الاخضر داز-اين - السّرْدي، الأزْمة، " الراهن الكوروني".. (بول ريكور)

مدخل:
يُعتبر بول ريكو رجل الوضعيّات الصّعبة، بل لعلّه رجل الرّاهن الكوروني بامتياز، فقد اختلطت عنده معاني الازمة والألم منذ صغره، حيث عاش يتيم الامومة والإخوة، ورغم ذلك صنع من ضعفه قوّة ومن نقصه اكتمالا، ولا غرابة فذاك هو قدر المفكرين الكبار......
وقد مثّل انتباهه المبكّر الى الأزمة في وجوهها المتعدّدة، من حيث هي أزمة الفلسفة وأزمة السرديات وأزمة المفهوم وأزمة التأويل وأزمة الدلالة وأزمة المعنى، اشارة مضيئة الى أنه سيكون رجل المهام الصعبة والجراءة الفلسفية العميقة والجديرة بنبش المسكوت عنه وتعرية الهوامش الملتبسة والمتخفية وراء كل تلك الاستعارات والإشارات المظلمة في النصوص الكبرى والسّرْديّات العظْمى( الميتافيزيقا، الحداثة،الدلالة والوعي)، فكان اهتمامه بالسّرد مفتاح نظرنا، وتناولنا المتواضع، لبعض انجازه بالتفكّر والتأمل . فهو يرى أن السرد هو تجربة زمنية مدركة من خلال فعل تمثيل، اذ يقول «لا نستطيع صياغة حدود الزمنية من خلال خطاب ظاهراتي مباشر، فالزمنية تشترط توسط الخطاب غير المباشر الذي يوفره السرد» بمعنى إن الأصل في الإمساك بالدلالات لا يمكن أن يكون من طبيعة تجريدية بل يتم من خلال البعد التاريخي لما يقع وما يتخيل وما يرمز له. فالسردي هو الذاكرة التي تحمي التأريخي من النسيان وترسم لنا مضي الماضي في صيرورته الخالدة وكذلك حضور الحاضر في زمنيّته الدائمة والمؤبّدة، وهكذا لايمكن القبض على المعنى إلا من خلال حدوث الحدث وسرْديّته الواقعيّة والمتخيلة والرمزية في حاضر الماضي وحاضر الحاضر وحاضر المستقبل، فالفاعلية الزمنية هي كامنة في رصد تتابع الافعال السردية وتنظيمها بشكل يمكّننا من قراءتها لاحقا....
مزاعم الأنوار" كورونا متقدمة" : **
هل من الجائز لنا اليوم ان نوجد وصلا ممكنا بين تلمّس ريكور لمفهوم الأزمة في ثقافة الأنوار وما نعايشه من آلام "الكوفيد" ؟؟
يبدو أن طرافة بول ريكور تكمن في كشفه عن حالة الإنهاك التي بلغها مشروع الأنوار ومزاعم العقلانية والتقدم والتحديث الشمولي-من حيث هي حاملة لكبرياء الوعي الزائف- وهو ما يتقاطع مع وضعنا الراهن اليوم في عصر الكوفيد والوباء العام ، وعن الأزمة التي يعاني منها الوعي التاريخي وتخلّفه المزمن عن صيرورة التاريخي- الراهني، والتعارض بين فضاء التجربة وأفق التوقع العلمي. وكذلك العمل الدؤوب الدي قام به ريكور في استشكال الأزمة التي أصابت الحضارة الكونية من جهة القيم ومن جهة التواصل والتعاون بين الجميع، وهو ما كشفه بوضوح حال البشرية اليوم في اطار الوباء والموت الجماعي وظهور الدماميل على سطح العلاقات الدولية من خلال الاستغلال والاستضعاف وحتى الحرابة والغطرسة . فقد عرّى فيلسوفنا أن مصدر الأزمة ينبع من النقائض التي تشق الظاهرة الإنسانية المتمثّلة في المنزلة الوسطى التي يحتلها الانسان وتجعله يتأرجح بين الكينونة والعدم وبين اللانهائي والنهائي، التباعد بين المنطقي والمؤثري، المتعالي والعملي، اللاّتنساب بين الذات وذاتها، الحرية والطبيعة، القرار والمشروع وبين الباعث والقصد وبين الطبع والأفق...
أكذوبة العدالة : **
يكشف بول ريكور أن مقولة العدالة التي يتغنى بها الوعي الغربي هي مقولة حاملة لفشل المنظومة في كلّيتها، وأن هذا الفشل ناتج عن تعارض بين فكرة العدل من حيث هي مبدأ إطيقي وبين تلك المعاناة الفردية واحيانا الجماعية، التي تسللت من الخارج في اطار بنية الحكم الجزائي القاسي في حق الفرد او الجماعة، الذي يصدر باسم تحقيق العدالة ، ويظهر إخفاق مؤسسة العدالة في مستوى التبرير ، والحق يقال أن هذا التشخيص في كتابه" العادل"، ربما يكون راهنا جدا، من حيث أن الغطرسة القانونية اليوم واضحة وجلية. اذ انه باسم القانون وحماية القطيع يقع اليوم-ونحن في وضع استثنائي- التعدي على الحريّة وتطويع المجتمع ككل لقانون مصطنع "حجر عام" بدعوى الحماية الصحيّة، وهو في الحقيقة تهديم لمنظومة العدالة وقمع للحرية....
لابد من أخذ المسافة = الحلّ
هكذا يلخص بعض دارسي فلسفة ريكور مسيرته الفكرية في مقولة" أخذ مسافة" والمقصود بذلك أننا يجب علينا أن نأخذ مسافة بيننا وبين ثقافتنا حتى نقبل على دراسة وفهم وتأويل التجارب الانسانية الأخرى، وتكون هذه المقولة بمثابة الشرط الاطيقي اللازم لذلك...
ولا مهرب من أزمتنا الراهنة، الكوفيد، الا بأن نكون ريكوريين في التوجّه...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى