علي السباعي - هكذا وجدت نفسي..

شيء لا يصدق أن تجد نفسك تحدث حماراً مسكيناً، يحاورك بكل طلاقه، هذا يذكرك بأن تعيش في منزل مهجور أبوابه تصر بانغلاقها وانفتاحها دون أن يحركها أحد. الذي حركها هو نفسه الذي جعل الحمار يتكلم، يخاطب "السيد وجع" حماره قائلاً:

-إن حياتي ضائعة!

تتنفس روح "وجع" أقداراً شوكية، تجتر أوجاعه، أيامه، حياته كلها كالبعير الذي يجتر العاقول، سقط بفعلها مكدوداً، تكلم الحمار كأنه جراح يزيل بمباضعه ندبات الزمن الغادر:

-حياتنا ضائعة يا سيدي.

تتحرك فوقها نسمات من الهواء الصاخب، تكهرب الجو بفعل تنفس الشمس بخار الغيوم، تصاعدت من الأرض أوجاع قديمة لأرواح تلتهم الحاضر، وتجتر الماضي، كل الماضي، قال "وجع" بنبرة حادة:

-حقاً حياتنا لا شيء، خصوصاً حياة كلينا.

نزلت دمعة، بل دمعات ساخنات على وجه الحمار الحزين، مما زاد ألم "وجع" قال مواسياً حماره:

-إنك أعز ما أملك.

نهق الحمار سعيداً، انشرحت كل أساريره، وكأنه جزء لا يتجزأ من الإحساس الرفيع الذي يملأ روح عشيقة شقية لمعشوقها يقول لسيده:

-دعني معك نصنع ظروفنا الجديدة.

أطلق "وجع" ضحكة مدوية، وكأنه أراد بها إخراج كل أحزانه وتفتيتها، بالفعل نجح في جعل كل أحزانه تتشظى متناثرة، يقول لحماره:

-كيف؟ وأوجاعنا القديمة، أنسيت يا حماري المسكين أن لكل واحد منا أطناناً من الأوجاع؟

تتعانق متحدة كل ذرات الشجاعة الموجودة في الجسد ساعة يندحر اليأس، يرتجف كل الغيم في السماء متجمعاً، تمطر السماء أملاً يسعد الأرض. هكذا! تجمعت شجاعة الحمار بغتة، ليقول لسيده:

-لا تُصنع الأقدار بالأوجاع يا سيدي.

تتجمع في ديوان السماء غيوماً بيض، تتصادم مع بعضها، تتألق أضواؤها الفضية لامعة تخرج من جوفها غضباً مكبوتاً طوال سنين مضت، تساءل "وجع" بحده:

-كيف؟

أجابه الحمار:

-بتغيير ما بأنفسنا.

بادره وجع متذكراً كلمات زوجته المتوفاة:

-إنك تذكرني بزوجتي رحمها الله، رغم فقرنا المدقع، كانت تشد من أزري وتأخذ بيدي، بقولها ((معك يداً بيد نصنع حياتنا الجديدة)).

كنت أجيبها، وكأن شيئاً قد هتك بداخلي: ((أحقاً ترغبين بذلك؟ وهل لديك القدرة على صنعها؟!))

لكنها تبتسم رغم حزنها الشديد، وتقول لي: (نعم! معك أملك قوة ليس لها حدود).

يستغرب الحمار هذا الكلام، وإذ به يسأل بسأم:

-يا سيدي عم تتحدث؟ وهل في عالمكم شيء حقيقي اسمه الحب؟

يضحك "وجع" من جديد ويقول:

-أجل يا حمار! لدينا شيء اسمه الحب.

ينهق الحمار، وقد ألمّ به وجع كلمات سيده، فكان أشبه بسحابة صيف مسافرة، تمر على أراض جافة تمرح فيها كل حمير الأرض تقضم أطواق البرسيم، تلتهمها، تلوكها، تشعر بالشبع، تنهق دفعة واحدة، وكأنها بنهيقها تطلق أوجاعاً حررتها بأكلها البرسيم، يقول لوجع:

-سنحصل على كل شيء بعزيمة الورود وهي تشق رمال الصحراء طرباً بهطول المطر.

يصاب "وجع" بالهزيمة، بخيبة أمل كبيرة، لكون مأساته قد استعادت روحها، وأخذت قالباً آخر، يتمتم في نفسه قائلاً: ((قالتها لي زوجتي. لكن: آه. من تخاذلي، قد خسرتها، وها أنت يا حماري تقولها ثانية)).

يتكلم "وجع" بصوت متحشرج:

-قدرنا مرسوم كما ترسم حوافرك على الأرض آثاراً عميقة، لهذا أرفض أن أخسرك يا حماري.

يكشر الحمار عن أسنانه العملاقة، وكأنه يبتسم بوجه الحياة السعيدة، مما أصاب "وجع" بالحيرة يصرخ به بحده:

-إنني أتمزق يا حمار! أتمزق، القلب، الأذرع، الأرجل، الجسد في مكان ما؟ ضاع ما كان يسمى إنسان... ضاع!؟

يضرب الحمار الأرض بإحدى حافريه الأماميين، قال لسيده التالي، فكان كلامه كتلك الأبواب التي تحركت دونما أن ترى أحداً حركها:

-تستطيع أن تربط كل أجزاء جسمك الممزقة بأوتار من أوجاعك القديمة، تجد قلبك، أرجلك، أذرعك، وجسدك كله قد اكتمل نسجه بفعل أوتار الحياة التي خاطها حزنك الدائم، وكما قالت محبوبتك ((تستطيع صنع قدرك الجيد بالإرادة)).

بل بإمكانك أن تذيب جبلاً من الجليد لو شئت ذلك. ينظر إليه "وجع" ببلادة، راح يحرك رأسه للأعلى والأسفل كما يفعل الحمار، حينها شرع ينهق بقوة... بقوة...


علي السباعي

تعليقات

أعلى