أحمد فضل شبلول - الحمَّى بين المتنبي وباكثير

وزائرتي كأن بها حياءً ** فليس تزور إلا في الظلامِ

قليل من الشعراء هم الذين يكتبون عن لحظات الفرح والمرح والسعادة والسرور التي تمر بهم في حياتهم، وكثيرون من الشعراء هم الذين يلجأون إلى أقلامهم في حالات الهم والحزن والألم والأسى والمرض والاحتياج والعوز، لذا فقد كثرت قصائد الحزن والألم والوحدة والغربة والمرض والعلة في الشعر العربي على امتداد عصوره المختلفة.
وانتقلت هذه العدوى إلى أغانينا المعاصرة فأصبحت أغاني الهجر والسهر والأرق والفراق والقسوة والخوف والدموع والأنين والنيران والأحزان .. الخ، هي السمة الغالبة على أغانينا.
ويبدو أن الإنسان العربي جُبِلَ على التغني بحزنه والكتابة عنه وإشهاره في وجوه الآخرين، أما لحظات الفرح والسعادة فإنه في الغالب يمارسها عن طريق المعايشة، ولا يلجأ، في معظم الأحيان، إلى قلمه للتعبير عنها. ولو كان الشاعر العربي يسجل لحظات فرحه مثلما يسجل لحظات حزنه ومرضه وخوفه لوصل إلينا كم لا بأس به من القصائد التي ترصد حالة الإنسان في مواجهة الخبر السعيد، أو ترصد أحاسيسه الدفينة التي تنطلق من إسارها لحظة السعادة والسرور والبهجة والانطلاق والحبور.
ويبدو أن لحظات الفرح والسعادة يغلب عليها الطابع الجماعي، فأغاني وقصائد الأفراح على سبيل المثال تعد أغاني وقصائد جماعية، أو أنها تغنى وتنشد في وجود مجموعة من البشر يحتفلون بمناسبة سعيدة أو سارة، أما أغاني وقصائد الحزن والمرض والأسى والألم، فإنها، في الغالب، أغان وقصائد فردية يكتوي بنارها الشاعر، ثم يسكبها على الورق خوفا من أن تحرقه، وتأتي على البقية الباقية من حياته الحزينة.
ويبدو أن مرض الحمى يعد من أكثر الأمراض التي يصاب بها الشعراء. إنهم بالتأكيد يصابون ـ مثل جميع الناس ـ بأمراض أخرى كذلك، ولكنهم أمام الحمى يجيدون التعبير عنها والكتابة فيها.
وقد كتب الشاعر الراحل علي أحمد باكثير (1907 ـ 1969) عدة قصائد ومقطوعات عن الحمى منها: "في حال مرض"، "تضرع على فراش الألم"، "ألمت بي الحمى"، "دعيني أيها الحمى"، "الروح الحنون" (1) وقد وقعت جميعها في 86 بيتا. وجاءت القصائد الثلاث الأولى من البسيط، والقصيدتان الأخريان من الوافر، فضلا عن قصيدة أخوانية كتبها عمر بن محمد باكثير (ابن عم الشاعر) بعنوان "أتحسدك البواعث والخطوب" وردت في ديوان "أزهار الربى في شعر الصبا" ص 146 وكانت بمناسبة مرض الشاعر بالحمى.
وكما نعرف فإن لأبي الطيب قصيدة شهيرة عن الحمى (2) وقعت في 42 بيتا وجاءت من بحر الوافر، يقول مطلعها: ملومكما يجل عن الملام ** ووقع فعاله فوق الكلام وتهدف هذه القراءة إلى إجراء مقارنة أو موازنة أدبية بين حمى المتنبي وحمى باكثير. * الحمي من الناحية الطبية والحمى (3) ارتفاع في درجة حرارة الجسم عن حدها الطبيعي، وهي في الصباح أو في النهار تكون أقل منها في المساء أو الليل، وارتفاع درجة الحرارة في الأمراض المعدية إجراء وقائي يتخذه الجسم ضد الجراثيم المغيرة التي لا تعيش ولا تتكاثر في درجة حرارة عالية. كما أن سرعة سريان الدم الناتج عن ارتفاع الحرارة تساعد في القضاء على هذه الجراثيم، والحمي أنواع منها: حمى الملاريا، والحمى الصفراء، والحمى القرمزية، والحمى الروماتيزمية، والحمى الفحمية، والحمى المالطية، وحمى النفاس (وهي التي تصيب النفساء من عدوى أثناء ودلاتها). بالإضافة إلى حمى الأرانب، وحمى الألبان، وحمى تكساس، وحمى الدريس، وحمى القراد، وحمى المتموجة، وحمى المنطقة .. وغيرها.
وشعراؤنا في قصائدهم عن الحمى لم يحددوا ـ بطبيعة الحال ـ نوع الحمى التي أصيبوا بها، ولكنها حمَّى .. وكفى. ولئن كان تاريخ الإصابة بالحمى ـ وغيرها من الأمراض ـ مهما في التأريخ لحياة الشاعر، فإنه من الناحية الفنية قد لا يكون له أهمية تذكر سوى معرفة تطور الشاعر الفني. * تاريخ الإصابة بالحمى أصيب المتنبي بالحمى، وهو يعرض بالرحيل عن مصر، في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة (348 هـ) أي وعمره خمسة وأربعون عاما، وقبل وفاته بست سنوات، أما باكثير فيبدو أنه أصيب بالحمى في حياته أكثر من مرة، ولكن التاريخ المثبت على قصائده التي قالها عن الحمى في ديوان "أزهار الربى" هو 28 من ذي القعدة سنة 1344 هـ (الموافق 8 يونيو 1926) وكان في ذلك الوقت موجودا في سيؤون بحضر موت، وكان عمره لم يتعد تسعة عشر عاما (4) بنص البيت الذي يقول فيه بقصيدة "دعيني أيها الحمى": أكاد ولم أجز تسعا وعشرا ** من الأعوام من هم أشيبُ
* حمي المتنبي وقعت قصيدة المتنبي عن الحمى في اثنين وأربعين بيتا، إلا أننا نستطيع القول إن البداية الحقيقية للحديث عن المرض تبدأ من البيت السابع عشر حين يقول: أقمت بأرض مصر فلا ورائي ** تخب بي المطي ولا أمامي
وملَّني الفراش وكان جنبي ** يمل لقاءه في كل عامِ
قليل عائدي سقم فؤادي ** كثير حاسدي صعب مرامي
عليل الجسم ممتنع القيام ** شديد السكر من غير المدامِ
وزائرتي كأن بها حياءً ** فليس تزور إلا في الظلامِ أما الأبيات السابقة على هذه الأبيات، فهي استعراض لمتاعبه بعامة في مصر وملوله من حياة الدعة والراحة (أتعب بالإناخة والمقام) وأنه لم يخلق إلا للسيف والقتام والسفر والتجوال، وأنه خبر الناس والحياة، فلم يجد في عيوب الناس شيئا كنقص القادرين على التمام، لذا يأتي هذا الجزء السابق لحديثه عن الحمى، محملا بالكثير من التأملات والأحكام والحكم مثل: يحب العاقلون على التصافي ** وحب الجاهلين على الوسامِ أو .. ومن يجد الطريق إلى المعالي ** فلا يذر المطي بلا سنامِ
ولم أر في عيوب الناس شيئا ** كنقص القادرين على التمامِ ولم تخل هذه الأبيات من إشارات جانبية إلى كافور الأخشيدي الذي تسبب في كراهيته في الإقامة بمصر، وجلب عليه الأسى والمرض مثل: فلما صار ود الناس خبا ** جزيت على ابتسام بابتسامِ
وصرت أشك فيمن أصطفيه ** لعلمي أنه بعض الأنامِ ويحكي المتنبي أنه قال "كنت إذا دخلت على كافور وأنشده يضحك إليَّ ويبش في وجهي حتى أنشدته هذين البيتين، فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا فعجبت من فطنته وذكائه." (5)
وهذا اعتراف صريح من المتنبي بأنه كان يقصد كافور بالفعل عند كتابة أو إنشاد هذين البيتين، وإلا لما قال فعجبت من فطنته وذكائه.
ثم تبدأ أبيات الحمى في الظهور في فضاء القصيدة.
ويبدو أن معاناة المتنبي من كافور ومن إقامته في مصر، كانت أعتى وأسوأ من معاناته من الحمى، لذا فقد تقدمت هذه الأبيات الستة عشر على أبيات الحمى، وتحدث الشاعر، من خلالها، عن نفسه، وعن سجاياه وطبائعه التي لم يجد لها أرضا صالحة في مصر بسبب ما وجده عند كافور، ثم يبدأ بعد ذلك في الحديث عن الحمى التي هي ضد طبيعته حيث لم يعرف المبيت في الفراش كثيرا، والحمى تجبره على ذلك، وكان البيت السابع عشر: أقمت بمصر فلا ورائي ** تخب بي المطي ولا أمامي هو الفيصل بين الحديث عما لاقاه من عنت وصدود في مصر بعامة، ومعاملة كافور السيئة له، وبين الحديث عن الحمى الذي ألم به، وهو يستعد للرحيل عن مصر فاضطر للجلوس والبقاء بين نارين: نار كافور، ونار الحمى. * حمي باكثير أما الحال عند باكثير فهو جد مختلف، فالشاعر يعيش في وطنه، وعلى أرضه وبين أهله وناسه، وإن كنا سنرى فيما بعد أنه يضيق بذلك كله، ويحس أنه يعيش في غربة كالتي يعيش فيها المتنبي.
يقول باكثير في "دعيني أيها الحمى": أرى حولي أناسا ليس فيهم ** شعورٌ لا ولا لهمُ قلوبُ
يرون المال أنفس كل شيء ** وفي الإحسان ليس لهم نصيبُ أيضا لا يوجد كافور عند باكثير، وإن كان وصفه السابق للناس من حوله يعني أن كلهم كافور، ولكن على أية حال لا يوجد الحاكم الذي ينغص عليه حياته، ويجعله يفكر في الرحيل أو الهرب من البلد الذي يعيش فيه، لذا فإن باكثير يكتب عن الحمى مباشرة وانعكاساتها على حياته بعامة فيقول في أول مقطوعة يكتبها عن هذا المرض، وهي بعنوان "في حال مرض": أصبحت لا أستطيع العير أركبه ** وقد أكون وعاتي الخيل مركوبي
وأصبح المشي مطلوبي وكنت وما ** قوى المدافع إلا دون مطلوبي
كأنما مسني عما بليت به ** سقم (ابن متى) تلاه ضرُّ (أيوبِ) ونلاحظ في هذا البيت كيفية التوظيف القرآني عند باكثير، حيث (سقم ابن متى) ولعله يقصد به (نبي الله يونس الذي ابتلعه الحوت، والمذكورة قصته في القرآن الكريم، وربما يكون ذلك إشارة إلى قوله تعالى {فنبذناه بالعراء وهو سقيم} الآية 145 الصافات). (6).
أما ضر أيوب فيقصد به ما أصاب أيوب من أمراض وعلل (هرب على أثرها الصديق وجانبه الرفيق وعافه الجليس وأوحش منه الأنيس ورغب عنه أهل قريته، ورفضه خلق الله غير امرأته الرؤوم). (7). * المدخل المناسب إلى الحمى عند باكثير ولعل هذا التوظيف الديني أو القرآني هو المدخل الذي وجده باكثير مناسبا في حديثه عن الحمى كما سنرى في قصائده التالية.
بيد أن الشاعر يبدأ قصيدته "تضرع على فراش الألم" بالدعاء والضراعة والمناجاة والاعتراف بالذنوب وطلب الغفران فيقول: يا رب إني إليك اليوم معتذر ** مما جنيت من العصيان والزللِ
نقوم للصلوات الخمس ليس لنا ** منها سوى حركات الجسم والنقلِ
ولا نصوم سوى ما قد فرضت على ** كل الورى وهو مملوء من الخطلِ
نمسي ونصبح في لهو وفي لعب ** وما لنا غير حسن الظن من عملِ
وها أنا اليوم محمول على وهج ** من حر سقمي ورأسي بالصداع بلي
حران بالقلب من نار الذنوب ومن ** نار السقام فجد بالبرء من عللي إن ارتفاع درجة حرارة الشاعر، ليس سببه الحمى، ولكن سببه نار الذنوب التي اقترفها الشاعر، لذا فإنه يلجأ إلى الله لطلب المغفرة.
وهو في قصيدة أخرى يتذكر زوجته الراحلة (الحنون) التي كانت ستخفف عنه كثيرا من ويلات الحمى وما يصاحبها من صداع وألم: ذكرت حبيبتي فهفا بقلبي ** تذكر تلكم الروح الحنونِ
فلو كانت معي لأزال شكوى ** مرور بنانها فوق الجبين ولكن هناك الصديق الذي قد يعوض شيئا من فقدان الزوجة. فقد كان محمد علي لقمان (والد الكاتب الصحفي فاروق لقمان)، صديقا للشاعر باكثير، وكان من أكثر عواده أثناء إقامته في عدن، لذا فإن الشاعر لم ينس ذكره أثناء مرضه، فبعد أن تحدث عن زوجته الراحلة، يلتفت إلى لقمان فيقول: حبست الدمع حتى جاء خلي ** ليمسحه ففاض من الجفونِ
فما مبكاي من جزع ولكن ** كما يشكو الخدين إلى الخدينِ
فدم يا سيدي لقمان طبا ** وسلوى للعليل وللحزينِ
فكم فرجت من همي وضيقي ** وكم كفكفت من دمعي السخينِ
* الحمي بين التصريح والتلميح وإذا كان باكثير يذكر الحمى صراحة أكثر من مرة في قصائد مثل قوله: وها أنا اليوم محموم على وهج ** من حر سقمي ورأسي بالصداع بلي و.. وقد ألمت بي الحمى الشديدة يذ ** كيها الصداع ومنك البرء مسؤول و.. دعيني أيها الحمى أجيب ** أخًا .. ثغر الزمان به شنيب (8) وغيرها من الأبيات، فإن المتنبي لا يرد عنده ذكر للحمى صراحة، وإنما كان يكني عنها بعدة معان وصور مثل قوله: وزائرتي كأن بها حياءَ ** فليس تزور إلا في الظلام و.. أبنتَ الدهر عندي كل بنتٍ ** فكيف وصلتِ أنتِ في الزحام فمرة يصفها بالزائرة، وأخرى ببنت الدهر، وهو عندما يريد أن يذكرها صراحة، فإنه يلجأ إلى الاشتقاق اللغوي على نحو قوله: فإن أمرض فما مرض اصطباري ** وإن (أحمم) فما حمَّ اعتزامي
* المتنبي لم يدع ولم يتوسل وإذا كان باكثير اتخذ من الدعاء والتوسل والضراعة وطلب العفو وسيلة للشفاء من المرض وذكر اسمه ضمن قصائده، فإن المتنبي لم يفعل ذلك، ولم يلجأ إلى الدعاء وطلب العفو والشفاء من الله، وإنما اتخذ من مرضه فرصة ليذكر لنا أمجاده وبطولاته وشجاعته وإقدامه، وكيف أن الحمى أبعدته مؤقتا، عن تحقيق آماله وأحلامه، وهو يتعجب منها لأنها وصلت إليه في زحام الشدائد والأفكار التي تكالبت عليه، وهو موجود في مصر. أبنتَ الدهر عندي كل بنت ** فكيف وصلت أنتِ في الزحامِ
جرحتِ مجرحا لم يبق فيه ** مكان للسيوف ولا السهامِ
ألا يا ليت شَعر يدي أتمسى ** تصرف في عناد أو زمام
وهل أرمي هواي براقصات ** محلاة المقاود باللغام
فربما شفيت غليلَ صدري ** بسير أو قناة أو حسام
وضاقت خطة فخلصت منها ** خلاص الخمر من نسج الفدام
وفارقت الحبيب بلا وداع ** وودَّعتُ البلاد بلا سلام
* وصف الحمى وعلى طول قصيدة المتنبي لم نر أي دعاء أو توسل لله كي يخفف عنه مرضه وأوجاعه وآلامه، ولكن من ناحية أخرى فقد أجاد المتنبي وصف المرض وأثره على جسمه، والتغيرات الجسدية المصاحبة له مثل قوله: يضيق الجلد عن نفسي وعنها ** فتوسعه بأنواع السقام
إذا ما فارقتني غسلتني ** كأنا عاكفانِ على حرام وقد قال أحد الشراح، وهو الواحدي، في شرح البيت الأخير "إن الشاعر يريد أنه يعرق عند فراقها فكأنها تغسله لعكوفها على ما يوجب الغسل، وإنما خص الحرام للقافية، وإلا فالاجتماع على الحلال كالاجتماع على الحرام في وجوب الغسل."
أما ابن الشجوي فقال في شرح هذا البيت، "وإنما خص الشاعر الحرام لأنه جعلها (أي الحمى) زائرة غريبة، ولم يجعلها زوجة ولا مملوكة." (9)
وأكاد اتفق مع رأي ابن الشجوي.
ويمضي المتنبي في وصف الحمى وتأمل فعلها في جسمه فيقول: كأن الصبح يطردها فتجري ** مدامعها بأربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق ** مراقبة المشوق المستهام
ويصدق وعدها والصدق شر ** إذا ألقاك في الكرب العظام إنه يرقب وقت زيارتها له في جزع وخوف، وأنها تصدق في وعد الزيارة ولا تتخلف عن حضورها، وهذا الصدق في نظر الشاعر يعد أشر صدق، أو أنه صدق أشر من الكذب، لأنه يضر ولا ينفع.
أما باكثير فإنه في قصائده عن الحمى لم يلجأ إلى وصف وقعها على جسمه إلا في المقطوعة الأولى التي احتوت على ثلاثة أبيات فقط وهي: أصبحت لا أستطيع العير أركبه ** وقد أكون وعاتي الخيل مركوبي
وأصبح المشي مطلوبي وكنت وما ** قوى المدافع إلا دون مطلوبي
كأنما مسني عما بليت به ** سقم (ابن متى) تلاه ضر (أيوبِ) عدا ذلك فإنه لجأ إلى التعميم مثل قوله: وقد ألمت بي الحمى الشديدة يذ ** كيها الصداع ومنك البرء مسؤول أو قوله: وما أدري وقد أوهنت جسمي ** أأخطيء في مقالي أم أصيبُ
وبين الجسم والفكر ارتباط ** إذا ما طاب ذاك فذك يطيبُ
* الأطباء والعواد وإذا كان باكثير قد التف من حوله الأقارب والأصدقاء، وكتب بعضهم قصائد المواساة والعزاء ثم التهاني بالنجاة والشفاء، فإن المتنبي كان يشكو قلة عواده وكثرة حاسديه، فيقول: قليل عائدي سقم فؤادي ** كثير حاسدي صعب مرامي أما بالنسبة للطبيب المعالج أو الأطباء الذين يتوجهون للمريض أو يتم استدعاؤهم في حالة الإصابة بمثل هذا المرض، فقد لاحظنا تباينا شديدا بين الشاعرين في هذا الأمر، فعلى الرغم من تقدم الطب في عصر باكثير عنه في عصر المتنبي، بحكم التطور والتقدم في جميع المجالات الطبية وغيرها، فإن باكثير لم يجد طبيبا مداويا أو معالجا في بلده، الأمر الذي جعله ييأس من الشفاء العاجل، ويكثر من التضرع والدعاء والتوسل، ويهجو البلد الذي يعيش فيه، ويتهم أهله بالتخلف وجمود الطبع، فيقول في قصيدة "دعيني أيها الحمى": وغادريني طريحا في الفراش ** بأرض ما بها أبدا طبيبُ
بأرض ترخص الأعمار فيها ** تهون إذا بقي المال الخطوبُ
أرى حولي أناسا ليس فيهم ** شعور لا ولا لهمُ قلوبُ
يرون المال أنفس كل شيء ** وفي الإحسان ليس لهمْ نصيبُ
وينتسبون للعلم ادعاءً ** وعلمهم أتى زيد رقيب
وعندهم جمود الطبع فضل ** وقول الشعر عندهمُ معيبُ أما الحال بالنسبة للمتنبي، فقد كان الطبيب المعالج موجودا، وذهب إليه أكثر من مرة، ويبدو أنه حذره من بعض الشراب والطعام، كعادة الأطباء، ولكن كالعادة فإن المتنبي يحيل سبب المرض لا إلى الطعام والشراب، ولكن لطول القعود وحياة الراحة وقلة الأسفار أو انعدامها أثناء وجوده في مصر، وكذلك البعد عن الحروب، فهو كالفرس الجواد الذي يضره طول قياده في المرابط.
يقول المتنبي: يقول لي الطبيب أكلت شيئا ** وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جواد ** أضر بجسمه طول الجمام (10)
تعود أن يغبر في السرايا ** ويدخل من قتام في قتام
فأمسك لا يطال له فيرعى ** ولا هو في العليق ولا اللجام
* مصر عند الشاعرين إذا كان باكثير يقيم في حضر موت وقت أن ألمت به الحمى، وهو إذ ذاك في التاسعة عشرة من عمره، فإن مصر ظلت له هاجسا جميلا ووطنا يود زيارته بعد شفائه وقيامه من فراش المرض.
يقول لابن عمه في "دعيني أيها الحمى": سأنهض من سقوطي غير شاك ** ولا وانٍ وربي لي حسيبُ
وأركب ذروة الأخطار إني ** ليعجبني على الخطر الركوبُ
سأرحل من بلاد ضقت فيها ** تلازمني بها أبدا شعوبُ
وأعبر مصر حيث العلم حيث ** الحضارة حيث يُحترم الأديبُ
وحيث الشعر خفاق لواه ** وحيث الضاد مرعاها خصيب
وحيث النيل يجري في اطراد ** يسر القلبَ منظره المهيب أما الحال عند المتنبي، فمختلف إلى حد التناقض، فالمتنبي كان يقيم في مصر وقت إصابته بالحمى، وهو يعزو مرضه إلى الحصار الذي ضربه حوله كافور الإخشيدي، وهو في الوقت الذي كان يخطط فيه للهروب من مصر تصيبه الحمى فتقعده عن تنفيذ ما يخطط. يقول: أقمت بأرض مصر فلا ورائي ** تخب بيَ المطي ولا أمامي إن عدم الاحتفاء به في مصر على النحو الذي كان يتمناه عندما قدم إلى كافور، وتلاعب كافور به والتضييق عليه في الحياة وفي الأحلام كذلك، جلب له المرض الأمر الذي ألزمه الفراش رغما عنه، هذا الفراش الذي لم يكن يلجأ إليه إلا مرة كل عام لأنه كان دائما على سفر وترحال في سبيل الشرف والمجد: وملني الفراش وكان جنبي ** يمل لقاءه في كل عام كل هذا جعله يكره الإقامة في أرض مصر، ويفكر في الرحيل عنها على عكس ما وجدنا عند باكثير الذي كان يرى في زيارة مصر حلما من أحلامه التي يود تحقيقها بعد شفائه من الحمى.
وإذا أمعنا النظر فإن الشاعرين ينطلقان من موقف شعري واحد، أو من إحساس واحد، وهو كراهيتهما وعدم رغبتهما في البقاء على الأرض التي يعيشان عليها عند وقوع المرض. ولكل شاعر أسبابه الوجيهة في ذلك، وقد تحقق لكلا الشاعرين ما أمَّلاه وخططا له، فرحل المتنبي عن مصر سنة 350 هـ بعد أن لاقى ما لاقى، فاضطر للخروج هاربا تحت جنح الليل، وذهب باكثير إلى مصر عام 1934 (1353 هـ) وحقق هناك نجاحات عديدة فاشتهر اسمه ولمع نجمه كأديب عربي كبير يقيم على أرض مصر، ونال الكثير من الجوائز الأدبية، ومنها جائزة الدولة عام 1962 عن مسرحيته "هاروت وماروت" وظل بمصر إلى أن توفاه الله عام 1969. * خاتمة بصفة عامة فإن باكثير لم يستفد من تجربة الحمى التي ألمت بالمتنبي وكتب عنها قصيدته الشهيرة على الرغم من إطلاعه (أي باكثير) على عيون التراث العربي منذ صغره.
ويبدو أن كثرة عواد باكثير أفسدوا عليه الرؤية الشعرية التي كان من الممكن أن ينفذ إليها من خلال الحديث عن المرض وعن نفسه لو قام بتأمل ورصد التحولات النفسية والجسدية كما فعل المتنبي، ولكنه اهتم أكثر بالرد ـ شعرا ـ على أقاربه وأصدقائه الذين نظموا له شعرا أثناء مرضه، فهو في "ألمت بي الحمى" يملي القصيدة على بعض أخوانه الذين يعاودونه. وفي "دعيني أيها الحمى" يرد على الأبيات التي أهداها إليه صديقه وابن عمه عمر بن محمد باكثير، وتتوشح هذه القصيدة بعبارة نثرية تقول "فأجابه صاحب هذا الديوان بقصيدة من نفس البحر والقافية." (11).
وفي "الروح الحنون" يهتم بذكر زوجته وحبيبته الراحلة وصديقه محمد علي لقمان أكثر من ذكر المرض نفسه أو الحديث عنه، الأمر الذي يجعلنا نقول إن قصائد باكثير في الحمى معظمها ينتسب إلى (الأخوانيات) أكثر من الوصف النفسي، وقد أفقدها هذا الجانب الكثير من التركيز على المرض نفسه.
وفي جملة نقول إن باكثير تعامل مع الحمى من الخارج، بعكس المتنبي الذي تعامل معها من الداخل، ولعل في بيت المتنبي: بذلت لها المطارف والحشايا ** فعافتها وباتت في عظامي ما يدل على هذا التعامل مع ظاهرة المرض من داخلها، وبالتالي فإن أبيات المتنبي عن الحمى تعد أكثر تأثيرا وخلودا من قصائد باكثير عنها. أحمد فضل شبلول ـ الإسكندرية



* الهوامش والإحالات

1 ـ هذه القصائد عدا الأخيرة "الروح الحنون" مثبتة بديوان باكثير "أزهار الربى في شعر الصبا" تحقيق وتقديم محمد أبوبكر حميد. نشر الدار اليمنية للنشر والتوزيع ط1، 1408 هـ 1987، ص 78، و98، و99، و150 على التوالي. أما القصيدة الأخيرة "الروح الحنون" فهي قصيدة مخطوطة أرسلها لي عن طريق الفاكس د. محمد أبوبكر حميد بخط الشاعر باكثير.
2 ـ شرح ديوان المتنبي. عبدالرحمن البرقوقي ج 4، بيروت: دار الكتاب العربي 1407 هـ 1986، ص 272 و280.
3 ـ الموسوعة العربية الميسرة. القاهرة: دار الشعب 1407 هـ 1987، ص 740 و742.
4 ـ بالتأمل في هذه التواريخ المثبتة في تلك الفقرة يتضح لنا أن باكثير من مواليد 1907 = 1325 هأ، وليس كما رجح د. محمد أبوبكر حميد 1903= 1321 هـ في هامش ص 11. بالطبعة الأولى من "أزهار الربي في شعر الصبا".
5 ـ شرح ديوان المتنبي. مرجع سابق، ص 274.
6 ـ أزهار الربى في شعر الصبا. مرجع سابق ص 78.
7 ـ معجم أعلام القرآن. د. محمد التونجي. أثينا: منشورات شركة المجتمع العربي للصحافة والنشر، ص 72.
8 ـ شنيب: أبيض الأسنان حسنها.
9 ـ شرح ديوان المتنبي. مرجع سابق ص 276 و 277.
10 ـ الجمام: الراحة.
11 ـ أزهار الربى في شعر الصبا. مرجع سابق، ص 150.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى