محمد عبد الله الهادي - أكان لا بد يا عبـد العال أن تبـص لي؟ مفتتح

" في البدء كانت النكتة ، وفى النهاية ربما أيضاً تكون ، والنكتة أنها ليست نكتة ، لكنها واقعة حدثت لأهل النكتة ، صنّاعها المهرة ورواتها العتاة ".
" يوسف إدريس في قصة " أكان لا بد يا "لي لي" أن تضيئي النور ؟".



طبعاً نكتة يا شيخ "عبد العال" . نكتة جعلتْ حي "الباطنية " ، حي الكيف والفرفشة والمرح ، يستحيل كلُّه من أدناه إلى أقصاه لفمٍ واحدٍ مفتوح على اتساعه ، يقهقه بالضحك العالي مع تواتر دفقات صدره المنتفخ بهواء الكيف وروائحه النفاذة . النكتة التي صنعتها وجنتْ عليكَ ، وأنت الجاني على نفسك ، كي يسجلها الحي العتيق في مآثره الخالدة التي لا تُنسى ، وتستعيدها ـ بين الحين والآخر ـ مقاعد أهلة الملفوفة بضباب الدخَّان الأزرق . المقاعد التي برعتْ عبر أجيال متتالية ، بذكاء التحشيش القراري ، في صنع تراث هائل من النكت عن "الصعايدة " وأقل منة قليلاً عن "البحاوره " ، من معين لا ينضب ولا يجف . وإن غاض ماؤه قليلاً ، فإنهم حتماً سيجدون في قاعه نكتاً حتى على أنفسهم . وما إن يتذكرونك يا شيخ "عبد العال" ، مجرد تذكر ، حتى تتفجر صدورهم بزلزال من الضحك لا يبقى ولا يذر واحداً منهم أينما يكون، بل يجعلهم يترنحون ويتصادمون من فرط القهقهة والانبساط ، بينما تصفق أكفهم بالفرقعة وهم يرددون:

ـ "الله يجازيك يا شيخ عبد العال " .

يبدو أنك حاولت التقرب منهم ، لكن ثمار مجهوداتك المأسوف عليها ذهبت سُدى . أهل الباطنية الذين استأنسوا الشيطان منذ زمن بعـيد ، وجعلوه واحداً منهم ، يستوي لديهم كل أمر . وأي أمر عندهم لا يمكن أن يخلو من شيء مضحك ، حتى ولو كانوا يسيرون وراء جنازة ، فالجنازة حارَّة والميت ـ حتماً ـ لا يخلو شريط حياته ، الذي وصل لنقطة النهاية الآن ، عن موقف مضحك : حادثٌ ألـمَّ به ولو كان عادياً ، كلمة تفوَّه بها ولو كانت عابرة ، كل شئ من أجل الضحك يمكن تطويعه وتحريفه وتزويقه وزغزغته كطفل حتى يكركر بالضحك . ماذا تنتظر من أناس تجارتهم الكيوف : حشيش وأفيون وسيكونال وبلاء أزرق ، وينتظرون الخطر في أية لحظة ؟ . يعيشون ما بين أوكارهم على حافة الخوف والمغامرة والمكسب السهل والفراغ الهائل . وكأنهم كانوا ينتظرونك أنت ، دون خلق الله جميعاً ، لتأتى لهم على غير توقع ، وتصنع لهم النكـتة الكـبرى .

حتى ليلى . . أقصد " لي لي" ، التي فُوجئت بك في ذلك الصباح الغريب ، كانت تنتظرك . فلقد كانت تعرف بداهةً وبحس أنثوي هجين ، مصري على ساكسوني ، أنك في نهاية الأمر سوف تأتى إليها ، وتطرق بابها مستأذناً في الولوج . ولقد كان الأمر محيراً لأنك لم تصمد طويلاً ، فلقـد جئت مسرعاً ، وبنفس السرعة كنت تفك زرار الكاكولة الأعلى وأنت تحثّها :

ـ "جئت أعلمك الصلاة".*

انزلقتْ ملاءتُها عن جسدها العاري بشبهة تعمّد ماكر ، ألحقتها هي وضمّتها بقوَّة بشبهة إغـواء لا يُشبع ، وقد سبرتْ غور اللحظة وقرأت كتابك المفـتوح ، وهى تقول لك :

-ـ"أنا اشتريت الإسطوانة الإنجليزي اللِّي بتعلم الصلاة لقيتني أفهمها أكثر . . متأسفة " .*

وأطفأتْ النور . .

أطفأتْ النور ، وهى تعتقد أن حكايتك يا شيخ "عبد العال " قد انتهتْ عنـد هذا الحـد ، وبدلاً من أن تعلّمها الصلاة ، علمتك هي الدرس ، وليس ثمّة حاجة إلى مزيـد .

لكنها ، فيما بعد عرفتْ الحكاية ، ولملمتْ باقي الصورة ، وتملكتها الدهشة ، وعلاَ وجهها استغراب حقيقي للحظات . ثم فجأة ، تفجَّر صدرها بالضحك ، ضحك لا ينقطع ، بل ظل متواصلا مع سيمفونية الضحك " الباطـنية " الكُبرى المتدفقـة من أعماق الصـدور .

طبعاً نكتة يا شيخ عبد العال . . صح ؟ .

v

أكان لابد يا عبد العال أن تبص لي ؟ ! . .

سألت " لي لي " هذا السؤال وأردفـتْ :

" وتبص لمن ؟ ، ألم تسمع عن "لي لي" والأجر على الله يا رجل ؟ .

الحق أقول لك : إنني لم أكن أعرفك ، ربما شفتك من قبل مرَّة أو أكثر ، لا أذكر ، لم تكن تلفت نظري بصحيح ، ما لي أنا وشيخ الجامع ؟ ، حتى ولو كان شاباً يتمخطر في كأكولة ؟ ، أنت في حالك يا عم وأنا في حالي يا ابن الناس . طريقك يمين وطريقي شمال ، طريقك بطئ يقول الآخرة ، وطريقي سريع يقول الدنيا ، فكيف ومتى ولماذا نلتقي ؟ . أنت فقيه ومقرئ ومؤذن جامع " الشوبكشي " ، تقرأ القرآن بصوت جميل ، وتعظ الناس يوم الجمعة : هذا حلال يا ناس وهذا حرام يا ناس . لكنك لا تعرف أي ناس تخاطب يا سيدنا ؟ .

ناس " الباطنية " أهل الزمن الفائت الذين سمعنا عنهم في كتب التاريخ ليست لهم أدنى صلة بـ " الباطنية " أهل اليوم ، أهل الوقت الخطأ ، والحي الخطأ ، الصلة بينهما منبتّة منذ زمن بعـيد . قلْ يا عم ما على كيفك وهواك ، وانبح صوتك بالزجر والوعـيد ، أذِّنْ في " مالطة " على رأى المثل، وأهل " مالطة " ، أقصـد أهل الباطنية : أُذن من حشيش والأخرى من أفـيون ، فبأي أُذن بالله سوف يستمعون ؟؟ .

حتى أنا " لي لي " والأجر على الله منهم ولست منهم ، مثلهم ولست مثلهم ، قل يا عم هذا حرام وهذا حلال . سوف أقول لك مثلما قالوا لك من قبل بالفـم الملآن :

" خميرة عكننة مش عاو زين ، وحسابنا في الآخرة نحن عارفين ، والحساب يجمع ، بأدبك أهلاً وسهلاً ، تدو شنا تانى أنت واللّي يصـح

لك " .*

أكـان لا بد يا عبد العال أن تبص لي ؟ ! . .

عموماً لا تلومن إلاّ نفسك . لم يغصبك أحـد على المجيء ، أنت الذي جئت لحـد عـندنا برجليـك .

في مرَّة سمعت النسوان يتكلمن في سيرتك ، يتحدثن عن الشيخ الصغير الشاب الذي صار واحداً من أهل الحي . الشيخ الذي يجلس مع الناس في المقاهي ، ويزورهم في بيوتهم ، ويتبسط معهم ، ويكلمهم في الدين ويكلمونه في الدنيا ، يسألونه ويجيب على أسئلتهم ، ولا يضيق صدره بهم أبداً . والأجمل أنهم عندما يطالبون بسماع صوتك ، تقرأ لهم القرآن بصوت جميل ، هذا الصوت الذي أحبُّوه واكتفـوا به منك .

بعد ذلك سمعت كلاماً كثيراً عنك ، رغم هذا بصراحة ، لم تثر فضولي .

مرَّة ثانية ، سمعت نسوان الحي يدبرن ويكدن لك ، ويغزلن خيوطهن للإيقاع بك في شباكهن الخادعة والناعمة . يعـز عليهن أن تكون خارج القطيع ، حتى ولو كنت رجل دين . لكنك مازلت شاباً أعزب ، لم تدخل الدنيا بعـد ولم تتذوق حلاوتها بالحلال أو الحرام . كن يتجمعن خلف الرجال يستمعن لصوتك الحلو ، ينتظرن منك التفاتة ، ترى فيها وجوههن المكشوفة والمصقولة بالحلاوة الرخيصة ، وعيونهن المكحلة بالكحل البلدي ، وخصلات شعرهن الفاحمة والمغسولة ، يتمطقن بالشفاه المصبوغة بالطلاء الأحمر ، ويغمزن بالعـين ، ويلعبن الحاجب . . لكنك كما عرفت لم تفـعل . لم ييأسن ، ورحـن يقطعن الطريق عليك في رواحك وغدوك من الجامع ، بحجة سؤالك عن حكم الدين في أمورهن الخاصة ، وهن يضمرن لك شر الوقوع في لجّة أسرارهن العفنة . ينتظرن ـ بصبر لا ينفـد ـ هذا الوقوع كيْ ينقضضن عليك ، ويعمدنك كواحد باطني أصيل . الاختبار يطول ويطول وهن يجذبن يدك تارةً ، ويطلبن المشورة تارةً أخـرى :

سعديـة : فشل زوجها في معاشرتها بسبب الإدمان المزمن وتخشى الفتنة علي نفسها .

نونا الشعنونة : تخون زوجها المعلم عكاشة مع صبيه الذي يحضر لها الخضـار كل يوم.

سوسو المهروشة : تعاشر أخيها السكران كل ليلة برضاها وتدَّعى أنه يجبرها على الإذعان ولا تملك الرفض :

( هل تقبل منى توبة يا سيدنا ؟ ) .

نـادية : التي تحلُم بك كل ليلة ، تقول لك هذا وهى تسبل عينيها علامة الوقوع في هواك .

( ما رأيك يا سيدنا ؟ ) .

لكنهن ـ ربّك والحق ـ أجمعن على إنّك ، رغم عينك الزائغة التي لا تخفى عليهن ، لم ترضخ أو تلن أو تتنازل أو تضعف . ظللت مغلقاً أمامهن ، صعب المراس كحصان برّى حرُون على سائسه الأمريكي في أفلام الكاوبوي التي أعشق مشاهدتها في سينما الحي . لا حيلة " سوسو " نافعة معك ولا حلم " نادية " شافع لها . لقد كسرت َ القاعدة يا شيخـنا ، ويبدو أن كيد المشايخ غلب كيد النسوان . الخائبات رفعن رايات التسليم البيضاء أمام متاريسك وحصونك العصيّة .

بعد هذا ، وبصراحة ، لقيت نفسي أفكِّر فيك ، عـزَّ على أن أراك تهزم نساء الباطنية اللائى لم يستعص عليهن رجل من قبل . من أنت بالضبط ؟ ، ألست بنى آدم مثل باقي الخلق ؟ ، بنى آدم من لحم ودم وغريزة ورغبة ؟ ، بنى آدم يحب ويكره ، ينجح ويفشل ويذوق طعم الخطيئة المُر كأي إنسان ؟ . . باختصار أثرت فضولي في التعرف عليك ، لماذا لا اقترب منك ؟ ، أعرف ما عندك وآخذ بعضه إذا كان ينفعـني . .

وأوقفـتك في عرض الشارع . .

أكان لا بد يا عبد العال أن تبص لي ؟ ! . .

عيني في عينك ، أول امتحـان لك ، قلْ لي من منا الأقـوى ؟ ، أنا أم أنـت ؟ . .

سرحتْ عيناك القويتان بعـيداً ، حلقتا في عالم مجهول ، لكنهما لم تصمدا طويلاً ، انكسرتا بعـد لحظات صوب الأرض ، وسمعت صوتك يجاهد ألاّ يتلعـثم : *

ـ " ربنا يفتح عليكي وينوَّر طريقك " .

ـ " طب ماتنورهولى أنت ، ينولك ثواب " .

ـ " النور لابد من الداخل ، من القلب ، نورك في إيـدك " .

صدقـني كنت صـادقة النـيَّة لما قلت لك :

ـ " عايزاك تعلمـني الصـلاة " .

ـ " عنـدي كتـاب خـديه " .

ـ " أنا عايـزه درس خصوصي " .

ـ " استغـفر الله العظـيم ، روحي الله يغـفر لك ويسهل لك " .

لحظتها فقـط حزنت بحق ، ونزلت يا " سبع البرمبة " من نظري . لم تعد سبعاً ولا يحزنون ، صرت قطاً ماكراً وخائناً . ولحظتها فقط عرفت ، لماذا سرحت بعقلك بعيدا لما وقفت قدامك وعيني في عينك . أدركت تماماً أن رأسك الملفوف بالعمامة المقلوظة بعناية لابـد وأنه يموج بالسخافات والإشاعات والكلام البطَّال عنِّى . أنت معـذور ولا تعرف أن أهل الباطنية هم نصفي المصري ، ولهذا فأنا أعرفهم جيداً وهم يتلصصون على نصفي الإنجليزي ، النصف الذي يقربهم ويبعـدهم عنىِّ ، النصف الذي يجعلهم يرونني كعروس المولد الحلاوة ، العروس المزخرفة والمدندشة و الملوَّنة بالأحمر والأصفر والأزرق . العروس التي يضعونها في فاترينة أعينهم كي تتاح لهم فرصة البص والتلصص عليها مثلما فعـلت وأنت تبـص لي . .

أكان لابـد يا عبد العال أن تبص لي ؟! . .

لابد أنك عرفت منهم ، أنهم ، كلّهم ، يريدونني .

يريدون كسر رقبة عروس المولـد ـ رقبتي ـ واستحلاب حلاوتها مع سنّة أفيون ، أو التهام جسدها السكري ـ جسدي ـ بعد نفسـين حشيش . حاولوا كسر كبريائي وغروري وعنادي ، لكني وقـفت لهم ، قلت لهم : لا وألف لا . . " لي لي" الملكة ستظل ملكة ولن تكون أبداً من الرعاع .

حاولوا مراراً وتكرراً ، لم تهمد لهم عزيمة ، حتى يئسوا أخيراً ، ثم قنعوا بمجرد النظر للعروس الحلوة ، واكتفوا بالثرثرة والخوض في سيرتها بأي كلام ، الكلام الذي لـف حول عمِّتك المقلوظة ودخل رأسك وعشش فيها ، وأنت تبـص لي من فوق المئذنة ، فقررت أن تحاول ، وأن يكون لك فخـر السبق .

الآن ، تلومني بالسـؤال :

" أكان لا بد يا " لي لي " أن تضـيئي النـور ؟! " .

وسؤالك اللـوّام له عندي سؤال استنكاري :

" أكان لابد يا عبد العـال أن تبـص لي ؟ ! ".

في تلك الليلة ، لم تكن أنت على البال أو الخاطر ، ليلة لم تكن ككل الليالي بالنسبة لي ، ليلة قضيتها في الكباريه . رقصت وشربت وعـدلت " الطاسة " على حساب رجل سمين له كرش بارز أمامه ، لكنه كرش ملئ بالنقود والوعود والحياة الناعمة ، تاجر ومنتج سينمائي . أول الليل وضع كفَّه الصغيرة البضّة على كتفي ، وأقسم بشرف أمّه التي لم أتشرف بمعرفتها ، بأنه سيجعلني ألعـب أي دور في الفيلم الذي ينتجه الآن ، وأن المخرج الشهير" صلاح أبو سيف " لا يرفض له طلباً أبداً . " أي دور " : قلت لنفـسي . المهم أضع رجلي على عتبة باب الفن الذي أعشقه طوال عمري ، أظهر مواهبي المدفونة ، آخذ فرصتي ، الحظ لا يأتي إلاّ مرَّة واحـدة ، إذا طار منِّي فلن أطوله أبداً ، من يعرف ؟ ، رما يكون هذا المنتج السمين " برهومه " ـ وهذا هو اسمه ـ حظِّي وقدري المكتوب وباب السعـد في حياتي . رحتُ أضاحكه وأبسطه على الآخـر ، حكيت له عن معلِّم في الحي اسمه أيضاً " برهومه " ، واسمه بالكامل : " برهومه زعبولا " ، يشبهه تماماً ، الخالق الناطق . . اكتشـفت أنه ابن نكـته مثلنا لما رد علىّ :

ـ " وماله ، يمكن أمي الله يرحمها كانت متجوزه عندكم وخلفت برهومه تانى " .

أضحكني ، وظللت أناديه طوال الليـل: " يا زعبولا " ، فيقهقه هو الآخـر بانبسـاط . .

المهم ، آخر الليل أوصلني بعربتـه حتى باب الحي ، وقبل أن يتركني داعبـني قائـلاً :

ـ " سلّمى لي علي برهومه زعبولا " .

طلعت السلم وأنا كالفرخة الدائخة ، دخلت حجرتي وخلعت هدومي ورميتها ، رميت جسمي الهمدان بالقميص على السرير ، دخلت في النوم ، لم انتبه لنور أو غيره ، التعب أخذني لنوم مشبَّع بالأحلام والكوابيس المزعجة التي ظلَّت تناوشني وتقلق منامي :

مرَّة أشوف أمي " بديعة " تتـأبط ذراع رجل أحمر الوجه ، يرتدي بدلة عسكرية ، وهى تناديني قائلة : " سلِّمى يا ليلى . . أبوكي جون ياحبيبتى رجع من الحرب بالسلامة . "

ومرَّة أشوف نفسي بطلة فيلم كبير ، والبطـل الذي يقف أمامي هو " برهومه زعبولا " ، أراه وهو يأخـذ رأسي بكفِّه لينام على كرشه الرجراج ، أحـط رأسي وأنام وأشـخر . .

أتقلب في فراشي ، يهاجمني كابوس ، أفتح عيني ، أتفل في عبِّي وأنا أردد :

" ابعد يا شيطان . . حوش يا حوّاش . . "

أنام ، أتقلب على السرير، أشوف جدّي " موريس " وجدّتي " لويزا " ، مازلت أتذكر اسميهما وطيف ملامحهما وهما يجذبان يدي : " تعـالي يا لي لي . . تعالي يا حلوة " ، وأمّي تجذب يدي الأخرى وهى تصيح بتصميم لا يلـين : " لا يمكن أبداً . . ليلى لا يمكن أسيـبها من حضني . " .

طبعاً أكـيد عرفت أصل هـذه الحكاية منهم ، وأن "جون " الذي أمضي ليلة في أحضان أمي قبل رحيله للحرب ليلقي حتفه ، قرر في الصباح زواجها لأكـون ابنة شرعية له . وأن أمّي ، رغم توسلات جدّي ، احتفـظت بي في النهاية . ومعاش أبي الجندي "جون" ظل يصلها بانتظام لخمسة وعشرين عاماً ، فجعلنا نعيش في بحبوحة ونغنغة وسلطان بين ناس الحي ، ولم تعد أمّي تعتـمد اعتماداً كلياً على عملها الذي لا يخجلها ولا يخجلني، والذي يكون يوماً في الطالع وآخر في النازل .

أحيانا أفكر ، ماذا لو عـاد الزمن بي للوراء ؟ وكان لي وحـدي حـق الاختيار والفـهم ؟

أفكر في هذا الآن وبعـد كل هذه السنين . أحس بالدم الخليط الذي يجرى في عروقي ، يحمل أشياءاً كثيرة من هؤلاء الناس الذين لم أعايشهم وانتمي إليهم : جون وموريس ولويزا ، نفس الأشياء التي تجعلني أكون أحياناً عنيدة بلا عقـل ، أو باردة لحـد الجنون ، أو مغرورة للحـد الذي يجعلني أقول للدنيا بأسرها بتحـد :

" يا أرض انهـدِّي ، ما عليكي قـدِّي " .

صدقني يا شيخ عبد العال أنا أحب هذا " الكوكتيل " في شخصيتي ، كانت أمّي تضيق بي أحياناً ، تستنكر عليَّ هذا ، تقرعني بكـلام هو مزيج من اللـوم والإعجـاب :

ـ " طالعه زي بقية أهلك الساكسون يا بنت جون " .

أكان لابـد يا عبد العال أن تبـص لي ؟! . .

نائمة أنا ، متعبة جداً ، مرهقة وكارهة لحر الصيف ، أود لو أخرج من قميص نومي وأرمي نفسي في النـيل ، أتـبرد في مياهه الجارية ، تطوِّح برأسـي الأحـلام والكوابيـس .

فجأة يجيئني الصوت متسـللاً ، مقتحـماً ، ممزوجاً بالحـلم :

" سبحان فالق الإصباح . . سبحان فاطـر السموات والأرض "

انقلب على جنبي ، بطني ، ظهري ، افتح عيني للنور يغشاني . .

" يا رب " : ترن في فضاء الكون ، استغاثة بصوت جميل ، تدخل من شباكي المفتوح ، تطبطب على كتفي ، تمسح عرق جبهتي ، تهمس لي " اصحِي يا لي لي . . قومي "

" يا رب " : عالية ، مناجية ، مقتحمة ، متسللة ، تتسرب كالعطر بين شقوق دور الباطنـية المتهالكة ، ومن تحت أعقاب الأبواب الموصدة ، ومن خصاص ضلف الشـبابيك . .

" يا رب " : منغمة ، مبحوحة من جوف الصدر ونياط القلب، تلف ، تدور ، تصعـد ، تعـود كبخـور المبـخرة . .

" يا رب " : جلسـتُ على السـرير . .

" يا رب " : لم أكن أحـلم إذاً ، أنا يقظانة الآن تحت النور الباهر للمبة السقف المتدلية من سلكها فوق جسمي العاري ، النور يخرج من شباكي مع نظرة عيني ، يعبر الشارع الضيق ويقف عند دائرة المئذنة المعتمة في الفـجر ، النور يبين الرجل الذي يستغيث بالله . واقف هناك ، نصفه الظاهر من دائرة المئذنة ثابت ، كفّاه على صدغيه ، ينادي من قلبه : " يا رب ". . تتآلف عيناي مع الأشياء ، عيناه المفتوحتان على سعتهما تصوبان شعاعهما القوي نحـوي . .

" يا رب " : تخترقني نظرته ، تنفذ في جسدي العاري ، تخيفني ، تهزّني من موضع ثبـاته الواقـف . .

اكتملت يقظتي . . الشيخ عبد العال ! ، الآن عرفتك ، من سيكون غيرك فوق المئذنة ؟ .

أسأل نفسي : منذ متي يا رب وهو يستغيث وينظر لي ؟ ، يدعو ربّه وينظر لي ؟ .

يقول " يا رب " ويشملني بعينيه الجائعة ؟ ، كيف يستقـيم هذا ؟ .

تناهي لسمعي صوت الشارع تحت الشباك ، الشارع يتنحنح ، الشارع يسعل سعالاً قصيراً متقطعاً ، الشارع يتمضمض ، ، يستنشق ، يهمهم ، يتوضأ ، يبسمل ، يحوقل ..

هل خرج أهل الحي كلهم لصلاة الفجر ؟ ، هذه الأصوات لا تجئ إلاّ ساعة صلاة الجمعة ،مرَّة كل أسبـوع . " برافو " يا شيخ عبد العال ، والله " شــاطر " .

" يا رب " : نهضت من رقـادي .

" يا رب " : جسمي يتلوَّى جذلاً مع نبرات صوتك الجميل ، جسمي يأخذني للشباك ، عيني في عينك يا رجل ، لا يفصلنا سوى الشارع الضيق ، لكنك صمت قليلاً ، وكالمرة السابقة رفعت بصرك للسماء ، ثم جريت مسرعاً تهبط مع سلم المئذنة .

أكان لابد يا عبد العال أن تبص لي ؟! . .

v

أقفلت " لي لي" شباكها وعادت لسريرها ، النوم الذي طار من الشباك المفتوح رفض العودة مرَّة أخرى ، والصوت الطالع لحد عندها من صحن جامع الشوبكشى يجأر مؤمناً :

ـ" آميـــــن " .

صوت جماعي ممطوط لأقصي طول للنفـس .

" آمين " محمّلةً بقـدر هائل من الندم على ما فات ، محملةً بالرجاء والعفو والشجن والرغبة في التـوبة .

" آمين " لأناس طال ابتعادهم عن هذا المكان ، وفجأة ، وبدون نيّة مسبقة ، وجدوا أنفسهم يهيمون وكأنهم في حلم ، يستيقظون في ذلك الوقت المستحيل الذي يكونون فيه في سابع نومة ، يستجيبون للصوت المنادي من فوق المئذنة ، يتلاقـون ، يتبادلون النظر ولا يتكلمون ، كأنهم ممسوسون بالسـحر المنطلق من الصوت المستغيث ، المحمَّل بكل هذه القوى غير البشرية بالقطع . كانوا سعـداء سعادةً حقيـقيةً لأول مرة بعـد ما صدّت نفوسهم من السعادات المزيفة المصنوعة بضباب المخدِّر . السماء في فجر الباطنية الرمادي ، يرونها الآن مفتوحة الأبواب ، في هذه اللحظات المسروقة من عمر الزمن .

"آمين " مازالت ممطوطة بهذا القدر الهائل من الخشوع والتذلل ، كأنما هي الفرصة الأخيرة نحو التسابق والوصول والعـودة . . لعل وعسي .

وأنت يا شيخ عبد العال تركع وتسجـد بهم إماماً . و" لي لي " التي أيقظتها في حجرتها لن تتركك في حالك ، قفزتْ لك في منتصف القبلة : يا للهول ! ، يا للشيطان الرجيم ! ، " لي لي " عارية تماماً كما ولدتها أمها ، شاهقة البياض ، محلولة الشعر ، تستقبل سجودك ، شيطان " لي لي" الذي قفز من شباكها وراءك اعتقل عقلك ، وتلبس جسدك ، ونزل معك لصحن الجامع :

الركعة الأولى . . الركعة الثانية . . السجدة الثانية والأخيرة . .

سجدت يا عبد العال فسجدوا خلفك : لم يلهج لسانك بالتسبيح :

" سبحان ربي الأعلى " .

لأن " لي لي " وضعت حداً للأمر وجعلتك تردد مهزوماً :

" عفوك يا إلهي . . الشيطان انتصر " . .

وقفتَ ، قفزتَ من الشباك المجاور للقبلة ، وفى لمح البصر كنت تخبط باب حجرتها ، دُهشت " لي لي " ، منذ لحظات كنت هناك في الأعالي تقول يا رب ، فتعلو بها حتى هلال العصر التركي للمئذنة ، وتصعد بها حتى السماوات العُلي . الآن ، أنت واحـد من أحـاد ناس الباطنية الكثار ، ها أنت قد سقطت من حالق لسابع أرض . ملأتْ صورتك المهلهلة عينيها ، كصورة أي مسطول زائغ العينين وتسيل ريالته على صدره ، ويتلعثم لسـانك :

ـ" جئت أعلمك الصلاة "*

عندما أطفأتْ النور وتركتك ، نزلتَ كما طلعت وأنت تمضي في الشارع الضيق المجاور للجامع لأخر مرَّة ، العرق البارد يسيل على جبهتك المحمومة ، وقلبك المضطرب سقـط تحت قدميك المترنحتين . لم تحن منك حتى إلتفاتة لعشـرة صفوف كاملة من المصلِّين الساجدين في تململ ، هؤلاء الذين ينتظرون منك التكبيرة الأخيرة التي تنهي هذا السجود الذي طال أمـده . ولا ندري الآن ، بعد أن اختفيت تماماً من الحي كله ، كم من الوقت مضي وهم على هذا السجود المفعم بالسعال والشخير والتململ والتوجّس والنسيان والحلم والغـفوة . من يدري ، ربما ظلوا ساجدين للأبـد لولا صوت الولـد " معزة الأفيونجي " الزاعق يخـبط رؤوسهم المحنية الجباه على حصـير الجامع :

ـ " شوفوا الناس المساطيل اللِّي ساجدة وبتصلِّى من غير إمـام ".*

أفاقـوا ، نهضوا من سجودهم ، خرجوا ، طالعهم نور النهار البهي بالحقـيقة :

هم أنفسهم أهل الباطنية ، والدور المتهالكة المتساندة على بعضها هي بالقطع دورهم ، الجامع الصغير الذي خرجوا منه الآن هو نفس الجامع الذي يسكن ضريحه " الشوبكشى " : الرجل التركي الذي بناه في زمن غابر تقرباً وزلفى لله ، بعد حياة حافلة بالسلب والنهب والضرب والظلم ، راجياً بعمله هذا أن يجني ثمار دعوات أجيال من مصلِّين الحي ، تباعـده من النار وتقربه من الجنة .

ولأن الصباح الوليد كان مازال طازجاً ، فإن معين النكت لديهم زغزغ بطونهم بنكتة طازجة أيضاً ،عن " الشوبكشى " الذي كان شاهـد عيان على ما حدث بجامعه فجر اليوم ، فقـد خرج من ضريحه وهو يحتدم غضباً من هؤلاء الذين انتظرهم طويلاً ، وعندما جاءوا لم يتمُّوا صلاتهم ، وبالتالي لم يمنحوه دعواتهم الطيبة ـ طبعا إذا قبل الله منهم دعاءً ـ وهذا أمر مستبعـد الحدوث ، فظل يلاحقهم صارخاً فيهم :

ـ " انتظر ولـد أنت وهو . . خروج من جامع حظرتنا يوك . . كمّل صلاة الفجر ولـد خرسيس . . وادع لجنـاب حظـرتنا بالجنّة . . " .

وبطبيعة صدورهم العائمة ، ضحكوا من نكتة " الشوبكشى " ، وحينما نضجت نكـتة

" عبد العال " الكبرى ، تفـجَّر زلزال الضـحك .



يوليو 1999م


* جمل حوارية من قصة " يوسف إدريس "
ـ القصة تحيَّة لـ " يوسـف إدريس " ، وهي موازية لقصته الجميلة :
" أ كان لابد يا " لي لي " أن تضيئي النور ؟ "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى