خليل الجيزاوي - وجع المحبة.. قصة قصيرة

في كلِ مرةٍ أعودُ للبلدِ، أقعدُ على الكنبةِ المُقابلةِ للبابِ الكبيرِ، ولم أَغسِلْ يدي بعد من تُرابِ السَفرِ، أجِدُهُ يَقِفُ وسط نَهرِ الشَارعِ، قريبًا من باب الدار الكبير يُنادِي: حمدًا لله ع السلامة يا خَال.
سنواتٌ طويلةٌ نتعاركُ ونتصالحُ؛ لكنني أُحبُهُ حُبًا كَبِيرًا.
وعندما سمعتُ الخبر الحزين بالتليفون المحمول سألتُ نَفسِي كَثيرًا:
هل المَحَبةُ تُوجِعُ إلي هذه الدَرَجةِ؟!
* * *
محمدُ العمدة الأخ الكبير لزميلي بالمَدرسةِ، كانَ يُراجِعُ لنا دُرُوسَ الإعداديةِ، سَريعًا نمت وتفرعت شَجرةُ المحبةِ بيننا وكبرت، حتى عرفَ أهلُ قريتنا، أننا لا نفترقُ طوالَ الإجازاتِ الصيفيةِ والشتويةِ، محمد العمدة يَشتمُ أخبارَ أصحابه مثل القططِ، وصاحب صاحبه جِدًا، وكالة أخبار مُتنقلة، ويَحفظُ الكثيرَ من قصائد الشعرِ العربي، اسمهُ محمدٌ، وأطلقنا عليه لقب العمدة؛ لأنه كانَ قَائِدًا لنا، يَحلُ جميعَ المشاكلِ التي كنا نقعُ فيها ونحن صغار.
* * *
عرفَ محمد العمدة أنني أكتبُ القصةَ القصيرةَ، وهو يكتبُ الشِعرَ أحيانًا، ويَحفظُ كلَ قَصَائدِ الشعرِ التي تغنت بها أم كلثوم، فراحَ يُؤكدُ لي أنني الثاني من قريتنا الذي يَكتبُ القصةَ، وعندما سَألته عن الأولِ، أجابني بسؤالِ الدهشةِ:
ــــــ كيف لا تعرفُ عبد العزيز نجم الدين تشيكوف القصة القصيرة ابن بلدنا؟!
ولما كنتُ أحبُ يوسف إدريس جِدًا، ويحلو لي أن أطلقَ عليه لقب: تشيكوف القصة القصيرة العربية.
غضبتُ جدًا، ورحتُ أقولُ مُؤكدًا له:
ــــــ لالالالا، قصة قصيرة يعني يوسف إدريس.
وتعاركنا كَثِيرًا وتخاصمنا كَثِيرًا في هذه الليلة، وتصالحنا بعدها ليالٍ كثيرة، لأنني أحبَهُ كَثيرًا جِدًا.
ولكن يبقى السؤالُ المُهِمُ: مَنْ عبد العزيز نجم الدين تشيكوف القصة القصيرة كما يزعمُ صَدِيقِي؟!
ولمّا كان محمد العمدة لا يزال غَاضِبًا مني؛ فقد كان كلامه عن عبد العزيز نجم الدين شَحِيحًا جدًا، وكنتُ كلما صفا الجو بيننا أسأله:
ــــــ هل عبد العزيز يَعملُ في مصر المدينة؟!
يُجيبُ وهو ينظرُ ناحيتي نَاصِحًا:
ــــــ ابحث عن كتبه وأنت تعرفه!
وكانت قريتنا لا تعرفُ إلا الكتاب الكريم وبعض كتب التفسير، ولم أعرفْ مكتبةَ المَدرسةِ إلا في الصفِ الأولِ الثانوي في المدينة عاصمة المحافظة؛ لأن مدرستي الابتدائية والإعدادية لم أجدْ بهما أيةَ مكتبة، صحيحٌ قرأتُ قصةَ ابن النيل للكاتبة جاذبية صدقي، وقد كانت مُقررةً علينا بالصفِ الأولِ الإعدادي، وقرأتُ الجزءَ الأول من رواية الأيام للدكتور طه حسين عندما كانت مُقررةً علينا بالصفِ الثالث الإعدادي؛ لكن في مكتبةِ المدرسة الثانوية قرأتُ عشرات الروايات، أول روايةَ قرأتُها كانت الشوارع الخلفية للكاتب عبد الرحمن الشرقاوي، وقصص همس الجنون ثم رواية اللصُ والكلابُ للكاتب نجيب محفوظ، وكتب وروايات مصطفى محمود، وعندما راحت تنمو وتكبرُ شجرةُ الألفةِ والمحبةِ بيني وبين الأستاذ أحمد فهمي أمين المكتبة، وشيئًا فشيئًا بدأ يَسمحُ لي بالترددِ علي المكتبةِ في الحصصِ التي يَغيبُ عنها المدرسون، وذاتَ يومٍ شتوي دافئ وأنا أقلِّبُ بين أرففِ المكتبةِ وجدتُ قِصصَ أرخص ليالي للدكتور يوسف إدريس، ومن سَاعتها وجدتني مَفتُونًا بعبقري القصة القصيرة يوسف إدريس، ورحتُ أسألُ أمينَ المكتبةِ عن قصصه ورواياته، فأرشدني إلي رواية الحرام؛ لكنها لم تُعجبني، كما فتنتي قصص أرخص ليالي، تمامًا كما لم تُعجبني قصصَ همس الجنون لنجيب محفوظ، ووجدتني مَفتُونًا بروايةِ اللص والكِلاب، ومن يومها أدركتُ أن نجيب محفوظ كاتب رواية من الدرجة الأولى، ودكتور يوسف إدريس كاتب قصة قصيرة من الدرجة الأولى.
وعرفتُ الأدبَ الروسي، فقرأتُ الكثيرَ من قصصِ تشيكوف مثل: قصة موت موظف، وقصة لمن أشكو كآبتي (الحُوذي)، ورواية نيقولاي غوغول الشهيرة المعطف، وكان يَحلُو لي طوال سنواتِ الدراسةِ بقسمِ اللغةِ العربيةِ بآدابِ عين شمس أن أرددَ: إن يوسف إدريس هو تشيكوف القصة القصيرة العربية بامتياز، خَاصَةً بعدما حضرتُ ندوةً له في معرضِ القاهرةِ الدولي للكتابِ، وكان وقتها يُعقد بأرضِ الجَزِيرةِ (الأوبرا حَاليًا) وسَألتُهُ سُؤالا مُباشِرًا بَعدَ النَدوةِ:
ــــــ كيفَ تكتبُ القصةَ القصيرةَ يا أستاذ؟!
وجدتَهُ يُفكِّرُ وهو يَنظرُ نَاحِيتِي، ثم أجابَ وهو يُشيرُ إلي رأسِهِ بإصبعِ الإبهامِ:
ــــ أنا لا أكتبُ القصةَ؛ لكن فيه واحد قاعد في دماغي يُملي عليّ وأنا أكتبُ وراءَهُ.
وطوال سنوات الدراسة بالجامعة بحثتُ عن قصصِ عبد العزيز نجم الدين (تشيكوف القصة القصيرة ابن قريتنا) كما يُؤكدُ محمد العمدة، فلم أجد كتبه بمكتبات شارع الفجالة أو في سوق الكتب القديمة بسور الأزبكية وسط القاهرة.
وذات صيفٍ لطيفٍ سَافرتُ لزيارة قريتي، وبعدَ صلاةِ العصرِ بالجامعِ الكبيرِ، وجدتُ يدًا حَانِيةً رَبتَتْ كَتفِي، وعندما التفتُ نَاحِيةَ صاحبَ اليدِ، وَجدتُ محمد العمدة الذي همسَ لي وأنا أعانقُهُ: عاوزك بعدَ الصلاةِ.
وبعدَ خَتمِ الصلاةِ انشغلتُ بالسلامِ علي عددٍ كبيرٍ من الأصحاب ـــــ لأنني أعيشُ في مصر المدينة ولا أزورُ قريتي إلا كل عدة شهر ــــــ ودومًا يكثرُ السلامَ والتحيةَ عقبَ صَلاةِ العَصرِ أو العشاءِ بالجامعِ الكبيرِ، والجامعُ الكبيرُ دَومًا هو مُلتقَى الأصحابِ والأهل والأحباب بعدَ العودةِ من السفرِ خاصةً بَعدَ صَلاةِ الجُمعةِ.
عندما هممتُ بالخروج من بابِ الجَامعِ الكَبيرِ وجدتُه بانتظاري وسط نهر الشارعِ، سَلمتُ عليه وعانقتُهُ مرةً ثانيةً كما يليقُ بصديقٍ عزيزٍ، مشيتُ معه وتكلمنا في موضُوعاتٍ كثيرةٍ، واختلفت الرؤى كعادتي معه دَومًا، لكن والله يشهدُ أنه أعز صديق لي بالقرية، وانشغلتُ بالحوارِ والاتفاقِ والاختلافِ معه حول القضايا الخلافية في السياسةِ، وكانَ من الطبيعي عندما يُحتدُ النقاشُ بيننا أن يقفَ محمدُ العمدة وسط نهرِ الشارعِ يُدافعُ عن وجهة نظرِهِ وبِصَوتٍ عَالٍ.
ساعتها فقط كنتُ أوافقُهُ الرأيَ، وأهزُ رَأْسِي مُؤمِنًا، وبِصَوْتٍ عَالٍ أيْضًا:
ــــــ خلاص يا خال أنت صح.
وكان يَفرحُ ويَطربُ كثيرًا عندما أناديه: يا خال.
ساعتها أرى ضحكته العذبة وهو يقولُ:
ــــــ يلا قِرّْ واعترف أنني صح ورأى دَومًا هو الصواب.
وأراني أقتربُ منه وأحضنُهُ وأقبلُ رأسَهُ ثم يعلو صَوتِي ضَاحِكًا:
ـــ أبوس راسك حقك عليّ، الناس تبصُّ علينا، يلا نكملُ المشي.
فأراهُ يَحرنُ مرةً أخرى كفرسٍ عربي أصيل ويدبُّ رجليّه علي الأرضِ قَائلا:
ــــــ ناس مين يا خال، هو إحنا نسرقُ؟!
وكالعادة نَسِيتُ أن أسألَهُ: هو كان عاوزني في إيه؟!
واعتادَ الناسُ طوالَ الإجازةِ بالقريةِ أن يرونني دومًا بصحبةِ محمد العمدة، كأننا من الحواريين ألفُ معه الشارعَ الكبيرَ الدائري الذي تتفرعُ منه شوارع قريتنا، وهو عندي بمثابة الأخ الكبير؛ لأنه يكبرني بخمسِ سنواتٍ.
وحدثَ ذاتَ ليلة صيف رائقة، أن تقابلت معه بعد صلاة العشاء، ورحنا نتناقشُ ونتحاورُ معًا، نتفقُ ونختلفُ، يَهمُّ بِضَربي، وأنا أفرُّ هَاربًا من أمامه ضَاحِكًا، ونتصالحُ أو أضطرُ لموافقة رأيه حتى تمرَّ الليلة علي خير، ويتركني أعودُ لأنام؛ لكن هذه الليلة بالذات وجدتُ نَفسِي أُعَاندُهُ وأُصَمِمُ علي رأي بالرفضِ، وكأنني أُعلنُ له وبصوتٍ عالٍ، أنني كبرتُ ومن الواجبِ أن يقتنعَ هو بوجهة نظري من الآن؛ ولكن محمد العمدة لم يُسَـلِّمْ أبدًا أو يُوافقني الرأي أو يقتنعُ بوجهة نظري، وراحَ يُدافعُ عن وجهةِ نظرهِ قَائِلا:
ـــ إن الرئيس السادات كان علي حق عندما وقع اتفاقية كامب ديفيد وتصالح مع اليهود.
لكني دافعتُ بقوةٍ عن وجهة نظري، ككاتب قومي عروبي يكتبُ القصةَ القصيرةَ والروايةَ، ويُحبُّ عبد الناصر قائلا:
ــــــ إن ما فعله السادات يُعدُّ خيانةً تاريخيةً؛ لكل ما عاشَ وحاربَ من أجلِهِ الزعيمُ جمالُ عبد الناصر.
احتدمَ النقاشُ سَاخنًا بيننا، وساعة الوقت تَجرِي، والليل يَسرِي، ونحن نَسِيرُ في الشَارعِ الكَبيرِ، فجأةً سَمعنا ميكرفون الجَامع الكَبير يُرددُ أذانَ الفجرِ، ثم راحَ يَقولُ بِصَوتٍ عَالٍ يَملأ الفضَاءَ الوَسِيعَ: الصَلاةُ خَيرٌ من النَومِ!
ساعتها وقعنا علي الأرضِ في وصلةٍ من الضحكِ الهستيري قائلين مَعًا وبِصَوتٍ عَالٍ:
ـــ والله يا عم الشيخ لا نمنا ولا ذقنا طعمَ النومِ!
ووجدنا أنفسنا نشدُ الأرجلَ المُتعبةَ من آخرِ القريةِ إلي الجَامعِ الكبيرِ حتى نُلبيّ صَوتَ الأذانِ ونُصلي الفَجرَ، وبعدَ الصَلاةِ وجدتني أقفُ صَارخًا في وجه محمد العمدة قَائِلا:
ـــ ولا كلمة مرة ثانية، أنا راجع البيت لأنام، وبعد العصرِ أسافرُ مصر المحروسة.
وتركته يقفُ وحيدًا وسط نهرِ الشَارعِ، وأنا أرددُ مُزمجرًا وغاضبا بِصَوتٍ عَالٍ:
ــــــ لعنَةُ الله على كلمة السياسة وكل مشتقات الفعل: ساس، يسوس، .....
وبعد عدة خطوات تذكرتُ أنني نسيتُ أن أسأله عن عبد العزيز نجم الدين: هل هو من قريتنا أصلا؟ وأين يعيشُ؟!
وهل هو شخصية حقيقية أم شخصية وهمية من نسيجِ خياله الواسع؟! وأن محمد العمدة أراد فقط أن يُوجهني للبحثِ والقراءةِ عن شيءٍ غير موجود أصلا، حتى أعرفَ كلَ الأدباءِ الذين يكتبون القصةَ القصيرة والروايةَ.
* * *
بعد عودتي من البلدِ بأسبوعٍ واحدٍ، رنَّ تليفوني المَحمُول في الصَباحِ الباكرِ ــــــ ودومًا يَنقَبِضُ قَلبِي ويَضِيقُ صَدري من تليفونِ الفجرِ أو الصباحِ الباكرِ ـــــ وسَمِعتُ صَوتًا حَزِينًا يَجْهَشُ بَاكِيًا: محمد العمدة تركَ لك العمر الطويل.
صَرختُ مَفزُوعًا: كيفَ؟ ولمَاذا؟ لم يَكن مَرِيضًا؟ وواصلَ صَوتُ التليفون بَاكِيًا: البقاء لله، الله يرحمُهُ ويَغفرُ له.
أجلسُ على الأرضِ بَاكيًا أرددُ بصوتٍ عالٍ:
لا يا خال، لا يزال بيننا كلامٌ كثيرٌ، لن أختلفَ معك مرةً ثانيةً، نعم أُقِرُّ وأعترفُ الآن أن كُلَّ كلامك كانَ صَحِيحًا ورأيكَ دَومًا هو الصَواب، معَ السَلامةِ يا خال، يا وَجَعَ المَحَبةِ من بَعدك يا خال.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى