مقتطف محمد صفوت - فصل من رواية ( الواحدة بتوقيت العاصفة)

* شاكر عودة
تلميذتي الثورية في ملاءة واحدة مع ضابط أمن الدولة الذي كان يستمتع بإذلالي !
لا تنزعجي يا سلمى ، لستُ هنا من أجل محاكمتك ، كما أنني آخر من يصلح لذلك ، هذا المشهد ليس مفاجأة مروعة بالنسبة لي ، سقوطنا جميعا في الوحل لا يمكن اعتباره مفاجأة مروعة ، لا يمكن أن ترفع سيفك طول الوقت ، لن تستطيع دائما أن تعيش الحياة فوق صهوة فرسك ، ستشعر بالملل غالبا ، لن تتحمل أعصابك ضغط المعارك المتتالية ، ولن تفلح دائما أن تخدع رئتيك بأن تقدم لها غبار الحروب المتصاعد في جو المعارك على أنه نسائم الحدائق حيث تحب أن تعفر فيها قدميك ، ستكتشف رئتاك ذات يوم أنك كنت تخدعها ، وفي كل الأحوال هم لن يسمحوا لك أن تكون هذا الفارس ، يمكنك أن تبقى فارساً لبعض الوقت ، تتلقى ضرباتهم الطائشة إلى أن يتكسر درعك ، وينقصف سن رمحك ، ويخر فرسك من التعب ، ستجاهد حتى تقف ثانية ، ثم تترجل في الميدان مرهقا ومجردا من أسلحتك ، ستقاوم بعض الوقت ، إلى أن تقع في الفخ الذي نصبوه لك.
أستطيع الأن أن أكشف لكم عن جسدي؛ لتروا بأنفسكم أثار السنين والمعارك محفورة كتراث حافل بكل ما هو قبيح .
هبشة كلب جائع هنا في فخذي الأيمن تعود إلى آخر العهد الناصري ، لم يكن العقيد حازم الشناوي وقتها موكلا بي ، كان ضابط آخر له نفس الوجه تقريباً ، وجوه الجلادين واحدة على مدى العصور ، جسدي وقتها كان يافعا ولينا ربما لهذا كنتُ وجبة شهية لهذا الكلب الذي أطلقوه داخل زنزانتي في الظلام ، لم أكن أرى سوى عينيه الحمراء التي يطل منها الجوع حين بدأ ينهش لحمي وأنا أدفع رأسه بعيداً.
يالتأكيد لسعات الكرباج على الظهر ، وخلع الأظافر ، وركلات الأحذية في القضيب والبطن لا تترك عاهات مستديمة ، كما أنني لشدة الخجل ومراعاة للياقة العامة لن أكشف لكم عن مؤخرتي التي تتدلى منها البواسير من كثرة تلك القضبان الحديدية التي ضاجعتني بغشم ، رغم ذلك يبقي جسدي النحيف كمتحف تاريخي يجسد بصدق تاريخ هذا البلد المعاصر منذ ناصر إلى مبارك مرورا بالسادات ، والجسد الذي كان يافعا في معتقلات الناصرية ، صار شائخا ويابسا في معتقلات مبارك ولن تجد فيه الكلاب ما يغريها.
هنا يستطيعون أن يفعلوا معك ما هو أسوأ ، حين كتبتُ عدة مقالات مسلسلة انتقد فيها عصر مبارك ، نصحني كثيرون بالتوقف ، خاصة أن هذه السلسلة حققت دويا هائلا وقتها ، قالوا أنك تجازوتْ كل الخطوط الحمراء ، تم استدعائي إلى لاظوغلي حيث المقر الشهير لجهاز أمن الدولة ، وقتها كنتُ أكبر من أن يتم التعامل معي بالركل أو الضرب ، كما أن مؤخرتي في هذا السن لن تتحمل أن يخترقها المزيد من القضبان ، ضابط برتبة رائد هو الذي تولى التحقيق ، تعامل معي بكل لطف ، وطلب لي فنجانا من القهوة ، قال لي إنهم متأكدون من إخلاصي وصدق نواياي ، ويدركون أن السبب في انتقاداتي العنيفة يكمن في أنني لا أعرف الكثير من الظروف المعقدة والخبايا المتشابكة التي تدور في الخفاء والتى تحيط بالوطن ، وفي الحقيقة أنا أعرف تماما ما معنى أن يقول الضابط " تحيط بالوطن " ولا يقول " تحيط بالبلد".
الضابط أردف بعدها وهو ينظر لي بأدب جم ، كنا نتوقع من قامة كبيرة مثلك أن تمد لنا يدها في مثل هذه الظروف الصعبة .
في الحقيقة لم يقدم لي الرجل عرضا معينا وقتها ، لكنه قدم لي رجاء أن أوقف المقالات على الفور، لأنهم لا يريدون مصادرة أعداد المجلة فتتخذ المنظمات الحقوقية ذلك ذريعة لتوجه سهامها إلى ظهر الوطن في هذا التوقيت الحساس . رفضتُ ذلك بالتأكيد ، هز الرجل رأسه وودعني ، على الباب قال لي : ـ عليك أن تواجه معركة صعبة من الغد .
لكن المعركة بدأت ظهر ذلك اليوم ، حيث فوجئت بإنذار على يد محضر بضرورة هدم منزلي خلال أسبوعين ومتحملا مصاريف الهدم وإلا قامت السلطات المحلية بذلك .
حين استفسرتُ عن السبب ، أوضحوا لي بأنني خالفت شروط الترخيص والبناء ، حيث قمت منذ عدة سنوات بعمل بشع يصعب وصفه ، قمتُ بتوسيع دورة المياه!
في صباح اليوم التالي جأني أحد أصدقائي على المقهى بنسخة من صحيفة قومية كبرى، رئيس التحرير الشهير والمعروف بولائه الشديد للسلطة في هذا الوقت خصص الصفحة الأولى كاملة لمقاله الطويل والحقيرالذي هاجمني فيه بشدة ، وكال لي تهم العمالة والخيانة ، والقبض من المؤسسات الدولية لحقوق الإنسان ، ومن بعض الرؤساء العرب الكارهين لمصر ، كما عرض صورا لما زعموا أنه شيكات بنكية قمت بصرفها ، ولم ينس أن يعرض صورة من محضر الهدم ، مع صورة للمنزل .
أنهى الرجل مقاله بعبارة توضح أن كل ما سبق هو مجرد قرصة أُذن ، وأن هناك المزيد من الفضائح مازالت في الجراب لكننا نقدر للرجل ـ الذي هو أنا ـ عطائه الفكري والأدبي ، وإذا عدتم عدنا.
في الحقيقة توقفت عن نشر المقال القادم بناء على نصائح وضغوط من المقربين ، كما توقفت عن كل شىء ؛ لأنني كما قلتُ لكم ، لن تستطيع دائما أن تعيش الحياة فوق صهوة فرسك.
نعم أنا فعلتُ ذلك يا سلمى ، أوشيتُ بك كما أوشيتُ بكثيرين من قبلك، وعندما قامتْ هذه الثورة اعتقدتُ أنني قد تخلصتُ من كل ذلك العناء الذي يمزقني ، وأن سري هذا قد مات للأبد ، لكن هذه الثورة اللعينة أزاحتْ الغطاء عن بئر الأسرار العميق ، فتطايرات روائح فضائحنا في كل مكان.

******
أنا أذكر ذلك اليوم جيدا حين جاء إلى مكتبي الدكتور شاكر عودة المثقف الكبير ، استقبلته في مكتبي بصفتي الضابط المسئول داخل الجهاز عن ملفات الأدباء والمثقفين ، وفي الحقيقة أنا أجد لذة كبيرة في التعامل مع هذه العقول الجبارة ، كيف يمكنك أن تناور هذه العقول الجبارة التي تحمل من الموهبة والذكاء بقدر ما تحمل من التمرد والكبرياء من أجل أن تـُخضعها وتصبح تحت سيطرتك؟
هي معركة طاحنة بين عقلين يقفزان طيلة الوقت مثل خيول جامحة ، حتى يرضخ أحدهما للأخر ، وفي كل الأحوال كان عقلي هو الذي يركب في النهاية .
على أن التعامل مع مثل هؤلاء مرهق بمثل ما هو مثير ، كنتُ مضطراً أن أقرأ الكثير من الكتب والروايات حتى أكون قادرا على التناطح مع عقولهم ، قرأت كتاب "أزمة المثقفين "
حتى أصل إلى عمق أرواحهم المتأزمة ، قرأت "بودلير ورامبو وماركيز ومحفوظ وسارتر" اغترفتُ من كل هذا المعون الذي يستقي منه المثقفون خرائهم الذي يسكبونه في عقول الناس ، وفي الحقيقة الكثير من المؤسسات الثقافية والفنية في هذا البلد يديرها رجالنا أو من هم تحت الكنترول .
الأمر مع الدكتور عودة كان مختلفا بعض الشىء احتاج مني وقتا طويلا حتى أناخ الرجل عقله ، أنا قرأت كل ما كتبه الدكتور من كتب ومقالات وأعمال نقدية ، جلستُ مع تلاميذه حتى أعرف كيف يفكر ، كنتُ أذهب إلى المقاهي والبارات التي يجلس فيها مع ندمائه ومريديه ،
كنتُ أضع ظلالا باللون الأحمر على بعض جمله وأحفظها عن ظهر قلب ، ومازالتْ ذاكرتي تحتفظ بجملته البديعة التي لم أفهمها حتى الأن " هذا البلد غير مسموح له سوى أن يعيش بخصية واحدة حتى لا تتمدد خصوبته أكثر مما ينبغي".
أنا لا استخدم تلك الأساليب التي عفا عليها الزمن ، ومن الممكن أن يدلي الدكتور هنا بشهادته ، فلم أعبث بمؤخرته في يوم من الأيام ، وفكرة هدم منزله من أجل أنه خالف ترخيص البناء بتوسيع دورة المياه تتماشى مع نصوص القانون الذي يطبق على الجميع في هذا البلد دون استثناء كما تعلمون.
كنا نعلم أن الدكتور قام بتوسيع دورة المياه منذ فترة لكننا كنا نتعامل معه بروح القانون ، وروح القانون حانية ، تشمل بعطفها من نشمله نحن بعطفنا ، لكن القانون في نفس الوقت له يد باطشة ، تبطش بأولئك المارقين ، بعض المثقفين يتنطعون ويطلقون على ذلك لعبة العصا والجزرة ، في كل الأحوال فكرة هدم منزل الدكتور كانت مجرد محاولة لشل عقله لبعض الوقت ، أعقب ذلك هذا المقال الذي هاجم الدكتور والذي نشرته الجريدة الحكومية ، أقول نشرته الجريدة لأنني أنا الذي كتبته بنفسي وتركت لرئيس التحرير أن يعيد صياغته ويضع اسمه عليه ، ثم استدعيتُ الدكتور ثانية بعد أن بدأ يترنح ، أظهرتُ له وثائق دامغة تثبت أن رئيس الحزب اليساري الذي ينتمي إليه مجرد دلدول صغير يعمل بالرموت من مكتبي ، كما أظهرتُ للدكتور ما يثبت أن منصبه في رئاسته تحرير المجلة الأدبية الشهيرة ورئاسته لأحد المهرجانات السينمائية الكبيرة وعضويته في أحد المجالس القومية المتخصصة كان بتوصية من الجهاز ، لا يحتاج الأمر إلى ذكاء ليعرف الدكتور أن بتوصية مماثلة سيفقد كل تلك النعم التي ننعم بها على بعض من نعتقد أنه سيمرق في يوم من الأيام من أجل أن نصطاده بعدها في لحظات كتلك .
هنا كانت فرصتي لأركب ، وقد ركبت .
بعدها أصبح الدكتور شاكر عودة بقامته وقدره تحت السيطرة تماما ، حيثُ كان عين الجهاز الساهرة في مجالس المثقفين ودهاليزهم ، حدا أنه أوشى لي ذات يوم بتلميذته العزيزة سلمى.
لكن الدكتور شاكر عودة بعد خراء يناير اعتقد أن بإمكانه أن يفلفص من تحتي أو من تحت سيطرة الجهاز العظيم ويعاود سيرته الأولى ، لكننا موجودون طول الوقت ، حتى في تلك الأوقات التي اعتقدتم أننا فقدنا فيها السيطرة ، حتى في تلك اللحظة التي اُضطررتُ فيها إلى ارتداء ملابس نسائية وأنا أتسلل من مبنى الجهازعشية يناير ، كنتُ واثقاً أننا لم نفقد سيطرتنا بعد ، في هذه المرة استخدمنا يوسف كأحد أدواتنا الجديدة من خلال برنامج التوك شوك الذي وضعناه فيه من أجل أن يعود شاكر عودة إلى صوابه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى