أحمد بنميمون - باب الشوق القديم

1
كان هناك، أمام الخارج من داخل الأسوار،حيث تطوي ايدي الزمن أكثر من خمسمائة عام، إلى حاضر ذي ملامح رمادية محادية أسيانة ، عبر باب الشوق القديم، أن يسير بضعة أمتار إذا أحب الذهاب إلى أقرب مقبرة أو مصلى العيدين، ثم ما لا يزيد على الأربعين متراً، عابراً بين مبانٍ حديثة البناء، تضم فرنين وحانتين ومقهى وبعض دكاكين وحديقة صغيرة في شكل مثلث قائم الزاوية، داخلها بار ومساكن بعض معطوبي الحرب،حيث يمكنه أن ينحدر إلى جهة بها أكثر من مدرسة وقاعة سينما ومرافق أخرى ضرورية لحياة الناس ومن يمسك تلابيبهم، ثم عليه أن يضيف قرابة الثلاثين متراً أخرى ليصل إلى مفترق طريقين : أولاهما تمضي صُعُداً نحو مداشرجوار المدينة ، في سفح الجبل الشمالي، ودون القمة ، أوأسفل في الحضيض على حافة بحيرة أحد السدود. وهي الطريق التي كان لنا في منطلقها ملعبٌ أيام الصبا، ومكانُ لقاء أيفاعٍ من شبابِ معظم أبناء الحي.
أما الطريق الثانية، فكانت تنحدر إلى الإعدادية الأولى بهذه الأرض، و إلى مخازن كان زاد المدينة يوزع منها على تجارها، كل حسب متطلباته ، وقدرته على الدفع،بالجملة أو نصف الجملة، ليباع بعد ذلك بالتقسيط،. وإلى محطة وقود السيارات أولاً، ثمَّ إلى حيث تقع مصالح إدارية عديدة تضخمت كثيراً بعد أيام من مغادرتنا مسقط الرأس للدراسة ، بقليل.
2

لم تكن آفاق طفولتنا المشتركة تتسع ، ولا مراجع رؤيتنا إلى العالم تجتمع إلا حول مجموعة أغان كانت تجود بها علينا الإذاعات، وبعض أفلام نشاهدها في قاعة تفتقد إلى كثير من متطلبات العرض السليم ، قل من بيننا من كان يحسن تأويل كلام أزجالها وأشعارها ، أو قراءة لغات صورها، بسيطة كانت طرق تَلَقِّينا، بل وساذجأ كان فهم أكثرنا لما كنا نشاهده من عروض صور ، وإن تعرفنا على وجوه فنانات فُتِنَّا بطلعاتهن المغرية، أيام لم تكن في الشارع أمامنا من فتيات تخطرن بيننا، فقد كانت قيود المجتمع ضاربة بأستار من الظلمة على معظمهن، فلا بنات من سننا كن يلاعبننا، أو يشاركننا حتى في تبادل أخصرالكلام وأوجزالإشارات ، والمحظوظ منا من كان في مدرسة مختلطة، هي رغم ذلك ما كانت تسمح بأي اتصال بين الجنسين ، وإن كانت ترفع شعار أن طلب العلم فريضة على كل واحد وواحدة منا. فنشأنا ممتلئين خشية وجهلاً، بمن على الجانب الموازي من نوعنا الآخر. وكأنهم كانوا يقدمون لنا أوضح الأدلة على استحالة لقاء المتوازيين.

3

أنا عرفت السيْرَ على تينك الطريقين منذ نعومة أظفاري، فقبل أن انحدر إلى صفوف المدرسة الإعدادية ، كنت أمضي إلى جهة حقول وبساتين الجهة الغربية ، مع عائلتي إلى غرستنا التي كان لنا بها مساحة أرض نزرعها قمحاً أوسنابل تركية ، وبضعة أشجار تين و سفرجل ومشمش، نأكل منها إذا أثمرت، ثم أيضاً، حين يكون من حظنا أن نركب حافلات للذهاب في زيارة قصيرة، لبعض أقاربنا في مدينة مجاورة.
4
لكنني كثيراً ما كنت أذهب على الطريق الأولى ، دون أن أبتعد أنا وأصدقائي،للمشاركة في ألعاب مختلفة، منها أن أحد أفراد المجموعة التي كنت أخالطها كان قد انشأ مدرسة على مساحة جعل الفواصل بين أقسامها مربعات أحجار، ووزع أصدقاءنا الصغار حسب أعمارهم على مستويات عينها أقساماً مماثلة لمستويات مدرسة ابتدائين نركب حافلات النقل ، في مناسبات متباعدة لزيارة أقارب لنا في المدن القريبة..
لكنني كنتلأ،ة، كان مديرها كما يكشف خياله الواسع يكبرنا بسنوات، لا تبدو مع ذلك بسبب قصر قامته، لكن بعض تصرفاته كانت تفضح أنه تجاوز الطفولة قبلنا ، وبدأ يشُمَّ ...أجل يشم ما يعتور أجساد بريئات تقبعن وراء الجدران معزولات، وإن سُمح لهن برؤية ضوء النهار فمن خلال نوافذ أو فضاءات سطوح منفتحات على الأزرق السماوي البعيد النائي، وكان مديرنا وموَزِّعُنا على أقسام مدرسته الخاصة ، أسبق منا إلى معرفة ممثلات السينما، وحفظ صورهن في وعي مراهقته التي سبقنا إليها واشتعال جسده القصيربالرغبات.وليس غريباً على من كان في نباهته بين فتيان الحي وقد تخفَّى وراء قصر قامته بين الصبية، أن يسبق إلى معرفة أسماء بعض جميلات بين مراهقات الحيِّ، أو من لم يبق بينهن وبين فيضان الرغبة في أعماقهنَّ إلا زمن قصير.


5

كانت المدرسة الصغيرة الخاصة لهذا المدير تقع على الطريق الأولى، على مشارف مجال الدور، وهي الطريق التي سماها بشارع مريم فخر الدين، ففي الدار الثالثة الواقعة على هذه الطريق كانت تسكن قتاة رائعة الجمال شبيهة مريم ، الفنانة السينمائية. والحقيقة أننا انبهرنا لدقة تشبيهه ، ولروعة اكتشافه ، رغم أن البنت كانت درة مكنونة ، بتعبير ثقافة الحِجروالوصاية ، أو مراهقة مسجونة ، بتعبير حقوق الكائن البشري. ممنوعة من أي انطلاق، وإن لم نكن نحن الصبية الطلقاء بأكثر حرية منها.

6

أما طريق المدرسة الإعدادية التي انحدرت إليها ، وأنا في الحادية عشرة من عمري، ضمن أصغر كوكبة التحقت بها لأول مرة ، فقد سمتها شيطنة المدير الذي كان أكثر المجموعة الصغيرة وعياً ونباهة، بطريق ماجدة ، ، ففي الدار الثانية على هذه الطريق كانت تسكن فاتنة أخرى رائعة الحسن، والحقيقة أنه لم يكن هو من أطلق عليه اسم النجمة السينمائية ، بل معجبون آخرون، انبهروا بجمال الفتاة.

7

وأنا أدهشني أن أميل إلى عشق ماجدة مع أول بوادر مراهقتي، ولم يذهب بي الخيال حتى إلى إشباع نظري من شبيهة مريم، على دقة التشبيه وجمال المشبه. الذي أشهد أن وجه الشبه فيه كان أظهر و أتم، حتى كأنني أقف أمام تشبيه مقلوب. ورغم ذلك فقد كنت أخاف الاقتراب من حِماها، لشراسة كان مشهوداً بها لحامي البيت.
فعرفت ليالي مراهقتي الأولى سهرات تحت نافذة ماجدة ، تستمر إلى ساعات متقدمة من الليل ، تخلو فيها الطرقات من أي عابر سبيل، وإن لم تخل من مراقبين سريين في العادة، كانت نافذتها التي تختار أن تطل منها على مقربة من منعطف الطريق الأولى الصاعدة، وكانت تجلس قبالتي الساعة والساعتين، تنتظر أن أنبس ببنت شفة أو أن أوميء لها بما أعبر به عن حالي وعما يعتريني في حضورها وغيابها، وإن كنت أفيض كلاما أعده لكي أصور لها ما بي ، لكنني كنت أصاب بشلل وحصر، فلم يستمر الأمر طويلاً، حتَّى ملت الفتاة ، واصبحت أواجه في كل ليل بنافذة محكمة الإغلاق، ورغم ذلك لم يخمد ماكان في القلب من وجد ونيران.
وباعدت الأيام ما بيني وبين أحلام صباي، وكنت قد عرفت من بعد ، أن شبيهة ماجدة كانت، في ليالي مناجاتي في عالم طفولي لا يسمح بوعي ما يطلبه العاشقون، بله تبادله، لكنني كنت كلما ابتعدت ، أكبر وأشاهد مع مجموع أبناء جيلي، كثرة من تساقطوا تحت أقدامها طلباً للمتعة بجسدها، اغتناما لما يعتور عائلتها، من مآس كَبُرت إلى حد الذهاب بها في مهاو لا اسوأ منها، لولا أنها جاهدت، وبذلت من السعي لإنقاذ نفسها من حمأة ما كانت قد سقطت فيه بالفعل، بتاثير عناصر سوء متسلطة جائرة، فلم يكتب لي أن أرى يدَها تمتد نحوي بالتحية إلا في نهاية لقاء حافل ، فأسمع لأول مرة صوتها العذب الهامس،واشدَهَ لجمال ابتسامتها الذي لم ينل منه الزمن شيئاً، حتى وهي أخيراً أمامي في الثالثة والستين، فبأي ذريعة تكون قد حضرتْ إلى مثل هذه اللقاءات ؟
ما أنا متأكد منه أنها وحدها المصادفة التي لا تخضع لأي منطق أو عقل. وقد عرفت من كلام جاءني منها، عن غير قصد أو دعوة، أنها ما تزال تؤمن بالباقي مما كان لها من جمال فاتن ، حتى وإن كان ذهب معظمه بحكم السنين، فما زالت تبدو منه حروف ناطقة وملامح زيْن.
آخ... يالهذا الماضي الذي يرسب في الأعماق حتى ليصبح مستحيلاً إحياؤه،ثم يهجم بآلامه التي تصحو دفعة واحدة، فمع هذا الحضور الباهر لوجه ماجدة يتحرك وجع في القلب ليس كمثله ألم، خاصة إذا كان ذلك القلب قد أحبَّ كثيرات، فما بادلنه حباً ولا التفتن إليه، بل إنه ليذكر أنهن ترفعن عنه حتى لم يبادلنه أقل كلام، وقد كان ألم ذلك مبرحاً في الروح والأعماق ، إلآ أن شيئاً في داخلي، أنا الذي لم يتحول حب أي واحدة منهن فيَّ إلى حقد عليها،أو حتى إلى مجرد بغض هاديء خفيف، كان ينتفض ، هو شوقي القديم إلى كل حالة خاصة كنت أتعلق فيها بحب إحداهن، إلى أن كان وقوعي صيداً غفلاً محكوماً بارتباط مؤبد أو إلى حين. ولا يزال شوقي القديم ، حتى مع بلوغي من الكِبَرعِتِيّاً، بغلبني في حضرة أي وجه منهن، ولا أجد من تفسير لذلك إلا في كوني كنت دائماً ، وإلى الآن،أحب بصدق. ليستوي عندي الحبيب الأول بآخر من أحب.
.فآخ وألف آخ.. فإنني قد وقر في أعماقي حقاً أن جميع من أحببت، بجنون حقيقيٍّ ما أحبوني.ولا نظروا نحوي حتى بمجرد الإشفاق.وهم يبتعدون نحو أعالٍ فاتنة ، أو وهم إلى مهاوي مرذولة يسقطون.
*8*
والحقيقية ان مدير مدرسة طريق مريم فخر الدين الخاصة ، ذلك الطفل الحالم الكبير ، الذي سبقنا إلى وعي متطلبات مراهقته، قبل أن ندرك من ذلك شيئاً ، لم يعلِّمنا، بين دروسه ان أمور الجسد، أو القلب بتعبير مؤدب، لا يمكن أن تسبق ميقاتها. ، فساعة الجسد لا ينبغي لها أن تسبق مواعيدها، فالقلب كالشجرة التي إن كان لها أن تورق فبميقات محدود، وكان عشق مديرنا الخاص الذي أدرك الحُلُمَ في وقته الطبيعي، تجلّى إذ شُمَّ روائح العشق وقد تفتح بالألوان البهيجة بستانُ قلبه في إبانه، أيام كانت قلوبنا نحن ، لا تزال غضة في براعمها دون التَّفَـتُّـحٍ بقليل.
سلاماً شارع ماجدة، ويا وجهها الضاحك مثل وجه أي ملاك، ولو بعد سقوطه في أتون شياطين ملعونين.
سلاما شارع مريم التي كأنها رفعت إلى السماء ، حيث لم يعد لها ذكر بعد أن غيبت خلف ألف ستار.
سلاماً مدير مدرسة الطفولة الخاصة. رغم كل ما كان يطبع سلوكه من غرابة انكشفت بعد فضيحته شيخاً، عن أنه كان منذ صغره خَصِيّاً ، عاجزاً عن أية علاقة طبيعية بين نوعي بني الإنسان.

أحمد بنميمون
10/4/2015

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى