فكرى عمر - الأبواب البيضاء الثلاثة.. قصة قصيرة

رآه متربعًا على كرسى فخم ذى غطاء من القطيفة كُحْلِى اللون، يسند رسغيه على مسندى الكرسى تاركًا راحتيه ذات الأصابع الطويلة تتهاديان إلى أسفل، بيده اليسرى مسبحة حباتها خضراء ذات بريق يخطف العين، مسبحة طويلة تصل إلى ما قبل الأرض بقليل وهى تلف بآلية وببطء بين أصابعه، ويده اليمنى تقبض على منشة خيوطها بلاستيكية زرقاء، ومقبضها عاج سُكّرى اللون.

أحس أنه رآه من قبل وهو يلبس نفس الجلباب البيج، ويعتمر طاقية بُنيَّة من الصوف على رأسه، لكن لا يذكر أين. كلما تقدم الشاب خطوة اتسعت ابتسامة الشيخ الجالس، وامتد خيط الطمأنينة. تربع الشاب أمامه بإشارة مُنتظرًا أوامره. الحجرة حديثة البناء، طلاؤها جديد لامع، شريط مزخرف ذهبى اللون يفصل بين طلاء السقف الأبيض والجدران الفزدقى، حوامل على شكل قراطيس من الخشب مطلية بالبنى اللامع فى الأركان تنتفش منها زهور صناعية حمراء، وصفراء، وأعناق خضراء كثيفة، السجاد قطيفى الملمس أيضًا به ورود مرسومة وأعناق محفورة. أمره بنبرة لينة:

- احفظ كتابك لتكرره بعد ذلك على أذنى وأنت مغمض العينين.

على الجانب الأيمن للشاب باب، وعلى جانبه الأيسر باب، ووراءه باب لمحه وهو يدير رأسه فجأة. ثلاثة أبواب بيضاء كبيرة، خلفها فيما يلمح فى الشق الموارب ظلام. من أى باب أتى يا تُرى؟ ولماذا هذه الأضواء الباهرة فى حجرة كبيرة خلف أبوابها ظلام غامض كأنها مُشيدة وسط خلاء؟

لا يذكر الآن. لعل مهابة الموقف أطاحت بذكريات ما قبل اللقاء بهذا الشيخ المهيب ذى اللحية المصبوغة بالحناء، والعينين السنجابيتين ذواتى النظرة الواثقة فى وجه برونزى، والفم الذى ينطق الكلام بتأنٍ كأن الزمن بين يديه ممتد بلا نهاية. نسى الشاب حتى اللحظات القليلة التى سبقت هذا اللقاء الذى ما توقعه أبدًا، ولا اختاره، فهو الآن لا يلمس داخله أمنية بلقاء كهذا فى زمن يمتلئ بالمشاغل، والسرعة لا بالهدوء، والبراح، والغموض.

حقًا. لن يستطيع أن يركز فى أكثر من شىء فى وقت واحد. ليس الرجل هو شيخ الكتاب «إسماعيل المهدى» الذى يناديه الشاب إلى يومنا هذا كلما رآه بـ«سَيِّدنا»، وإن كان بجلسته تلك يذكره بأجواء الطفولة وإن بشكل أكثر بذخا بكثير. إنه يرى الشيخ «إسماعيل» أحيانًا خارجًا من الجامع بعصا خيزرانية يستند عليها، ومشية منكسرة من أثر شلل أطفال فى قدمه اليسرى، بطيئًا فى الحركة، وانحناءً خفيفًا فى الظهر مع لحية طويلة صارت خيوطها بيضاء بلا سواد، وشارب محفوف. يمد يده قبل أن تسقط المسافة بينهما قائلًا: «سلام عليكم يا سيدنا»، والشيخ «إسماعيل» يرفع فيه عيونًا مبيضة قائلًا بفرحة: «إزيك يا أستاذ أحمد. أخبارك إيه؟ وأخبار والدك، ووالدتك؟».

إنه يخجل من مناداة شيخه له بالأستاذ. تربطه بأبويه صلة قرابة، وثمة نقطة داخلية تصرخ فيه وهو يراقب الشيخ يمشى إلى بيته منكسرًا، حتى تخفيه الشوارع الجانبية أن الصورة تتجسد مرة أخرى فى روحه هو، وروح كل من امتهن مهنة التعليم فى الكُتَّاب، أو المدرسة عدا هذا الرجل الذى يجلس أمامه الآن والذى يحس الشاب أنه يتخذ من التعليم مهنة للثراء، وإذلال للمتخاذلين.

الحجرة الواسعة تُشعل خياله بألوانها الباهرة، وزخارفها، واتساعها المذهل، وسقفها الأبيض المقبب الذى تهبط من بعض شبابيكه المفتوحة نسمات هواء باردة، فتملأ روحه بخفة طائر محلق فى السماء. عليه أن ينتبه، فشيخه «إسماعيل» كان يضربه بجلدة سوداء ألمها يحرق الجلد كلما نسى حفظ لوحه، لكنه اكتشف بعد عُمر أن شيخه «إسماعيل» ما هو فى النهاية إلا رجل فقير كانت جلدته السوداء تحمل ضيق نفسه، وقلة حيلته أمام عشرات الأطفال الذين لا يكفون عن الشقاوة دون أن يعى طريقة أفضل للتعامل. وكان فى النهاية يستكين أمام تلميذ يهدده ألا يجىء مرة أخرى، أو تلميذ بارع يتأفف منه. أما هذا الجالس فى حجرة باتساع المدى، تبدو عليه آثار الثراء، والعافية فلا يضربه، ولا توجد عصا للعقاب بيده، لكن من قال إن أثقل عقابٍ بالعصا فقط؟!

إن نظرته حارقة ويبدو ما وراءه مخيفًا قاسيًا بلا مداولة، ولا شفاعة.

هل هو فى اختبار من تلك الاختبارات التى يذهب إليها أملًا فى السفر إلى الخليج لتحسين أحواله، فيفاجأ بعد انتظار الساعات تلو الساعات بأسئلة لا تخطر على البال؟

هل تتبدل الأمور فى لحظة، فتنقلب البسمة إلى غضب، ونقمة، ويضيع الأمل فى تحسين الأحوال، ويعلو صوت هذا الشيخ فى زعقات متتالية: «اخرج بره» قبل أن يدرك الشاب ما ينتظره؟

هل هناك آخرون ينتظرون دورهم وراء الأبواب البيضاء؟

عليه إذن ألا يكون أنانيًا، وأن يشبع جزءًا قليلًا من نفسه من هذا الجمال الطاغى، والهدوء المطمئن حتى تتكرر لقاءاته به ليكسبه إلى صفه. كل ما يذكره أنه لم يظفر بشىء من معارف هذا الرجل من قبل. سأله الشاب بغتة:

- لماذا يفهم الناس غالبًا عكس ما أقصده بكلامى، ومواقفى؟

- لأنهم يفهمون بقلوبهم، والقلوب متقلبة.

- لماذا...

رفع الشيخ كفه بالمسبحة فى مواجهته.

- من فضلك احفظ كتابك، واحرص على ثلاث خصال فى وجودى: الطاعة، والصبر، والكلام بعد إذن.

أول كبح يتلقاه. أحس بالحرج، وانكمش فى جلده. ليس هذا الرجل من بقية أهله ليتحمله، ولا قريب للشيخ «إسماعيل» ليعامله بالوصاية. لا بوادر لأى شبه بينه وبين كل أهله ومعارفه، ولا بيته يحوى حجرة كتلك. وكما توقع بالضبط. ليته يوجه إليه نظرة غضبى، أو يهدده. أما هذا الكلام الذى يحتمل أكثر من معنى، والنظرة الهادئة المحسوبة، فلا يطمئن إليهما.

لما فرد كتابه قرأ فيه: «أراه متربعًا على كرسى فخم ذى غطاء من القطيفة كحلى اللون...

حتى وصل إلى الجملة التى جالت برأسه منذ برهة: «ليته يوجه إلى نظرة غضبى، أو يهددنى. أما هذا الكلام الذى يحتمل أكثر من معنى، والنظرة الهادئة المحسوبة، فلا أطمئن إليهما».

قال لنفسه: (أى اختبار وقعت فيه الآن؟ هذا أمر لا يتصور حدوثه). وتذكر أيام الدراسة والمذاكرة. تلك الكلمة التى كانت تسلخ أذنيه فى الذهاب والمجىء من أمه، وأبيه، وأساتذته.

- بعد إذنك. أنا فعلًا أحفظ كل ما فيها.

- راجع مرة أخرى. قد تفوتك أشياء، أو تنسى خواطر.

- لا. لا تقلق، ولكن ألن تمنحنى مكافأة؟

قال ذلك حين أحس بكل تلك النِعَم التى تحيط بالرجل، فيفوز منها بنصيب، وأغراه إحساسه بالفراغ الذى يعيشه هذا الشيخ، والذى جعله يضع الشاب فى اختبار غريب.

- ماذا تريد كمكافأة؟

- مفاجأة غير متوقعة. مثلك يقدر عليها.

ضحكته دافئة كشمس العصارى.

مرة أخرى فتح الكتاب فقرأ: «أراه متربعًا على كرسى فخم ذى غطاء من القطيفة كحلى اللون... حتى وصل إلى جملة «ضحكته دافئة كشمس العصارى».

نشف دمه هذه المرة. مُربك هذا التكرار للمرة الثانية. كل ما يراه، ويفكر فيه، ويتحاور معه به يجده مُدونًا فى كتابه العجيب. كأن الكلمات تتشكل بين سطوره لحظة بلحظة.

ليس غريبًا فى هذا الزمن أن تجد مكانًا، أو شخصًا يوحى بأجواء زمنية مندثرة وفى الآن ذاته تجد به، أو معه أحدث وسائل التكنولوجيا العصرية، لكن امتلاك القدرة على ضبط النفس أمام هذا الشيخ وإزاء هذا الابتكار لأمر مستحيل، ومنع القلب من رجفة مزلزلة لمعجزة، والاطمئنان إليه سذاجة. ثمة سطور بيضاء عليها بدايات كتابة لم تتشكل بعد.

- الكرسى فخم، المسبحة مذهلة، الحجرة تليق بحكيم فى عصر غير هذا العصر الذى لا يعرف الحكمة.

نظر إلى الأسطر الفارغة وهى تُملأ بما هَجَس به لنفسه الآن.

كانت الأبواب الثلاثة المواربة تهتز، تصدر صريرًا مخيفًا وهى توشك أن تنفتح على مجهول لا يدرى درجة الخطورة، أو ضياع الفرصة الكامنة وراءه. الوقت يمر، والورقة تمتلئ، وهو ينسى.

- كفى إلى هنا.

أخذ يكرر ما حدث بالضبط، والشيخ يشير برأسه فى كل مرة إليه قائلًا: «أكمل»، ويرد: «أنت تسخر منى، وتخدعنى»، لكنه حين ينظر فى الكتاب يجد هواجس جديدة وكلمات أخرى أمامه.

أغمض عينيه، وفتحهما. صار يتلفت للأبواب رغمًا عنه متخيلًا ما وراءها، خصوصًا وقد بدأ شبح الظلام يخف قليلًا، وتترامى ظلال متداخلة على الحوائط الخارجية التى يلحظها من الشق الموارب للباب. اضطرب من خواطر مخيفة. لن يتكلم كلمة جديدة، ولن يسمح لعقله بخاطر عارض؛ كى لا يكون مطالبًا بحفظهما.

راح يكرر للمرة الثالثة ما تلاه من الكتاب فى المرتين السابقتين؛ كى ينهى هذا الأمر بشكل حاسم؛ ليفهم متى جاء إلى هنا، ولأى مطلب جاء، وبالمرة يكشف هوية من يتحركون وراء الأبواب، أو يفلت من فخ لا يدرى درجة خطورته، لكن أيقظه من آلية تكراره مرة أخرى خبطة بعصا المنشة على الكرسى، وكلمة التحذير المعتادة من الشيخ: «قف، تخطئ كل مرة. لن تخرج من هنا، أو تفوز بمكافأة سوى بالإجادة فيما طلبت منك».

مرة أخرى اضطرب قلبه بالأمل، والخوف وهما يتصارعان، وبهذه الأبواب التى بدا ضوؤها يزيد فيشعل حواسه بالتساؤل. قال لنفسه: (الأمل فخ، والخوف فخ، فأى طريق سَوى إذن يجب أن أمشى فيه لأعيش مطمئن البال؟). حين فتش بعينيه فيما حوله اكتشف أنه صار وحده فجأة فى الحجرة الكبيرة. نظر إلى الكتاب مرة ثانية؛ يستعين به، فإذا بكل ما قرأه سابقًا ينمحى تمامًا، ويفقد عقله القدرة حتى على استحضار هيئة الشيخ الذى خدعه، وترك الحجرة فى غمضة عين؛ ليحل محل كل ذلك سؤال وحيد فى كل السطور، والصفحات كقدر لا مناص منه، ولا إجابة: «ماذا وراء الأبواب البيضاء الثلاثة؟».

ارسل تصحيحاً

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى