه ؟ ولا بيت من بيوت الجيران والأصدقاء باق
في مكانه !! ، أشرتُ بيـدي لأحـد المارَّة استوقفه ، أسأله السؤال الذي أعرف إجابته ،
بيقين من يخـدع نفسـه بالأمـاني :
ـ " هـو ده شـارع الشـاكوشي ؟ " .
يهـز الرجلُ رأسـه من أعلي لأسفـل هـزَّةً عظيـمةً :
ـ " هو يا سعادة البيه " .
ومن بين المباني الحديثة العالية وجدتُ بيتاً قديماً من طابقين ، وقفتُ أمامه كأنني
وجدتُ كنزي الضائع ، كان الطابق العلوي مهجوراً ، ونوافـذه المفتوحة علي العتمة المظلمة
محطمةً ، ومحل الطابق الأول المجاور للباب مفتوحاً علي اتساعه ، تعلوه لافتة حديثة
مكتوب عليها بخـط متعرج " جولـدن فنجـرز " ..، تأملت التناقض البيِّن بين المحل
واللافتة الغريبة ، أسعفتني ذاكرتي من جوف الماضي باللافتة الخشبية القديمة التي كانت
مكانها ، وأنا أتهجَّى حروفها وأتعلم قراءة كلماتها بالخط الثُلث الجميل : " صالون
العـروبة " .. وتحتها بالبنط الأصغر " راجي عفـو الخلاَّق .. الأسطى أنيس الحلاَّق " ..
اقتربتُ من ضلف الباب البنيَّة المركونة علي الحائط الذي تساقط طلاؤه ، وغاصتْ أصوله
منخفضة عن مستوى الشارع ، بمقدار ثلاث درجات خشبية حديثة لم تكن موجودة في الماضي ..
نعـم .. هو بالتأكيد صالون العم " أنيس " المزيِّن ..
وضعتُ قدميَّ بحرص علي أول الدرجات الخشبية النازلة ، فنقلتـني علي الفور لآخـر مرَّة
دخلت فيها هـذا الصالون ، لم أكن بصحبة أبي الذي اعتدت منه أن يصحبني إلي هناك ، لكني
كنت بصحبة أمِِّي هـذه المرَّة ، كان أبي قد نُقـِل للعمل في بلـد بعيـد ، استلزم منه
أن يبقى هناك حتى يـدبِّر لنا مسكناً مناسباً ، ومن ثم يعـود ليصحبنا معه ، كان الشعـر
الطويل " موضة " ذاك العصر ، والسراويل " الشارلستون " ذات الفتحات الواسعة تضيق علي
سيقان الشباب ، وكنا نحن الأطفال نحاكيهم ونقلدهم في سلوكهم ، لهذا كنت سعيـداً بغياب
أبي ، وغـير متحمس بالمرَّة للذهاب مع أمِّي للحلاَّق ، بالطبع لم يكن لـدي ترف امتلاك
" الشارلستون " ، لكن امتـلاك الشعـر الطويل ، كان أمراً سهلاً مع مضي الوقـت ..
قالت أمِّي :
ـ " إن رجع أبوك وشاف شعرك الطويل تبقى مصيبة ! " .
قلتُ لها بضيق :
ـ " شعري ويعجبني طوله .. كل أصحابي شعرهم طويل " .
قالت :
ـ " اسمع الكلام ومش تعانـد .. أبوك راجع ياخـدنا معاه .. إن شاف شعرك حيسيبك هنا ومش ح
تيجي معانا " .
قلت بعناد آخر :
ـ " مش عاوز أروح معكم .. سيبوني هنا " .
ضحكتْ أمي من إصراري وسذاجتي :
ـ " ومن يجهـز لك أكلك .. ويروح معك المدرسة .. ويغسل لك هِـدمتك .. و .. " .
قلتُ لها بتحـدٍ :
ـ " أنـا راجـل يا أماه " .
أكدَّت علي كلامي بوجهٍ فرحٍ :
ـ " طبعـاً راجـل .. وستـين راجـل " .
ثم قالت باستنكار :
ـ " لكن الرجال مش يطولوا شعـر رووسهم " .
وسألتني بصوت حنون :
ـ " تقـدر تستغني عن أمّـك حبيبتك يا ميـمو ؟ " .
ولأني أحبُّها قلـت علي الفـور :
ـ " لا " .
اكتستْ ملامحها بالرضـا ، ومضيتُ معها لصالون عم " أنيس " ..
لكن أمـر نقل أسرتي مرَّة أخرى حيث عمل أبي الجديد كان يشغلني ، كان عليَّ أن أواجه
فـراق الجيران والأصدقاء وزملاء الفصل بالمدرسة ، أن أغادر مرتع طفولتي الذي ارتبط به ،
وكل الأماكن التي أحبها وأتردد عليها ، وكنت أكره كره العمى لحظات الوداع التي لا تخلو
من حزن ودموع ، لحظات لا أملك فيها زمام نفسي ، ولا أستطيع فيها كبح مشاعري الحزينة ،
حيث يركبني الخجل ـ من قمة رأسي لأخمص قـدميَّ ـ من دموعي التي تسيل علي خدَّيَّ رغم
أنفي ، أتمنى لحظتها لو تنشق الأرض وتبتلعني ، الجارات اللائي يوصين أمِّي ـ بحق العيش
والملح ـ أن تبقي علي الود والتواصل بالزيارة ، وإن لم تقدر بالرسائل ..
" العشرة مش تهون إلاَّ علي أولاد الحرام .. وأنتم والله أبناء الأصـول " .. هكذا
يقولون ..
كم مرة حدث هذا في طفولتي ؟ ..
ويكون عليَّ في البلد الجـديد أن استكشف معالمه ، أن أعقـد صداقات جديدة مع أطفـال
آخرين ، أن أتآلف مع الوجوه والأماكن والأشياء والأرض والسماء والهواء الذي أتنفسه ..

عندما شكوتُ لخالي " عبد الحميد " ، الذي كان حريصاً علي زيارتنا في المواسم والأعيـاد
في أي مكان نـستقر إليه ، ربت علي كتفي وقال:
ـ " كل البـلاد بـلاد ربنـا يا أيمن يا بني " .
وداعب أبي ضاحكاً :
ـ " وأبوك يحب التغيـير " .
وضحك أبي ، ولكني لم أضحـك ..
كانت لأبي أسبابه الكثيرة التي لم تكن مقنعة لعقولنا الصغيرة ..
أحيانا يكون النقل بأمر الحكومة ، وأبي هو موظفها الصغير الذي يسمع كلامها ، ولا يخالف
لها أمراً ، فهو عبـد " المأمور " كما تدافع عنه أمِّي ، فالحكومة هي التي تعطـيه
النقـود التي يصرفها عليـنا ويسترنا ويعلمنا ، ليكـون لنـا شأن في قـوادم الأيـام ..
هكـذا كان يخاطب عقولنـا الرافضة الحرون .. فأسـأله بضيق :
ـ " فين المأمور ده يا بابا وأنا أقتـله ؟ " .
فيضحك من أعماقه وهو يأخذ رأسي تحت إبطه بحنان ، ويـرد عليَّ مثبطاً من عزيمتي :
ـ " كان غيرك أشطر يا ميمو" .
أحياناً أخرى ، كان هـو الذي يسعى للنقل ، بل ويوسِّط أناساً لهم شأن أو مكانة ،
ويستعين بهم علي هـذا ، وعندما ينجح في مسعاه ، كان يقول لنـا :
أن هـذه المدينة التي نسكنها بلـدة ضيقـة ، تضن بالرزق ، وإن الله أمرنا بالسعي ، بل
والهجرة طلباً للرزق ، أو أن أخلاق أهل البلدة منفلتة ، وهم أناس لا يعرفون الأصول
والواجب اللذين تربَّى عليهما بين أهلـه في قريتـه ، التي ترجـع أصولنا إليهـا ..
صرنا نؤمن بالاعتياد أن أمر النقل .. أي نقل ، طالما أنه ليس الأول ، فإنه لن يكون
الأخـير ..
لقد تكرر هذا مراراً وتكراراً ، من بلدة إلي أخرى ، إلي أن خرج أبي إلي المعاش ، فعاد
بأمِّي للقرية ، وتفرقنا نحن الأبناء بعد تخرجنا وعملنا في البـلاد المختلفة ، ولم يكن
أمر الغربة فيما بعد شاقاً علي نفوسنا لتمرسنا عليه ، بل إن كـثرة التنـقل التي أوجبها
عملي ضابطاً للشرطة ، كنت أراها ـ عكس زملائي الآخرين ـ أمراً عادياً ، لم تكن تسبب لي
أي ضـيق أو حـرج ، بل إنني كنت سعيـداً هـذه المرَّة ، لنقلي لهذا البلـد الذي نشـأت
فيـه طفـلاً ..
رحل أبي منذ أعوام ، ولحقت به أمي بعد عام ..
عندما وضعت قدميَّ علي الدرجة الخشبية الأخيرة المؤدية للصالون ، تناهى لي صوت الراديو
بأغنية " فايزة أحمد " الشهيرة : " ست الحبايب يا حبيبة " .. فانبثقت أمّي للتو بجانبي
تنفي ترددي وتقيل عثرتي ، وكانت تقبض علي معصمي ، وتقودني للكرسي الجلدي أمام المرآة ،
وترفعني عليه ، وتوصي عم " أنيس " هامسةًً كي لا أسمع : أن يزيل شعري الخنافس كله من
جذوره بالماكينة نمرة خمسة ، لأنه بهذا الطول الذي يغطِّي قفاي ووجهي لابـد أن يتسبب في
وجع عينيَّ ..
استرقتُ السمع لما قالته ، وانتابني غضبٌ شـديدٌ ، ووددتُ لـو أفـر هرباً من هـذا
الصالون ..
خطوتُ للداخل .. أين العـم أنيس ؟ .. بحلقتُ في الظلام الخفيف ورأيته ، كان هناك مكوماً
بالركن علي الدكَّة يغفو ، ربما كان ينتظر زبوناً للصالون يعرف أنه لن يأتي ، هو الذي
كان يقف علي قدميه من الصباح حتى المساء ولا يتعـب ..
" يا حنينه وكلِّك طيـبة .. يا رب يخلِّيكي يا أمِّي
يا ست الحبايب يا حبيـبة .. حبيـبة "
ليس ثمة شيء سوى صوت الراديو القديم يملأ المكان ..
ـ " سـلامُ عليكـم يا عـم أنيس " .
انتفض الرجل شيخاً هرماً ، تضاءل جسـده وتقلَّـص كثيراً ، نحيفاً كما كان ، شعـر رأسه
الغـزير المرجل للخلف بالفازلين اللامع ، انحسر متراجعاً عنـد الحافة الدائرية ، تاركاً
مساحة صلعـاء جرداء لامعـةً ، ووجهاً ملآن بشبكة من التجاعيـد ..
ـ " سلام ورحمة الله وبركاته .. تفضَّـل يا سعادة البيـه " .
ردَّ ببطء المفاجأ ، وهو يتأملني بحذر وخوف وضيق ، وأفسح لي مكاناً علي الدكَّـة ، لابد
أنه خمَّن من هيأتي أنني لست زبوناً لـه ، ماذا تعني زيارة ضابط شرطة لصالونه ؟ لا بـد
أنّها زيارة لا تحمل معها إلاَّ الشـر ، لا بـد أنها مخالفة ما لا يعرفها ، لجهة ما لا
يعرفها أيضاً ، جهة من الجهات الكثيرة التي تـدقُّ أبوابه في الآونة الأخيرة : محافظة
ومحليات وطرق وضرائب وتأمينات و..
كدتُ أقـول له مشفقاً لأنزع عنه هواجسه ووساوسه :
لولاك ما كنتُ ضابطاً للشرطة يا عم أنيس .. أنت السبب ..
ارتعـش صـوته بحياد :
ـ " تشرب سعادتك شاي ولاّ قهوة ؟ " .
لكنِّي اتجهت للكرسي الذي كنت أجلس عليه طفلاً ، ونزعت الكاب عن رأسي ، فزادت الريبة في
عينيه الصغيرتين المتأملتين .. إنه نفس المقعـد القديم وإن ازداد قدماً ودبَّ الوهن في
أوصاله وهو يصر تحت ثقلي ، المرآة المستطيلة المرشوقة أمامي مغـبرة بالغبش المصفر ،
مبقعة بالسواد في أكـثر من موضع ، الحامل الخشبي الممتد أسفل المرآة حائل اللون ، تتراص
عليه ماكينات حلاقة نمرة خمسة ونمرة عشرة ، وعلبة بودرة معدنية ، وأمشاط مختلفة الأحجام
تساقطت بعض أسنانها ، وأمواس مستقرة في جراب جلدي قديم ، و صبَّانات كاوتشوكية حمراء
اللون أو معدنية مطفأة اللمعة ، معاجين حلاقة وفرش للذقن وزجاجات كولونيا فارغة ذات
ماركات منقرضة ، وانتبهت لمروحة ذات ريشات عريضة تقشر طلاؤها تتدلَّى من السقف ، كانت
تلهث بصوت متعب في دوران بطئ لا نهائي ، وحوض الماء في الركن كما هو ، لونه مصفر ويعلوه
صنبور نحاسي قديم ، والدكَّة الخشبية الأرابيسك يعلوها علي الحائط برواز زجاجي قـديم
لفريق الأهلي الذي كان يشجعه في الستينيات .. رفعت الفناجيلي وصالح سليم ونجوم بهتتْ
ملامحهم وأسماؤهم ، كثيراً ما سمعت هذا الراديو العتيق الذي يغني لست الحبايب مضبوطاً
على درجة الصوت العالي أثناء مباريات الدوري أو الكأس ، وتعليقات عـم " أنيس " الكروية
تتقاطع مع تعليقات الكابتن " لطيف " في وصفه التفصيلي للمباراة . بجوار البرواز برواز
آخر بالقلم الفحـم للعم " أنيس " في شبابه ، صورة تضج بالحيوية والعافية ، أهداها لـه
فنَّـان " بورتريه " رائع من زبائن الصالون ..
ـ " لا شاي ولا قهـوة يا عم أنيس .. عاوز أزيِّن شعـري " .
وازدادت حيرته وريبته أكـثر ، عندما رآني بالمرآة وأنا أحدِّق في محتويات صالونه ..
وأنا أنظر للدكَّة الخشبية وابتسم لأمي التي تنتظرني عليها .. ولمعتْ عيني بدمعة حائرة
انفلتتْ رغم أنفي ومسحتها براحة يدي .. ، وكأنما بغريزة الاحتراز ، أراد أن يكسب وقتاً
آخـر للتفكير والفهم ، اتجه للراديو وتشاغل بخفض الصوت أو البحث عن محطَّة أخرى ، وكرر
يؤكد العزومة :
ـ " لازم تشرب حاجة .. أجيب لسيادتك حاجة ساقعة " .
لكنني أشرت لـه بيـدي أن يترك الأغنية ، وصوت " فايزة " الصدفة ، يغـوص في دمي ، ويعيـد
لي أمّي ..
" أنام وتسهري .. وتباتي تفكَّّري
وتصحِي من الأدان .. وتيجي تشقَّري
يا رب يخلِّيكي يا أمِّـي
يا ست الحبايب يا حبيبة .. حبيبة "
ووصيتها للأسطى " أنيس " أن يخلص رأسي من شيطان الخنافس الذي سرح فيه بالشعـر الكثيف
ترن بمسمعي ، وهو يتأمل شعري ويهـزَّ رأسه بالسؤال الاستنكاري :
ـ " خنافــس ؟! " .
لم أجـد رداً ، وأنا استنشق رائحة الكولونيا من ثوبه . وعاود الكلام عن الشباب "
الخنافس " ، إنهم ليسوا رجالاً بالمرَّة ، الشعـر الطويل هو تاج المرأة والعقل هو زينة
الرجل . وأقسم بأيمان مغلظة لأمي أنه رأى مجموعة " خنـافس " بالشارع ، لم يستطع التعرف
عليهم إن كانوا ذكـوراً أم إناثاً إلاَّ من سوالفهم الطويلة التي تشبه " البُلـغ
الفلاَّحي " ..
وانفكتْ ملامح وجهي العبوس عندما ضحكتُ ، وضحكتْ أمِّي وهي تسـتزيده :
ـ " قـل له يا أسطى أنيس ووعيِّه الله يخليك " .
ـ " أهو سامع .. من عيني يا أم أيمن " .
ولمَّا انتهى من نصائحه وأيقن من دخولها عقلي ، سألها بعفوية :
ـ " سمعت إنكم ناويين تفارقونا وتسيبوا البلـد يا ست أم أيمن .. صحيح ؟ " .
ردَّت أمِّي عليه بأسـى :
ـ " أمـر الله يا أسطى أنيس " .
أمسك بالمشط وهـزَّه ببال فارغ :
ـ " ونعـم بالله .. رزق هنا رزق هناك .. الرازق هو الله " .
قالت أمّي وهي تتململ علي الدكَّـة بجوار الباب ، وترمقني بعينيها :
ـ " مكان ما يروح أبو أيمـن .. إحنا معاه " .
وردَّ الأسطى ، وهو يمـرر المشط بغـابة شعري بصعوبة :
ـ " أصيـلة وأميرة يا بنت الناس .. ربنا يسهِّل لكم الأمـور إن شـاء الله " .
وآلمتني رأسي بشدَّة ، وكاد الدمع يقفز من عينيَّ ، عندما ترك المشط بشعري وهرول صوب
الباب ، وكان يصيح بحرارة :
ـ " يا ألف مرحباً .. أهـلاً وسهـلاً .. " .
ولمحتُ في المرآة شرطياً سميناً يصطحب طفلاً عرفته علي الفور ، الطفل " وليـد " ابن
ضابط الشرطة الجـديد بالمركز ، زميل المدرسة والفصل ، وتجهم وجهي فأنا لا أطيـقه ، فأنا
أتفوق عليه في الدراسة ، وهو خائب ، لكنه يظن نفسه أفضل مني لكون أبيه ضابطاً ، ويشعر
بالغيرة منِّي .. ، قـاده الأسطى علي الفور للمقعد المجاور ، وانفلت من الباب يجري ، ثم
عـاد وفي يـده باكـو شكولاته ، قـدَّمه لـه وهو يرسم علي فمه ابتسامة عريضة ..
ـ " تفضَّـل يا وليـد بيـه " .
لم يرد عليه ، وتطوع الشرطي بالشكر ، وراح " وليد " يفض غلافها باستهانة ، ويقضم منها
علي مهل وهو يرمق صورتي بالمرآة ، ويتطلع في عينيَّ بجرأة ، كأنما يؤكـد لي مكانته
الحقيقية المستمدة من مكانة أبيـه ، وما تفوقي عليه في الفصل إلاَّ تفوق زائف لا قيمة
له ، ولا يعطينني أية مرتبة استحقها حتى لدى الحلاق ..
أبعدتُ ناظري عن المرآة حتى لا تلتقي عيناي بعينيه ، والأسئلة الحزينة تتصادم برأسي
بوطأة ثقـل الشعر : هل نسيني العم أنيس ؟ وإن كان قـد نسيني أنا قليل الشأن في نظره ،
كيف ينسى أمِّي القاعـدة بجوار الباب والتي كان يكيل لها المديح والثناء منذ لحظات ؟ ما
كـل هـذا النفـاق الرخيص لهـذا الولـد الخائب المتعالي " وليـد " ؟ ..
قلتُ لنفسي : لا بأس يا عـم " أنيس " .. المهم تقـص شعري وأترك لك صـالونك بمن فيـه ..
لكن الذي حـدث أن الأسطى " أنيس " جـذب درجاً تحت المرآة ، وأخرج فوطة جـديدة حمراء ،
نفضها وبسطها حـول رقبـة " وليـد " فبدا كديك صغير ، ومشطاً جـديداً راح يمرره برفـق في
شعـره الكثيف حتى لا يؤلمه ، وصـوته الثرثار وهو يسامره يخـترق أذنيَّ ..
ـ " كيف حال بابا ؟ .. سلمت لي عليه المرَّة اللي فاتت ؟ " .
فلا يـرد الولـد عليه إلاَّ بحرفين من حلقومه المحشو بالشكولاته وهو يتلمظ :
ـ " آه " .
ـ " ما رأيك في طعم الشكولاته ؟ .. حلـوة .. صح ؟ " .
ـ " آه " .
كدتُ أصرخ فيـه : ما هـذا الذي يحدث يا عم " أنيس " ؟ إنني صاحب الـدور في الحلاقة إن
كنت قـد نسيت ؟ كيف تهملني وتتركني هكذا ؟ لماذا تعطي كل هـذا الاهتمام لهذا الولـد
الخائب ، حتى ولـو كان أبـوه ضابطاً ، أو حتى مأموراً للمركز كلّـه ؟ .. كيـف يا عـم "
أنيـس " ؟ ..
كان داخلي يصرخ وأنا أحاور نفسي بالمرآة ، وأشعـر بقـدر هائل من الذل والإهانة والحزن
والكآبة ، وأفكر ، لا بـد أن " وليـداً " سينتهزها فرصة ، ويحكي كل هـذا لزملائي بالفصل
بالتفصيل الممل ، ليصغر من شأني ..
كنت عاجزاً عن التصرف ، غير قـادر علي اتخـاذ قـرار ، أود لـو انشقَّت أرض الصالون
وابتلعتني ، ولا أرى نظرة الانتصار الشامتة تطل من عيني غريمي في المرآة أمامي ، النظرة
التي تغرس سمومها في بدني النحيل فتشعـله بحرارة العجـز ..، كنت في حـال يصعب وصفها
بالكلمات ، حتى أنني نسيت وجـود أمِّي للحظة ، وعندما تذكرتها ، والتقتْ عيناي بعينيها
لثانيـة واحدة ، انكسرتْ نظرتي رغم أنفي صـوب الأرض ..
كيف قرأتْ أمي صفحتي وهي الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب ؟ كيف عرفتْ حالي في هذه الثانية
العصيبة المنفلتة من عمر زمني ؟! كيف أنقـذتني من هواجس ضعفي وكوابيس عقلي الصغير
وترهات تفكيري القاصر ؟ كيف رفعتْ رأسي وأعـادتْ لي كرامتي المسلوبة في لحظـة ؟! ..
هـل هـو السر الذي يسكن قلـوب الأمهات ؟ ..
جاءني صوتُها الحنون من جوف قلبها يخترق ظهري ، ويستقر بصميم فؤادي ، عندما ضربتْ صدرها
بكفِّها ، وهتفـتْ ملهـوفة :
ـ " يا حبيـب قلبي يا بني " .
وهبَّتْ واقفةً كنمرة ثائرة أوشكتْ علي فقـد وليـدها بغتة ، أمسكتْ بمعصمي بقـوَّة
تستعيدني وتضمني إليها ، انتزعتْ المشط من شعري وألقته أرضاً ، ونظرتْ للأسطى " أنيس "
ـ بعينين لامعتـين ـ بنظرةً لن أنساها ما حييت ، وكان وجهها يتضرج بحُمرة الغضب ، عندما
قالتْ لـه بعتـاب لا يقـبل الصفـح :
ـ " كدا يا أسطى أنيس .. ده يصـح يعـني ؟ " .
ولم تنتظر منه رداً ، انفلتتْ بي خارجةً بين ذهول الرجل ، الذي أفاق للحظة وانتبه
لوجودنا ، فوقف يشيعنا بنظرة صامتة ، غير قادرة علي الإتيان بأي فعـل أو حتى رد فعـل
..
كانت لحظة قاسية ، تفجَّـر فيها وعيِّي الصغير ، حيال الكثير من أمور الحياة العجيبة ..
لم تكن هـذه هي المرَّة الأخيرة التي أرى فيها الأسطى " أنيس " ، كانت عربة النقـل
الكبيرة التي تحمل أغراضنا المنزلية واقفةً ، وكان أبي وأمِّي بين جمع الجيران الذين
جاءوا لوداعنا ، ولأني كنت أكـره لحظات الوداع بكل ما تحمله من ثقل نفسي لم أكن أطيقه ،
فقـد انفلتُ متسللاً لكابينة العربة وجلست بجوار السائق ، وفي اللحظة التي توقعتُ فيها
أنني قـد أفلـتُ ، لمحتُ الأسطى " أنيس " يهرول لاحقاً بأبي بين الجمع ، وراح يحتضنه
بقوَّة ، انزلقتُ بجسدي الضئيل علي كرسي العربة وداريتُ وجهي حتى لا يراني ، لكنني رأيت
باب العربة يُفتح فجأة ، ثم والأسطى أنيس يصعـد بقدميه نحوي ، ويأخـذ رأسي ووجهي
بكفَّيه ويغمرني بالقبلات وهو يقول :
ـ " إيَّاك لسَّه زعلان مني ؟ .. خد بالك من دراستك وخليك شاطر .. وأنت تبقى أحسن من
وليد واللي خلفوه "
ولم استطـع آنئـذ كبح جماح دموعي التي انهمرتْ علي خـدَّي بغـزارة ، وغمرتني اللحظة
بشـلاَّل من الحزن ، ظـلَّ رفيـقي طـوال الطـريق ، لم أستطع زحزحته عن كاهلي إلاَّ
عندما خايلتني نفسي عبر زجاج السيارة ، ورأيتني ضابطاً للشرطة بحجم الفضاء كلّه ،
فافترتْ شفتاي ببسمة واهنة لذلك الطيف البعـيد ..
" سـت الحبـايب يا حبيـبة .. حبيـبة "
قفلـتْ الجملة الموسيقية الأغنية ، مسحتُ دمعة أخرى ببطن كفِّي ، والعم " أنيس " جذب
الـدرج وأخرج فوطة نظيـفة بسطها حــول رقبـتي ، أمسك بالمقـص والمشـط ، وسألني سـؤالاً
متـردداً خجولاً :
ـ " لا مؤاخـذة .. العتب علي النظـر .. حضرتك تعرفني يا سعـادة البيه ؟ " .
ابتسمتُ لسـؤاله ، وقـلتُ له :
ـ " طبعـاً أعرفـك يا عم أنيس .. من أربعـين سنـة أو أكـثر " .
بادلـني بسمة اطمئنان تجمع بين الدهشة والأسى ، ومرر المشط برفق في شعـري ، ومـطَّ
العبـارة التي رددها بعـدي :
ـ " من أربعـــين سنـة أو أكثر ؟ " .
قلـت له بمرح يُسقط كل الحـواجز :
ـ " طبعـاً.. وأنا عارف إنك مش جولـدن فنجـرز .. حضرتك : راجي عفـو الخــلاَّق ..
الأسطى أنيس الحـلاَّق " .
توقف لبرهة يتأمل وجهي ملـياً ، لم أتيقن من غضون وجهه إن كان قـد عرفني أم لا ؟ لكن
الشيء المؤكـد الذي شعَّ من ملمحه العجوز هو طيف ابتسامة فرحة رفَّتْ علي شفتـيه ، وأن
بريقاً من السعادة لمع في عينيه الخابيتين ، وأنّـه استحال فجـأة لفراشـة راقصـة حولـي
..
يمرر المشط ، يسحب شعري بأنامل تعرفه وتألفه تماماً ، كأنه الشعـر الذي نبتَ من بطونها
من أربعين عاماً خلتْ ، يقص بالمقص ولا يكف عن الطقطقة ، يرفع ذقني في محيط نظـرته
ويتأمل وجهي فابتسم له ، ويبتسم لي ، ويضبط الفودين والسالفتين ، يزن تدرج الشعـر
بجانبي رأسي بموازين خـبرته ..
يتـم كـل هـذا بسـرعة عجيـبة ..
وكنتُ أتأمل وجهه بالمرآة عندما اختفتْ وتلاشتْ تجاعيـده ، وعادتْ إليه نضارته وحمرة
شبـابه ، ورأيتُ رأسه متوجاً بالشعر الأسـود الغـزير ، ومرجلاً للـخلف بالفازلين اللامع
، واستنشقتُ بأنفي علي مهل ـ بيقين لا يقبل أي شك ـ رائحـة الكولونيا الذكيَّـة ، التي
تتضوع من ثنـايا ثـوبه ..

ـــــــــــــــــــــ
* قصة من مجموعة ( امرأة وألف وجه ) سلسلة خيول أدبية 2006 م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى