وجدي الأهدل - ترنيم

للتو وصل ضباط البحث الجنائي، وألقوا نظرة على الوجه الدامي.

الروح المُبحرة في العلو اللانهائي، فارقتْ جسداً مزقته طلقات الرصاص وطعنات الجنابي.

المُقدم الريَّاب، ذياب ذي الأنياب، نفث ريقه في عيون الدوافع والأسباب، وأمر عناصره بالبحث عمّا وراء الجريمة المتعددة الأرباب.

استمع الرائد مُكْرِدْ إلى حارس القصر شيبوب المُصنف كشاهد:

“انتبهتُ من نومي على صراخ سيدتي المر، وشممتُ في الجو رائحة الشر، فعمرتُ بندقيتي وانقضضتُ كالنمر، ثم رأيتُ سواداً كالظل يتسلق السور محاولاً أن يفر، وبدون تردد فعلتُ ما يُمليه عليّ واجبي كحارس مخلص مهمته أن يكر.”

أراد الضباط إرغام غادة القصر على الشهادة، فأسعفهم الحارس بهذه الإفادة:

قبل أعوام بعيدة دهاها دمل في الحلق، تفاقم حتى أعجزها عن النطق، فجلب والدها الشاهبندر عنتر أمهر الأطباء، فهزوا” رؤوسهم أسفاً لأن داءها ليس له دواء، واتفقوا أن الدمل أتلف حبالها الصوتية، وأن شفاءها مستحيل استحالة أبدية.”

قال الطبيب الشرعي بعدما انتهى من الفحص الأولي:

“سبب الوفاة طعنة نافذة في القلب جاءت من الظهر، وعشرون طعنة أخرى في أنحاء متفرقة من الجسم، وسبع رصاصات في الصدر.”

قال الرائد مُكْرِد مُدَبِّر الحيل والمكائد: لعل عدد القتلة قد زاد عن عشرة!

عثر العريف حبيش، على جوال من الخيش، مرمياً تحت شباك المطبخ بطيش، فزعم الحارس إنه يخص المجرم الذي لاقى مصرعه، فجرد حبيش محتوياته، وقد تجمع حوله من يسمعه:

“ربع كيلوغرام من الدقيق، وأربع حبات من الخبز الرقيق. عذق موز وحفنة من اللوز. تفاحتان وليمونة، وربطة جرجير وصابونة.”

تململ الملازم جازم المتأزم من شيوع المظالم:

“إن هو إلا لص قرصه الجوع فما أهول العقاب.. يا إلهي كم سيلقى ملاك هذا القصر في العالم العادل من عتاب.”

ارتاب المقدم ذياب في كفاءة العريف، ونعته بالكفيف، وطلب من النقيب عتيد، إعادة الجرد من جديد. فدوَّن الأخير بعد المشاورات، في المحضر هذه المضبوطات:

“سروال من حرير، ولحاف وسرير، ومال كثير، وذهب منقطع النظير، وأربع عمارات في حي التحرير.. ودزينة سيارات فاخرة، وطائرة خاصة وباخرة، وفيلا في القاهرة، وبساتين كروم وزيتون في الجليل والسامرة.”

حارس القصر شيبوب، صاحب الشارب المصبوب، دنا بوجه غضوب، وبصق على جبين الشاب الوسيم محطم القلوب، وجثم على صدره منتشياً متراقصاً يهزج بزامل الحروب.

اندفعتْ وداد ابنة مالك القصر البكماء، ورفست الحارس في صدره حتى انقلب إلى الوراء، واستلمت الجثمان بالأحضان والقبلات وأحر البكاء.

أوعز المقدم ذياب الذي لقبه صغار الضباط بـ”ز..” الذباب بوقف المهزلة، وإبعاد الصبية التي زاغ فؤادها عن المسألة. فطلبها المساعد رداد للاستجواب، وسحبها عنوة إلى الداخل وغلَّق الأبواب.

جندي بلا رتبة، بلا رأس بلا ركبة، رفع الجثة بإصبع واحدة مرتجفة إلى عربة الشرطة، ومن خوفه اختبأ في قفة، وهذى أنه ما حمل من قبل شيئاً بهذه الخفة!

الضابط الحازم جازم استفزته كذبة الحارس شيبوب الوارمة قدماه من النقرس، فأخذ يحوم حوله ويتفرس، واستنتج أن الأسد قد أخطأ حين وثق بالهجرس: “كيف يا هذا سمعت صراخها الأخرس؟؟.”

دوَّن المساعد رداد في المحضر، إفادة وداد بنت الشاهبندر:

“اللبلاب السام يجرجر أقدامه في القصر، والديك الأعور يرتكب خطأ العمر. الولد الشوكي الذي انساب من ثقب الباب، علق كحكحاته على المشجب وتقافزت من فمه باليات الثياب. الكوكو خرج من الساعة يتوعد، الويل لمن يتمنع ويتمرد والكرة الأرضية فقدت بكارتها دون إذن القوم، في الوقت الضائع من عمر الكون.”

أثنى المقدم ذياب على خبرة المساعد بلغة الإشارات، وأمر بمنحه المكافآت والترقيات.

وجَّه المقدم ذياب باستدعاء الحارس شيبوب وإعادة استجوابه، للتأكد من صحة أقواله، وإسقاط أوهامه:

وثب النقيب عتيد وثوب الحوت، ووضع فوهة المسدس على صدغ الحارس وهدده بالموت، فتكلم الكائن الممقوت بخفوت وكأنما يسحب صوته بدلو من بئر برهوت:

“سلطتُ ضوء الكشاف، فرأيت ما كنت أحذر منه وأخاف. يقيناً اقتطف الثمرة، لكنني لا أعرف من أمره؟! هو مأمور أن يفعل، لكي يتجلل ولي نعمتي بالخزي ويترجل. إن سيدي لا يرضى بالعار، فأخذتُ له بالثأر.”

سأله المقدم: “أرأيتَ الدم؟”. صك الحارس وجهه منتحباً: “نعم نعم.. رأيت ذاك مُدمى وتلك تتدمدم.”

ربَّت المقدم ذياب على كتف الحارس، وقال له إنه يستحق نظير حميَّته وسام الفارس.

قالت المربية، المسماة راية، التي كدنا ننساها في هذه الحكاية:

اسمه ترنيم، يماني من أصل كريم. ولد في موسم تفتح أزهار البن، وامتلاء الضروع باللبن. تربّى تربية حسنة، وتحلى بأخلاق الكمال والعظمة. أتى صنعاء يبحث عن عمل، فدندنت الجبال هذا الفتى يساوي ألف رجل. اشتغل ببيع الذرة المشوية، وفي نفسه آمال مطوية. وفي يوم جاءته فتاة حييّة، ذات طلعة بهية، سمراء كالطين كالأرض الندية. اشترت منه وأعطته الباقي إكرامية. تفاهما بلغة الإشارة، وصلَّت العيون صلاة الغرام رغم الخِفارة. فلما تكررت الزيارة، غار الحارس وغمغم قد غمزت الصنارة! منعها من الخروج، وعيَّرها بأنها تتلهف الحصول على زوج!.”

سخر الرائد مُكْرِدْ صياد الحظ الصاعد: “أهذا بائع ذرة مشوية أم رئيس جمهورية؟! الأولى أن توضع العجوز في مصحة للأمراض العقلية.”

كتبت الفتاة اليتيمة، عن تلك الليلة الحزينة:

كنت أغط في نوم رغيد، فرأيت هذا المنام السعيد: شاب جميل كقوس قزح بريء الملامح، تسلل إلى غرفتي حاملاً بين كفيه حبه الجامح.
جثا قرب سريري وقد أضناه شوق مبرح. يده لم تلمسني، ونظره لم يفارق وجهي. فلما أفقت من حلمي، وجدته ماثلاً أمامي.”

قالت المربية راية: “يا من لست تدري، أتدري أن حبهما عذري، وأن الشرطة والحارس بينهما اتفاق جذري؟”

سمعتْ وداد صوتاً يناجيها، يُناغي أمانيها:

إني افتديتكِ بروحي لأنجيكِ من سحر الشيطان، من غيره الحارس الذي سمعكِ بافتتان، ذات نهار وأنتِ تغنين بعذوبة أحلى الألحان، فأقسم ألا يسمع صوتكِ بعد إنسان! نفث الأفعوان سمه مفسداً طعم القهوة حينما قرأ لكِ الفنجان، فتنبأ لكِ بالخرس الأبدي عندما يسلبك الموت حضن الأمان، فكانت وفاة والدتكِ المصابة بالسرطان بداية الأحزان. إن سعادتي لا توصف وستبقى على مر الزمان، عندما تعود لكِ القدرة على الكلام. تعزي بالأمل حتى تُزهر فوق ضريحي، زهور ناصعة البياض شكلها نجمي، تفرح القلب بشذاها الألوهي، فاقطفي وكلي، وتذكري أنها أورقت من بين ضلوعي.”

تضاربتْ الأنباء بشأن الشاهبندر عنتر، قيل انتحر في المهجر، قيل في صنعاء مقيد بالأغلال رهن الاعتقال في المخفر، وقيل في عدن نصفه غريق ونصفه احترق في خورمكسر.

توجست البلاد برمتها مما جرى، وتناقلت الأفواه الكلام المفترى. وتنازع الضباط فيما بينهم، وتراشقوا بالتهديدات والتهم.

أطلق الملازم جازم النار على المقدم فأرداه قتيلا، فهجم عليه العسكر كالنمل فأشبعوه تنكيلا.

ذكرت المربية قبيل دفنها مُسممة، في شهادتها السرية أمام المحكمة، أن حارس القصر لما زلت قدمه في الحديقة الموحلة، سقط على وجهه مبتلعاً زهرة مجهولة، فانتفخ رأسه وصارت له صورة مهولة، ثم بزغت الأشواك من جلده، والتصقت بالأرض عجيزته، وساختْ أطرافه في التراب كالجذور، وطلعتْ من صدره جهة اليسار، أشنع شجرة صبار.

عمّ اليقين ببراءة ترنيم، فصار أيقونة للحب الطاهر المستقيم، ونقش الفقراء اسمه في زوايا المدينة في كل قلب صميم وانتشرت صوره وسيرته انتشار النار في الهشيم.

لما الأرض تبسمتْ والسماء باسم شهيد الوَجْد ترنمتْ، شجرة البن أينعتْ، وبرائحة القهوة تضوعتْ، وأقبلت وداد واجتنتْ وردة من نسغ البراءة أزهرتْ،،
فتبسملتْ وأكلتْ، فبَطُلَ السحر وشُفيت، فبالحق نطقتْ، وبالحقائق
تكلمتْ.
أعلى