أمل الكردفاني - المتسول.. قصة قصيرة

استيقظ الصباح فمسح ساقيه بكفيه المتخشبتين، المشي الكثير قوَّى عضلات قدميه، غير أن إصابته بالسُّكري، أعادت إليها الوهن من جديد..
فكر قليلاً: زوجتي كانت تحقق دخلاً معتبراً من التسول لأنها جميلة.. ومنذ هروبها مع ذلك الأحمق ودخلي يتدهور.. الناس لا ينفقون من أجل الرحمة بالضعفاء أمثالي بل من أجل إشباع رغباتهم أكثر.. عليهم اللعنة..
أيقظ الولدين، أحدهما في السابعة عشر والآخر في العاشرة من عمره. نظر إلى وجه الصغير عن كثب وبادله الصغير نظرات متسائلة. فكَّر: هذا الصبي لا يشبهني أبداً .. أقسم بالله أن والده رجل ثري.. الولد يملك عيني ملوك.. وجهاً بريئاً.. ملائكياً.. لا.. مستحيل.. من أبوه يا ترى؟..
- هيا إلى العمل يا أولاد..
قال الكبير: ليس هناك عمل.. الناس لا يخرجون بسبب الكورونا...
رد عليه بغضب: لا تغلق أبواب الرزق منذ الصباح بهذا التشاؤم...
ولكن كلام ابنه كان صحيحاً.. فبعد أن توزع كل واحد منهم على منطقته، لم يكن بالشارع إلا المتسولين والمشردين مثله.
قال لنفسه:
- ما المقصود من كل هذا؟ أن نموت من الجوع مثلاً؟
الشوارع خالية، حتى الأتربة استقرت على الأرض كجثث المشرحة.
عاد وساقاه ترتجفان، فلم يجد الولدين....
(هذا الولد الصغير.. كيف يمكن أن استفيد من جمال وجهه؟)
لمعت عيناه وهو يفكر: (هل هو جميل حقاً أم أنني أتوهم.. لا لا.. لست متوهماً..)..
إن هذا الغلام -قال لنفسه- سواء كان ابني - وهذا مستحيل طبعاً- أم لا.. فمكانه ليس هنا.. ولكن أين؟؟؟..
دخل الصبي فصاح:
- تعال يا ولد..
نظر إليه الولد بعينيه الجميلتين الناعستين فصاح:
- قلت لك تعال..
بدا الاستياء على وجه الصبي فتحرك بتثاقل، وحينها مدَّ المتسول يده وبدأ في تفحص وجه الصبي وجسده.. وهو يقول:
- أين أخوك؟
قال الصبي:
- ذهب للفحص؟
قال الصبي: قال أن هناك فحصاً جماعياً للكشف عن المرض..
دفعه الأب وقال بجنون:
- عليك اللعنة.. ولماذا لم تخبرني..
نظر إلى الأفق ساهماً ثم قال:
- اسمع نادي على أخيك بسرعة.. عليه أن يحضر فوراً... إجري..
هرول الصبي وعاد مع أخيه ليجدا والدهما يقف أمام النار المشتعلة في إطار سيارة قديم كان يضع عليه زير الماء..
- هيا يا أولاد.. تعالا..
جاء الولدان فقال:
- يجب ان نقنعهم بأننا مصابون بالكورونا.. لا أستطيع إطعامكم طوال مدة هذه الجائحة.. يجب أن تسعلا باستمرار أمام اللجنة الطبية... هيا استنشقوا أبخرة الإطارات... نعم هيا استنشقوا.. استنشقوا...
وبصعوبة بالغة جر الثلاثة أقدامهم للخارج وكان العجوز يسهل في ملابسه وعيناه محمرتان..
دار برأسه ورأى ولديه على سريرهما.. فهمس:
- سيكتشفون أنها حالة تسمم ولكنهم لن يستطيعوا إخراجنا لأننا اختلطنا بالمرضى والمشتبه فيهم.. حينما يمر الأطباء اعطسوا بقوة...
وبالفعل مرت فتاة ترتدي أقنعة واقية فعطس الأب:
- اتشوووو..
ولحق به الولد الأكبر:
- اتشوووو..
ثم الأصغر الذي عطس بالفعل ثلاث عطسات متواصلة... فجزعت عينا الفتاة وعبرتهم بسرعة..
سمع صوت رجل يقول:
- يا سيد...
التفت فرأى رجلا ذو لغد ضخمة تتدلى من رقبته.. كان أسمر بسمرة محترقة في جوانب وجهه، بذقن غير حليق تتباعد فيه سبيبات شعر بيضاء...
قال المتسول:
- نعم..؟
نظر الرجل نحو السماء:
- متى سينتهي هذا الوباء؟
قال المتسول:
- وهل أنا الله...
- آه.. لست الله ولكن... ولكنني خائف.. خائف جداً .. لا أريد أن أموت..
هم بالبكاء فقال المتسول:
- كن رجلاً.. وماذا يعني الموت... حتماً ستموت يوماً ما...
قال الرجل وعيناه محمرتان من الحزن:
- ولكنني لا أريد أن أموت..
قال المتسول وقد ضاق ذرعاً:
- حسناً لا تمت..
- ولكننا حتماً سنموت..
- حسنٌ.. عليك تقبل هذه المسألة.. وإلى ذلك الحين.. هل يمكنك منحي بعض النقود..
قال الرجل بدهشة:
- وماذا ستفعل بها ونحن ممنوعون من الخروج..
قال العجوز:
- سأرشو تلك الممرضة الهزيلة لتأتِ لي ببعض الحاجيات للطفل..
- ولكن. هذا ممنوع..
قال العجوز:
- ولذلك قلت بأنني سأرشو الممرضة ولو كان مسموحاً لي بفعل ذلك فما حاجتي لرشوتها... هيا.. حسنة قليلة منك لعل الله يمد لك في أيام حياتك..
أخذ المال، ثم نهض ودار على باقي المصابين وجمع مالاً لا بأس به، ثم حرَّض ولديه ليقوما بعملهما... فغادرا الأسرة...
قال لولديه:
- أقسم بأنني جمعت أكثر من أيامي وسط البشر الأصحاء.. اللعنة.. كم أضعنا الكثير منذ أن بدأ المرض... ولكن اخفوا نقودكم فتداول النقود ممنوع هنا...
قال الولد الكبير:
- أخشى أن نصاب بالمرض يا أبي ونموت..
قال المتسول:
- إذا مت فستنتقل إلى الجنة وهناك ستجد كل ما لذ وطاب..
قال الصغير:
- وهل سأقابل أمي هناك؟
قال العجوز:
- هذا إذا رموا بك إلى الجحيم.. ولا تفكر في هذا الأمر مرة أخرى .. هل فهمت؟
صمت الصبي.. وتذكر المتسول زوجته التي هربت مع رجل كان يمنحها مالاً كل يوم اثناء وقوفها أمام باب شركته.. فهمس لشبحها بسخط:
- على الأقل كان بإمكانك أن تأخذي أحد الولدين معك بدل أنانيتك هذي..
وقف طبيب شاب يرتدي واقيات سميكة وقال:
سبعة أيام أخرى وينتهي الحجر..
وبالفعل غادر المتسول وولداه المكان وهو سعيد بغنيمته...
قال الولد الكبير:
- أريد أن أعمل يا والدي..
- مرحى مرحى... أنت نشط.. إبدأ بسرعة وأجمع أكبر قدر من المال.. قال المتسول
فأجابه الولد:
- لا اقصد ذلك.. اقصد أريد ان أعمل عملاً حقيقياً..
توقف المتسول عن السير ثم دار مواجها الولد:
- وهل نحن نلعب يا ولد..
اختلجت خدود الولد وهو يهز رأسه نفياً ثم قال:
- لم اقصد ذلك.. ولكن.. هل تتذكر الرجل ذو اللغد..؟
- نعم أتذكره.. ذلك الذي يخشى الموت..
- نعم هو... لقد دعاني للعمل معه في شركته..
قال الأب باهتمام:
- وكم سيعطيك في اليوم..
- لا اعرف ولكن ربما مائتين مثلاً..
قال العجوز:
- سأعطيك اربعمائة...
- ولكن يا أبي..
- ولكن ماذا يا ولد.. هل تعتقد أننا لا نعمل.. هل تعتقد أن التسول أقل صعوبة من عملك حارساً في مبنى أو ساعياً في شركة؟ لا.. إن عملنا صعب.. صعب جداً
واحمرت عيناه غضباً:
- صعب يا ولد...
قال الصبي وهو يهم بالبكاء:
- ولكن حبيبتي تسخر مني...
قال العجوز:
- يا أحمق.. هل تعرف ما هو التسول.. إنه السخرية من هذا العالم... هذا العالم منعدم القيمة.. العالم الذي يعتمد على تبادل سرقة الناس من جيوب بعضهم البعض... الرجل ذو اللغد حين يستهلك طاقتك طوال اليوم فإنه يسرقك... ولو أعطاك ما تستحقه تماماً لما ربح هو...
قال شاب غريب وقف يستمع للمتسول:
- فائض القيمة... اللعنة... إنك ماركسي يا رفيق.. ماركسي أكثر من ماركس..
نظر إليه العجوز وغمغم:
- ماذا؟ .. م..م.. ماذا تقصد..لم أفهم؟
غمز الشاب بعينه اليمنى وغادر وهو يقول:
- تفهم ما أقوله جيداً
ثم غادر... فصاح العجوز:
- اسمع...
وقف الشاب ودار على عقبيه فقال العجوز:
- أنا خارجٌ لتوي أنا والأولاد من الحجر الصحي.. تعرف أننا خرجنا بلا مليم واحد في جيوبنا..
أخرج الشاب مالاً وقال:
- وحق ماركس لتأخذن كل ما بجيوبي الآن...
ثم رفع السبابة والوسطى فرفع العجوز السبابة والوسطى بحيرة، وحين اختفى الشاب قال:
- اللعنة.. هل تصيب الكورونا الدماغ أيضاً..
قال الولد الكبير:
- سأذهب للقاء الرجل ذو اللغد غداً..
- أنت وشأنك..
وظل يفكر حول البديل لولده المراهق، فقد كان الولد أنشطهم في التسول، وعمله مع الرجل ذو اللغد سينقص من دخلهم اليومي.. والولد نفسه سيعتاد على الرفاهية، سيعتاد على الأكل النظيف والشرب النظيف واللبس النظيف، والاعتياد على الأشياء النظيفة مكلف جداً وراتب الولد لن يكفيه وبالتالي سيستقطع مما يجمعه هو وابنه الصغير... فتوقف وقال لولده بحسم:
- لن تذهب..
- اعترض الولد لكنه استمر:
- قلت لن تذهب يعني لن تذهب..
- بل سيذهب..
جاء الصوت الأنثوي من سيارة فاخرة فالتفت نحو المرأة ورآها تهبط من سيارتها:
- ألم تعرفني...؟
دقق النظر ثم همس:
- أنتِ؟
قالت:
- نعم... سآخذ الولدين معي...
كان الولدان ينظران إليها بصمت ودهشة، فقالت بحنو:
- ألم تعرفانني؟ أنا أمكما يا حبيباي.. تعاليا إلى حضني..
فتحت ذراعيها، غير أن الولدين ظلا جامدين.. فقال العجوز:
- أنتِ لستِ أمهما.. أمهما ماتت... إنهما لا يعرفان من أنتِ..
قال الولد الكبير:
- إنها أمي بالفعل.. كنت في الثالثة عشر حين هجرتنا.. ولكن.. ولكنها نظيفة جداً..
توجهت نحو لتحتضنه فتراجع قليلاً ثم أجهش بالبكاء وفر من أمامها...
قال المتسول:
- ماذا تريدين منا.. ألا يكفيك ما فعلته بالولدين من قبل...
قالت بانكسار:
- كان عليَّ أن أفعل ذلك.. كان علي أن أتسول ولكن على مستوى أعلى مما تفعل..
- وأسرتك؟ أولادك؟ ألم تفكري فيهما..
- كنت واثقة فيك.. ولا زلت..
- إذاً... أتركيهم لأبيهم..
قالت: سآخذ الصغير...
قال بحدة: ولا واحد..
قالت: الصغير ليس ابنك..
قال: أعرف ذلك.. ومع ذلك فأنا من ربيته..
قالت بدهشة: تعرف ذلك؟
- نعم أعرف ذلك.. إنه ابن الرجل الذي يرتدي زي الشرطة الغريب..
قالت: إنه قبطان بحري..
- أياً كان...
قالت بابتسامة استنكار:
- ولكنه ليس ابنك..
قال: وماذا تعرفين عن الأبوة أو حتى الأمومة .. إنك لا تفهمين شيئاً من ذلك..
قالت: أخبرت والده وسوف يأخذه إلى المدرسة ويصرف عليه ليعيش حياة طيبة..
رمش بعينيه وغمغم:
- حقاً؟
قالت:
- حقاً... سيكون له منزل ولن يتسول بعد اليوم...
نظر المتسول للصغير وفرك شعره الناعم وقال:
- آه يا صبي.. لقد أحببتُ عينيك الجميلتين.. ولكن مصلحتك تقتضي أن أضحي بكل مشاعري من أجلك..
جثا على ركبتيه وأمسك بكتفي الصبي وهمس:
- هذه المرأة الجميلة هي أمك يا ولد.. هل تتذكر حين أخبرتك أنها ذهبت إلى السماء حيث الجنة..
قال الصبي:
- بل قلت لي بأنها ذهبت إلى السماء حيث الجحيم ..
صاحت المرأة:
- ماذا؟
غمغم المتسول:
- ءءءء.. إنه يهذي.. طفل يهذي.. حسنٌ يا ولدي.. ستذهب مع أمك وسنلتقي قريباً..
قالت الأم:
- لن تلتقي به مرة أخرى..
قال بحزن:
- لن ألتقي بك قريباً.. في الواقع أنا وشقيقك سنذهب إلى رحلة في السماء.. ولكن إلى الجنة.. ثم نعود ونلتقي بك يوماً ما...
كان وجه الصبي جامداً حين اقتادته المرأة لسيارتها وجلس قربها... وراقبهما العجوز وهما يغادران بالسيارة... أما الصبي فأخذ يسعل بشدة.. فقالت المرأة:
- هل أنت مصاب بالربو؟
هز الولد رأسه بصمت.. ثم سعل مرة أخرى...
قالت المرأة: سأذهب بك إلى الطبيب..
قال الطبيب:
- اشتبه في إصابة ابنك بالكورونا.. يجب حجره فوراً...
أصيبت المرأة بالذهول.. ودارت بسيارتها عائدة إلى حيث التقت بالمتسول.. لكنها لم تجده.. توجهت على الفور إلى منزله.. لكنها وجدت المنزل خالياً تماما حتى من الفرش والزير الكبير... سألت جيرانه فلم يعرفوا مكانه...كانت تصيح:
- سأعيدك لأبيك.. لا أتحمل ذلك..
دارت حول منطقة السكن ومنطقة تسوله لكنها لم تجده....
صاحت في وجه الصبي:
- ماذا أفعل بك الآن... أين اختفى والدك..
رفع الصبي وجهه للسماء وأشار لسحابة بعيدة:
- هناك.. في الجنة... ألا ترينه..
رفعت المرأة رأسها للسماء.. ولم ترَ شيئاً:
- أين؟..
قال:
- هناك خلف تلك السحابة .. إنه يدعوني إليه..
صاحت بغضب:
- إذاً فلتذهب إليه..
ابتسم الصبي.. ووسط ذهول المرأة طار الصبي ببطء إلى السماء..

(تمت)

تعليقات

بوركت .. أعجبني اختيارك لهذه الفئة التي لا يقدرها الناس لتكوَّن أبطال قصتك .. وأعجبني ارتباطها بالسماء فلا حلول لجائحة الكورونا على الأراضين .. وأعجبني تسلسل الأحداث .. شكراً لهذا الرُضَّاب .. دمت طيباًً
 
شكرا استاذ صلاح..
بوركت .. أعجبني اختيارك لهذه الفئة التي لا يقدرها الناس لتكوَّن أبطال قصتك .. وأعجبني ارتباطها بالسماء فلا حلول لجائحة الكورونا على الأراضين .. وأعجبني تسلسل الأحداث .. شكراً لهذا الرُضَّاب .. دمت طيباًً
شكرا استاذ صلاح..لك الود
 
أعلى