عدي المختار - البديل.. قصة قصبرة

البديل

باتجاه بابه الخشبي، بدأ يحبو متعبا، يلهث وتتصاعد دقات قلبه، مع إن عمره لم يتجاوز الستين، مد ذراعه المتصلبة نحو مقبض الباب،ليفتح ثغرة منه، لينادي على ذلك القزم الذي يعلو صوته في الشارع بحركات بهلوانيه وهو يصيح .
- هيا .. تعالوا .. وشتروا فأخباري لازالت طازجة !!!!
ويردفها بابتسامة شيطانية وهو يقول
- أوداعتكم من المعمل ألكم !!!
بعد أن استقرت نظراته على ذلك القزم، أومأ بيده نحوه.
- أعطني جميع ما صدر اليوم من صحف كالمعتاد !
ضحك القزم ضحكة عالية جدا وهو يهم بوضع رزمة الصحف التي يحملها على الأرض كي يعطيه ما يريد.
عذرا سيدي . فقد نسيتك اليوم ..لك ما تريد، تره انته تأمر أستاذ .
اخذ الصحف منه وهو يرمقه بنظرة غضب واستعلاء وبكلمات لا تخلو من التهديد قال له
شكرا لك ...وإياك أن تنساني بعد اليوم .
أجابه القزم بكلمات تعثرت من الخوف .
كلا ... كلا .. ستكون دوما على بالي !!
سرعان ما استدار القزم وهو يحتضن رزمة صحفه، مهرولا لخارج الدار، وفي سره بضع كلمات ترجمتها هرولته
كم أنت دكتاتور يا سيدي المقعد ؟
بدا يبتسم وهو ينظر للقزم كيف فر هاربا منه، أدار وجهة لداخل الدار وهو يضحك باستمتاع ، فقد منحة شعور القزم بالخوف منه الارتياح وأرضى غروره .عاد بضع خطوات إلى الوراء، اغلق الباب، استدار متوجها نحو مكتبه، اعتلى كرسيه الذي يعلو عنه بضع سنتيمترات، لكن سرعان ما فشلت محاولته........ فسقط !!! سقط وهو يختنق باللهاث وينادي بصوت اعترته الحشرجة .
زينب ... زينب ..
هلعت تلك الفتاة الفارعة التي بان على ملامحها التعب وخريف العمر، انحنت عليه وقالت له بنبرة حزينة .
الم اقل لك إذا أردت شيء فعليك أن تناديني ؟؟
انسابت منها خلسة دموع كأنها المطر، نظر أليها مسح دموعها وقال لها .
إلى متى سأبقى اطلب المساعدة،ثلاثون عاما وأنا على هذه الحالة . لماذا لم يستجيب لله لدعائي با..... ؟؟
وضعت سبابتها على فمه، كي لا يكمل كلامه التشاؤمي وهي تقول له والدموع تحرق وجنتيها .
لا .... لا ... أرجوك لا تقل هذا الكلام .. فمن لي من بعدك ؟؟؟
احتضنها وهو يضم رأسها لصدره ويربت على كتفيها .
لقد تعبت اخيتاه .. أي قدر هذا ؟ بل أي سجن هذا ؟
خلسة نزلت دموعها وهي تتذكر السجن الكبير الذي أودعها فيه مذ رفض عشرات الرجال الذين تقدموا لخطبتها بحجج واهية لم تعرف هي لها سببا او مبررا،بكت لأنها تذكرت الحبيب الذي غيبه الأخ في دهاليز مديرية الأمن ولم يسمع عنه أي خبر حتى اللحظة،لا لشيء إلا لأنه تجرأ وعشق شقيقة الرجل الثاني في الدولة آنذاك،،تنهدت واستدركت أحزانها ومسحتها مع دموعها ووقفت مجددا،حملته ووضعته على الكرسي بابتسامة مصطنعه لملمت فيها كل أحزانها وقالت له .
- ماذا أردت من مكتبك ؟؟
قال لها وهو ينظر لمكتبته العامرة بمجلدات السياسة بعين البحث والتذكر .
- أردت أن ابحث عن كتيب صغير كنت قد دونت فيه منذ وقت بعيد جدا مذكراتي ؟
وهي تبحث في عناوين الكتب وتلامس سبابتها الكتب قالت له .
- لماذا تريد أن ترحل مع ذكريات كانت السبب في جميع مواجعك ؟
نظر لها بصمت ومن ثم وضع سيكارته الرئاسية التي لم يغيرها منذ أيام شبابه وبحركات سريعة شابها التوتر والقلق أشعل فيها النار وهو يحاول استعادة ما تبقى من عنفوانه وأجابها.
لا بالعكس ... أن لم نتعلم من مواجع الأمس فلن نحيا غدا بسلام .
ابتسمت له، محاولة تعزيز الثقة بعنفوانه،ونحو أعلى أدراج المكتبة وبذلك السلم الخشبي تسلقت بساقيها الجميلتين رافعة ثيابها للأعلى،حتى بان ذاك البياض الثلجي لفخذها المحاذي له، وبعد بضع دقائق، نزلت تحمل كتيبا صغيرا،نفخت بفمها لتزيل عنه غبار النسيان، فتطاير غبار بثقل سنين الخذلان، ومن ثم ناولته له وهي تحاول التقاط أنفاسها .
تفضل .....
أخذه منها بسرعة البرق واحتضنه كمن يحتضن الأب ولده بعد فراق طويل وهو يقول لها .
شكرا......شكرا لك ......دعيني لوحدي ... إني في أمس الحاجة للركون لخلوه مع نفسي ......لكن قبل كل ذلك أرجعيني للكرسي المتحرك .
ابتسمت وهي تنظر له بنظرات حزن ومحبة وخوف معا،وأجلسته مرة أخرى على كرسيه المتحرك وقبلته وغادرت غرفته بعدما تأكدت بان الباب قد أغلقته بإحكام،كي يخلو مع نفسه،
قلب الكتيب وبدأ مع اسطره الأولى ذكرياته،طالبا في جامعة الحقوق،يختلس بهيم الليل، تضمه حلقة ارتبطت مع كتلة تدعي الوحدة وإنقاذ الأمة من الحضيض،كانوا ينتظرون انبلاج الفجر بلهفة لأنهم قد ابلغوا بان غدا هي ساعة الصفر،كان هو يحتل القيادة في هذه الحلقة،وعندما تقدمت الخطى وأشهرت النفس أنيابها آملة بأكلة شهية وشعارات لونية، كان هناك من يقاوم، زعيم يتحدى، يأبى الاستسلام، إلا أن القدر قد أراد ....،وليل الأحزان قد حان ......
على ذلك الكرسي كان الكل يأمل أن يكون من بين العشرة المبشرين به، إلا أن الأحلام اصطدمت بجدار التآمر والردة،فدارة تلك الدوائر على نفسها لتشنق كل الذين سولت لهم أمالهم بان يحلموا بالكرسي، فكان نصيبه من النضال، إبرة صغيرة، زرق بها، ليعلن جسده التقاعد عن النضال فكان كرسيه صديق نضاله الجديد، ...، قطعت دقات الساعة، قراءته للذكريات،الساعة قاربت على الثالثة ليلا، نظر لكرسيه وخاطبه بحزن وغضب وعتب .
كل أصدقاء النضال تخلصوا مني ... فمتى سأتخلص منك أيه الصديق الممل ؟؟
رددها مرارا وتكرارا وهو يضرب بيده على مقبض الكرسي المتحرك ،سرعان ما سمع حشرجة كأنها تعلوا من تحت قدميه وصوت يقول له .
انهض ....هيا انهض..........انك أثقلت كاهلي .....ثلاثون عاما وأنا أحملك .. ألم تتعب من الجلوس على التل ؟؟!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
شعر بذلك الصوت الخفي وتقبله وأجابه بذهول . وبلهجة سلطوية .
كيف انهض؟؟؟؟ .. لاقف من جديد وأحاكم كل من حولي إرضاء لمعاناتي ؟؟
باستياء قال له الصوت مرة أخرى .
حاول ولو مره في حياتك أن تتخلص من الشعارات التي باتت تحتضر اليوم ........وما أنت إلا دكتاتور أخر ؟ ولدت من المعانات لتقلد الجلاد ......
صمت عم المكان .........تلاه شخير .
زقزقة العصافير وأصوات وهتاف يختلطان ويعلو بين الحين والحين،أيقظته هذه الضجة من نومه وقطعت سيمفونية شخيره، نظر بسرعة إلى الكتيب، كان في يده،ابتسم وتوجه يحبو بكرسيه نحو النافذة، رمى الكتيب من النافذة، وأدار وجه صوب الساعة التي كانت تستقر في أعلى باحة الدار والتي تجاوز عقربها العاشرة صباحا، انسابت إلى أذنيه أصوات وهلاهل النسوة، تقدم بكرسيه مره أخرى نحو النافذة،رأى جموع من الناس تحيط بذلك التمثال الذي كان سببا في موت جسده،
وقف وبلا شعور على قدميه حينما رآه يتهاوى تحت الأقدام، نظر إلى أطرافه، ضحك بصوت عال ودموع الفرح تندلق من عينيه وهو يصرخ بصوت عال .
زينب ............زينب .......وقفت .... زينب وقفت من جديد ؟؟
ضحك مجددا،......................... بكى،................... تقدم بضع خطوات،..................................................
..........................مسرعة وبهرولة خوف خرجت أخته من غرفتها .....صرخت باكية من الفرح .
حمد لله يا أخي .. حمدا لله يا أخي ..
................انحنت علية وبكت، مسح دموعها، انطلق يهرول إلى الخارج ، يركض مع الجموع ويهتف بلا شعور، اعتلى منصة التمثال وأومأ بيده بنفس الطريقة التي كان يومئ بها أصل التمثال فيما احتشد الملايين وهم يهتفون (بروح بالدم نفديك ..........)


وكالات

أعلنت جريدة الغد بان العراق قد استورد رئيسا جديدا ليس دكتاتورا بل خضع لفحوصات القياس والسيطرة النوعية وأثبتت نتائج الفحوصات الأولية بأنه يتمتع بمواصفات أمريكية عالية الجودة ....



شتاء 2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى